يكثرُ الحديث في بلادنا عن دول الخارج (الغرب) لتفسير ما يجري من حروب وقلاقل وجوع. هناك جدال حول ما إذا كانت جروحنا من صنع أيدينا أم أنها من صنع الخارج. أدبيّات «النقد الذاتي بعد الهزيمة» بعد عام 1967 تلاقت مع الاستشراق الغربي والصهيوني الذي يرى العيب، كل العيب، في ثقافة ودين و«عقل» العرب. وصعود الحقبة السعوديّة السياسيّة، واستضافة الليبراليّة العربيّة في مضارب شيوخ وأمراء التطبيع في الخليج، زادا من منسوب حجّة رفض نظريّة المؤامرة. طبعاً، كان منطق هؤلاء ضروريّاً لأن إعلام الخليج هو جزء من المؤامرة وتنسّق دائرة الدعاية في وزارة الخارجيّة الأميركية (ومن خلال المكتب الإعلامي الأميركي في دبي) مع إعلام الخليج وذلك من أجل تشكيل ثقافة سياسيّة أقل رفضاً للصهيونيّة وأشدّ عداءً لإيران والمقاومات. وعمل هؤلاء كان ناجحاً إلى حدّ كبير خصوصاً في ظل غياب إعلام مقاوِم مؤثِّر. والجدال دخل في النقاش الأكاديمي في الغرب: هناك ترحيب ومكافأة للغربي من أصل عربي إذا ما هو ذمَّ العرب وثقافتهم وحمّلهم المسؤوليّة عمّا يجري في بلادنا من دمار وحروب. هل ننسى أن فؤاد عجمي نال «وسام الإنسانيّات الوطني» من جورج بوش الابن في البيت الأبيض؟ هل هناك من يظنّ أن التقدير كان مكافأة له على إنجازات أكاديميّة مثلاً؟ لا، هذه مكافأة لرجل عملَ من أوّل كتاب له («المحنة العربيّة») على تبرئة الغرب من المسؤولية عن الأزمات والصراعات في العالم العربي. ديك تشيني حضّر الشعب الأميركي للحرب على العراق في عام 2002 عبر الاستشهاد بعجمي، الذي طمأن الإدارة بأن الشعب العراقي سيستقبل الغزو الأميركي بالترحاب. وفي سنواته الأخيرة لم يكن عجمي يجد حرجاً في الحديث عن «ثقافة الإرهاب» عند العرب. والغرب يستثمر في نشر فكرة المسؤولية العربيّة الشعبيّة عن جرائم الغرب. كل منظمات «الإن جي أوز» هي استثمار غربي في فكرة أن العرب هم المسؤولون عن الويلات والقتل في منطقتهم. تستطيع منظمة ترصد قتل العرب على يد العرب («جرائم الشرف» مثلاً) أن تتلقّى تمويلاً سخيّاً من الغرب، لكنّ منظمة عربيّة ترصد القتل الصهيوني أو الأميركي للعرب تُحظَّر في الغرب وتوضع على قائمة العقوبات وتُتهم بمعاداة السامية.
(جون دبليو توماك)

هناك محاذير في تناول موضوع مسؤوليّة العرب والغربيّين—ومسؤولية إسرائيل هي مسؤوليّة مترادفة لمسؤوليّة الغرب الذي زرعها في أرض فلسطين لأكثر من سبب. لو أننا نسبنا كل الويلات العربيّة إلى الغرب والاستعمار لكنّا برّأنا بالفعل طغاة العرب وفاسدي العرب من المسؤولية. ونجد هذه الإشكاليّة في لبنان حاليّاً. هناك من يصرّ أن الأزمة في لبنان هي من صنع أميركا وحصارها لكن هذا التحليل يبرّئ الفاسدين وأصحاب المصارف (نجد أثراً لذلك في خطب نصرالله الذي يتهم أميركا بمنع أصحاب المصارف من تحويل الودائع إلى لبنان كأنّ هناك بالفعل ودائع متبقّية، وكأنّ أصحاب المصارف ذوو نيّات حسنة تصطدم بالصلف الأميركي). وهناك من ينفي أي دور للخارج الغربي عبر سيطرته على معظم الطبقة الحاكمة وحتى على إمساكه بخناق خصومه (إذا كانوا بالفعل خصوماً) من الأثرياء في صفّ حلفاء المقاومة. وهناك من يقبل بنظرية المؤامرة فقط إذا كانت على يد «الاحتلال الإيراني» والسفير الإيراني الذي لا يعرف اسمه أحد من الناس. نعلم أن السفيرة الأميركية تصدر أوامرها لأمثال ميقاتي وبرّي والسنيورة وبو صعب وبو حبيب وجنبلاط والجميّل وغيرهم، ولا يمكن أن نتصوّر أن يجرؤ السفير الإيراني (ما اسمه بالمناسبة؟) على تقديم طلب من نصرالله لاتخاذ موقف ما. لكنّ الإمعان في النظر إلى المؤامرة الغربيّة على حساب النظر في مسؤولية الطبقة الرأسمالية الحاكمة يفيد الطبقة الحاكمة حتى في عناصرها المتحالفين مع أميركا والخليج مباشرة.
تجول بأنظارك في المشرق العربي، ولا ترى إلا الأرض اليباب. العراق مدمّر، دولةً ومجتمعاً. كان في العراق دولة في السبعينيّات وكانت ظالمة وقمعيّة لكن قامت بعملية تنمية في البلاد وحقّقت نجاحاً عالميّاً (زهت به الأمم المتحدة أكثر من مرّة) في مجال مكافحة الأميّة. جالت كريستين هلمز، الخبيرة الأميركيّة، في أنحاء مختلفة من العراق وكتبت عن العراق في السبعينيّات وقالت لي إن عدداً من العراقيّين مات في القرى بسبب كهربة البلاد ولم يكن بعضهم قد عرف الكهرباء من قبل. وكان النظام العراقي يبني دولة (وحشيّة في قمعها) وجيشاً حديثاً لكن بحلول عام 1981 تنبّهت دولة العدوّ إلى صعود القوة العراقية وضربت المفاعل النووي وشنّت حملة ضد العلماء الذين ساهموا في البرنامج العراقي. وصدّام نفسه وقع في الفخّ الذي نصبه أعداء العراق مترافقاً مع مرض جنون العظمة الذي عانى منه في سنّ مبكرة. ظنّ أن إيران بعد الثورة أصبحت يانعة له فحقّق فرصة ذهبية للغرب وإسرائيل والخليج لإشغال العراق وإيران في حرب وحشيّة مدمّرة، وهو الذي كان يخشى الصدام مع الشاه الاستعماري، الذي كان حليفاً وثيقاً لإسرائيل وكانت أميركا تلزّم له أدوار قمع وقتل في المنطقة، بما فيها لبنان منذ عام 1958. أميركا تركت العراق لكنها تركته مثخناً بالجراح ومنهكاً على نطاق واسع. كان أصدقاؤنا من العراق يقولون لنا في السبعينيّات إن العراق لم يُصب أبداً بلوثة الطائفيّة والمذهبية التي عانى ويعاني منها لبنان. ومثل المجتمع الفلسطيني في تلك الفترة، لم يكن هناك أي تمييز بين مسلم ومسيحي والحديث عن طائفيّة النظام (كتب عامر محسن في ذلك من قبل) مبالغ فيه إذ إن قمع النظام لم يميّز بين معارض مسلم سني أو مسلم شيعي (نفس الشيء بالنسبة إلى النظام البعثي السوري حيث عانى العلويّون في «رابطة العمل الشيوعي» من بطش النظام ربما أكثر من معارضات أخرى، لكنّ طائفية النظام السوري الذي أسّسه حافظ الأسد تختلف عن طبيعة النظام العراقي في ضيق قاعدة حكمه).
النظام الذي أسّسه حافظ الأسد أمعن في الاعتماد على قاعدة طائفيّة، وفصّلها حنا بطاطو في كتاباته عن زمن حافظ الأسد


أميركا صمّمت لتقسيم العراق إلى أقاليم وإلى طوائف ومذاهب قبل أن تغزو العراق. الخطة كانت موضوعة على الورق وكانت هناك اجتماعات وأحاديث مع معارضة أحمد الجلبي وأمثاله حول الاستعانة بالمثال اللبناني لطمأنة الشيعة في العراق. أميركا خطّطت لترسيخ الاحتلال الأميركي عبر تعزيز النعرة الطائفيّة الشيعيّة لمنع بلورة معارضة وطنيّة عراقيّة ضد الاحتلال. وقد ساهم في المشروع الأميركي كل الذين وقعوا في حبائل الرؤية الطائفيّة والمذهبية بمن فيهم المرجعية في النجف. العراق تحوّل من المركز للقوميّة العربيّة بعد عبد الناصر (العراق كان قلب العروبة النابض وليس النظام البعثي السوري) إلى أكثر بلد عربي مشتّت ومفتّت. تفتيت وتشتيت العراق ومشروع الفتنة الطائفيّة-المذهبيّة أراحت إسرائيل لأنها كانت ستزيل عنها هذا البلد القوي الذي يحكمه نظام يبني قوّة مسلّحة—وإن خسرها صدّام في حرب 1991. كلّ شيء كان مُعدّاً وإعلام آل سعود قام بدوره. فقط في سنواته الأخيرة اعترف سعود الفيصل كيف أن نظامه ساند الغزو الأميركي للعراق، مع أن الحكومة السعوديّة آنذاك تصرّفت على أنها غير معنية بالغزو. النظام الإيراني لم يكن يدري حجم الشرور التي جلبها المستعمر الغربي معه وربما هو انتشى، من دون حكمة وتبصّر، بصعود حركات طائفيّة شيعيّة يقود معظمها أعوان الاحتلال الأميركي، من مدنيّين وفقهاء.
تركت أميركا العراق لكن فقط بالاسم. هي أشرفت على جعل الإقليم الكردستاني مركزاً لـ«الموساد» والمخابرات الأميركيّة للانطلاق في عمليّات ضد العراق وما بعده. تأخرت إيران في إدراك أبعاد السكوت عن تواجد «الموساد» في شمال العراق. والثقافة السياسيّة في العراق مدجّنة، مثلها مثل كل بلد عرض للبروباغاندا السعوديّة والأميركيّة (المحطات التي يشاهدها الشعب العراقي بأكثره هي «الحرّة» و«العربيّة» ومحطات محليّة طائفيّة الطابع). جهد الشعب العراقي لتشكيل هويّة وطنيّة له بعد الحرب العالميّة الأولى لكنه لم يكتف بل هو طمح إلى هويّة تتعدّى حدود العراق. الأميركي أراد حصر الهويّة العراقيّة بالمحلّة أو الحيّ الذي يسكن فيه المرء. هذا طبعاً تعطيل لتشكيل قوّة وطنيّة يمكن أن تزعج أميركا أو حليفتها إسرائيل. كل المشروع القومي العراقي تبخّرَ وحتى البعثيّة العراقيّة (وقبل الغزو) تحوّلت إلى هجين شبه شوفيني وشبه طائفي. أميركا لا تزال تقيم في قواعد في العراق وهي لا تريد له أن ينهض وستمنع ذلك. النظام السياسي الذي شكّلته (برعاية من المرجعيّة) يرسّخ تقسيم العراق على طريقة مشروع تقسيم العراق الذي كتبها جو بايدن (مع ليزلي غلب) في «نيويورك تايمز» في عام 2006 (والذي كتب القسم الذي كتبه بايدن لم يكن إلا مستشاره في الشؤون الخارجيّة آنذاك، أنتوني بلينكن).
سوريا ليست في أحسن حال. البعثيّة القوميّة هي الأخرى تحوّلت إلى وطنيّة سورية تتأرجح بين المشرقية حيناً وبين شوفينيّة تستنجد بالتاريخ السحيق. والنظام الذي أسّسه حافظ الأسد أمعن في الاعتماد على قاعدة طائفيّة، وفصّلها حنا بطاطو في كتاباته عن زمن حافظ الأسد (قد يكون بشار الأسد قد حادَ بعض الشيء عن الاعتماد على القاعدة الطائفية لكن ذلك تأخر لأن الحروب الذي انتشرت في سوريا فرضت صراعات طائفيّة لأن أجندة الخارج فيها—الخليج ودول الغرب—أصرّت على تفتيت أي هويّة غير الهويّة الطائفيّة). المشروع الغربي-الإسرائيلي ذكي في استهدافه لأي فكر قومي جامع. طبعاً، النظام السوري بأفعاله وقمعه وممارساته جعله هدفاً سهلاً لأصحاب المؤامرة. والاعتماد على حركات دينيّة لردّ الهجمة الخليجيّة-الغربيّة صعب إن لم يكن مستحيلاً: لا بل هو—بطريقة جدليّة—يفيد مقولات وحجج الخصم. لم يلتفت حزب الله في تدخله في سوريا إلى أهميّة الردّ على الهجمة الطائفيّة للمشروع الخارجي، وقد ساعده من دون أن يدري وأصبحت هتافات طائفيّة من قبل مقاتلين في الحزب مادة في بروباغاندا الأنظمة الخليجيّة والغربيّة. شدّ العصب الطائفي من أجل رصّ صفوف المقاتلين قصير النظر والمدى وهو—على المدى الطويل—يعزل المقاتلين في مجتمعاتهم كما جرى ويجري في لبنان الصغير. سوريا لن تعود لأن أميركا تمنعها من العودة. كل البيانات التي تصدر من واشنطن عن سوريا (وآخرها من الصهيونيّة التي تشغل منصب مساعدة وزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى في شهادة أمام الكونغرس) تشدّد وبصريح العبارة أن الحكومة الأميركيّة لا تزال تمنع إعادة بناء سوريا. تخيّل أن دولة عظمى تتشدّق كذِباً بالإنسانيّة وحقوق الإنسان تزهو بأنها تفرض عقوبات وحشيّة على الشعب السوري وأنها ستمنع بالقوّة أي محاولة لبناء المنازل والمستشفيات والمدارس والمصانع. إن منع سوريا من البناء هو باعتراف أميركا نفسها جزء من المشروع الذي بدأ بالتدمير الممنهج ولم ينته بعد بالخراب والإفقار اللذين يعمّان سوريا اليوم. جريدة «الشرق الأوسط» تهزج بصورة شبه يوميّة أن الشعب السوري يعاني من الجوع والعطش والقحط وارتفاع الأسعار. المشروع مُعدّ كي يُزهَى به في إعلام المؤامرة، بالعربية واللغات الأجنبيّة. المجتمع في سوريا بات منقسماً على ذاته أكثر من أي وقت مضى. صحيح، إن بناء البعث في سوريا على أسس طائفيّة ساهم في تقسيم النسيج الاجتماعي، لكنّ حركات المعارضة (قبل الحرب) مثل «الإخوان المسلمين» ومنذ أواخر السبعينيّات ضخّت فكراً وممارسة طائفيّتين (وكانت تلك الأجندة مدعومة من اليمين اللبناني والعربي ومن دول الغرب بحسابات إسرائيليّة). هل صدفة أن سوريا والعراق كانا همّاً كبيراً لإسرائيل وقبل أن تطلع إسرائيل بمقولة إن إيران تشكّل أكبر خطر عالمي منذ هتلر؟ ما العلاقة بين أخطار تخترعها إسرائيل (أو هي حقيقيّة بالنسبة إليها ثم تقنع الغرب والكثير من العرب بها) عن بلدان معيّنة وبين إفقار مجتمعات تلك البلدان عينها؟

لم يلتفت حزب الله في تدخله في سوريا إلى أهميّة الردّ على الهجمة الطائفيّة للمشروع الخارجي، وقد ساعده من دون أن يدري


وفلسطين ولبنان ليسا بعيديْن عن خطط المؤامرة الكبرى. والعناصر التي تعتمدها دول الغرب هي عينها في تلك البلدان:
أولاً، خلق ما يسمّيه الغرب بـ«الإعلام المستقلّ»، هو إعلام مدعوم ماليّاً بأكثر من تمويل الإعلام المحليّ. الإعلام يكون مستقلاً عندما تشرف دول الغرب عليه ووفق أجندة محدّدة تعارض الهويّة القوميّة وتشجّع الهويّات الصغرى المجزّأَة. والإعلام الجديد يستطيع أن ينتقد إسرائيل بحدود نقد وزارات الخارجيّة الأوروبيّة أو بلسان منظمات صهيونيّة ليبراليّة على أن يلتزم الجميع بنبذ الكفاح المسلّح مع الميْل إلى تفضيل مشروع السلام السعودي والحوار بين الأديان—وهذا الاسم الكودي للتطبيع. وفؤاد مخزومي سوّغ مشاركته في مؤتمر تطبيعي في المغرب بحجّة الحوار بين الأديان. الغريب أن أمثال مخزومي يطيرون إلى المغرب للتحاور مع «الأديان» وهم لا يتحاورون مع الأديان في بلادهم. الملك عبدالله السعودي أسّس مركزاً للحوار بين الأديان وإسرائيل في فيينا فيما الحكومة السعوديّة ترفض وجود أديان غير الوهابية في داخل السعوديّة. والإعلام «المستقلّ» هو طريقة لجذب خرّيجي الجامعات والمدارس الخاصّة لتشكيل وعي جديد. وهذا ينجح لأن مهمة الإعلام الجديد هو التوجّه نحو العقول الرخوة غير المتشكّلة بين الشبيبة. هؤلاء هم الذين يضعون معايير تُرفض على أساسها أي إشارة إلى الإسرائيلي باليهودي فيما تروّج نفس تلك الأبواق لتحريض ضد طوائف بحالها (مثل الدروز والعلويّين والشيعة والمسيحيّين في بعض الأحيان).
ثانياً، ضخّ الفكر التقسيمي الانشطاري. والسخرية من القومية العربيّة سمة من سمات الفكر العربي الحديث—المموّل من الغرب والخليج. الطريف أن هؤلاء يعتبرون أن القومية العربيّة فكرة عقيمة ولّى زمانها لكن يهتف هؤلاء لهويّات القبيلة والعشيرة باسم العروبة حيناً وباسم حق الكرد حيناً آخر (مناصرة البارزانيّة عند هؤلاء تتقاطع مع الأجندة الإسرائيليّة المتحالفة مع البارزانيّة).
ثالثاً، خلق منظمات مدنيّة تسيطر على الخطاب السياسي الحديث. خسرت الأحزاب السياسيّة القديمة والجديدة المعركة وأصبح الخطاب السائد عند الشباب هو خطاب ما ترتئيه دول التمويل الغربي من قضايا تهتم لشقّ صفوف العرب ورفض جمعهم بحجّة أن ذلك يتساوى مع البعثيّة (هل يعلم القراء أن أميركا وأعوانها في العراق لا يزالون يمنعون تحت طائلة السجن التعبير عن الفكر البعثي؟ تستطيع في العراق أن تنادي بعودة الاحتلال والاستعمار الغربي لكنّ الهتاف للبعث عقوبته السجن. ونفس الشيء في دول أخرى: الدعوة للقوميّة العربيّة—الحقّة وليس العروبة المتحالفة مع إسرائيل في الرياض وأبو ظبي ودبي—ممنوعة والدعوة للصهيونيّة مسموحة). في فلسطين التي كانت من أكثر المجتمعات العربيّة إصراراً على الوحدة والقوميّة، تشرذمت قوى الصف وانفصلت غزة عن الضفة (الفصل لم يكن من صنع وتنفيذ العدوّ فقط بل كان من تنفيذ عصابة السرقة والفساد والتنسيق الأمني في رام الله—بطل التنسيق الأمني في رام الله، حسين الشيخ، هو الآن الخليفة الرسمي لمحمود عبّاس).
رابعاً، دعم حركات دينيّة متطرّفة لصرف أنظار العرب عن فلسطين. كانت المخيّمات الفلسطينيّة تعجّ بمنافسات حول أنجع الطرق لتحرير فلسطين فيما هي اليوم تحتضن حركات تتنافس في إبداء الكراهية للشيعة والمسيحيّين. هذه لم تأتِ من عدم بل هي نتيجة سياسات محدّدة وضعتها دول الغرب. وتقسيم فلسطين، للمرّة الثانية، كان لأن إدارة بوش لم تستطع أن تضع كل أراضي 1967 تحت إدارة حركة «فتح» المتعاونة مع الاحتلال.
أعيش في أميركا منذ الثمانينيّات: أدرسُ الحكم وأدرّس الحكم وسيناريوهات المؤامرة أعلاه ليست تخميناً بقدر ما هي تصوير حقيقي لواقع لا تنفيه الحكومة في كل بنوده. عندما تجاهر الحكومة الأميركيّة بإصرارها على تجويع الشعب السوري ومنعه من إعادة إعمار منازله هي تكون تعلن عن طبيعة المؤامرة. وجلب الغاز إلى لبنان لا يزال ينتظر الإذن الأميركي، كما أوضح—وبخجل شديد—وليد فيّاض. والتعاون بين العراق والجار الإيراني لا يمكن أن يمرّ من دون إذن أميركا خاص للامتثال بالعقوبات. والقطاع المصرفي اللبناني هو الذي اجترح مصطلح «الامتثال» في إشارة إلى التزامه الحديدي بأوامر وزارة الخزانة الأميركيّة—ثم يحدّثونك عن احتلال إيراني قاد البلاد نحو التهلكة.
تنظر إسرائيل حولها وترى مجتمعات مدمّرة. الدول العربيّة إمّا هي مطبّعة ومتحالفة معها وراضخة لأجندتها، أو هي رافضة—بدرجات متفاوتة—ومُعرّضة لمؤامرات تفتيت وتهديم. إيران بعيدة والمجتمع هناك لا يزال متماسكاً، ولهذا فإن «الموساد» يعلن عن وجوده في طهران بالاغتيال كي يحذّر إيران من عواقب مسلك دعم المقاومات. أمام شعوب المنطقة مسؤوليّات جمّة للنهوض لكنّ التحدّي الأكبر يكمن في أن هناك من يتربّص بك ليمنعك من النهوض.
* كاتب عربي ــــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@