يبدو أنّ وزير الخارجية الأميركي جون كيري جاء ليدفن أحلام رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بتشكيل وقيادة حكومة «غالبية سياسية». هذه الحكومة كما رصدناها تحليلياً في مناسبة سابقة ليست إلا حكومة محاصصة طائفية ضيّقة، تتحقق باستبعاد عدد من الأطراف المشاركة في الحكومة الحالية كعقوبة لتلك الأطراف.
والواقع فإن نهاية خيار «حكومة الغالبية السياسية» ليست من إنجازات كيري أبداً، بل من إفرازات التمرد العسكري الخطير الذي بدأ بسقوط الموصل وتكريت بيد داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) فلا يمكن للمالكي ولا لغيره من داخل العملية السياسية الآن أن يحسم الوضع على الأرض وينهي التمرد المسلح بسرعة إلا بتوحيد القوى السياسية للعملية السياسية الطائفية، والعودة إلى صيغة ما سمي زوراً «حكومة الشراكة الوطنية» مضاف إليها بعض «البهارات الإنشائية التي يوجبها الوضع الأمني حالياً كالقول بأنّها حكومة انقاذ وطني أو حكومة صمود وتحرير وما إلى ذلك.
المهمة الحقيقية لكيري في بغداد كانت تطبيق خيار «حكومة مشاركة طائفية واسعة مع بعض الامتيازات الإضافية لممثلي العرب السنة» بهدف إنقاذ العملية السياسية برمتها عن طريق الابتزاز والترغيب والترهيب ويبدو أنه وضع المالكي أمام المعادلة التالية: تشكيل هذه الحكومة بمشاركة الجميع وبشروط أميركية معينة مقابل أن تقوم واشنطن بدور عسكري أميركي داعم لها في مواجهة داعش وحلفائها في الميدان وإما أن تستمر في مواجهة التمرد المسلح وأنت شبه أعزل!
هذا الخيار أو الدور الأميركي يهدف كما قلنا إلى إنقاذ العملية السياسية الطائفية ككل في العراق، ولكنه يهدف أيضاً إلى تكريس خطوط فعلية لتقسيم العراق وفق خطة «بايدن» حتى إذا تمت هزيمة التمرد المسلح الحالي، وهو خيار لا نتوقع أن يرفضه المالكي إذا ضمنت له واشنطن البقاء في منصبه، أو كحد أدنى استبداله بأحد قياديي «دولة القانون»، وثمة اسمان مرشحان لهذا الدور كما تقول التسريبات، وهما فالح الفياض وطارق النجم.

الحلول المطروحة
لأزمة البلاد الراهنة قليلة وغامضة ومتداخلة

معنى ذلك أن معركة الدفاع عن وحدة العراق طويلة، بل هي في حقيقة الأمر لم تبدأ بعد، وكما ينبغي لها أن تبدأ، فهذه الصفحة من الصراعات والتمردات المسلحة لا علاقة لها بوحدة العراق أو أي أهداف وطنية ديمقراطية، بل هي ذات علاقة مباشرة بوحدة كل طائفة على حدة، وبأهداف هذه الطائفة أو تلك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في مواجهة الطوائف الأخرى!
من ناحية أخرى، فإن طلب المالكي من أوباما توجيه ضربات جوية إلى أهداف داعش وحلفائه في الموصل وتكريت لا معنى له ولا مردوداً عسكرياً، إنما سيعقّد الأمور عسكرياً وسياسياً واجتماعياً ويلحق الضرر بوحدة العراق المهددة بقوة. لنتذكر أن القوات الجوية السورية ذات الخبرة والمراس والعدد الكبير من الطيارين والطائرات لم تحسم المعارك ضد التمرد المسلح بعد ثلاث سنوات من القتال. ربما تكون عرقلت سقوط النظام، نعم، ولكنها لم تحسم الحرب. أما تردد أوباما في الموافقة على هذا الطلب وتقديمه قدماً وتأخيره أخرى، فيشير بوضوح إلى أنه يريد ثمناً باهظاً من المالكي قد يُكشف عنه لاحقاً. ولكن، بعد أن نُفي خبر إعادة إيران للطائرات الحربية العراقية الـ130 التي لجأت إليها في عهد النظام السابق، إلى العراق، ولجوء الأخير لشراء عشرات الطائرات الحربية المستعملة من روسيا وروسيا البيضاء من طراز سوخوي 25 ذات الإمكانات والمواصفات الجيدة، وبعد وصول الوجبة الأولى منها فعلاً، يكون العراق قد وضع القدم الأولى على عتبة الاستغناء الفعلي عن الدعم العسكري الأميركي. لقد كان المالكي واضحاً جداً حين اتهم واشنطن قبل أيام قليلة بأنها خدعت العراق في موضوع تسليح وتدريب الجيش. وهذا الخداع ليس جديداً فقد صرح به نائب أمين لجنة الأمن والدفاع العراقية اسكندر وتوت الذي أعلن قبل ثلاثة أشهر من الآن وقال: «إن طائرات الهيلكوبتر السبعين التي جهزتها الولايات المتحدة الأميركية وفقاً لبرنامج التسليح المشترك (FMS)، واشتراها العراق على دفعات منذ نهاية عام 2006، وحتى العام الماضي هي طائرات فاشلة من الناحية الفنية والناحية العسكرية، لأنها هذه الانواع من الطائرات في الأساس لم تكن مخصصة للقتال، ودعم القطاعات البرية على الأرض». هذا عن الطائرات التي وصلت وظهر أنها فاشلة فماذا عن طائرات الأف 16 وعددها 36 طائرة والتي دفع العراق ثمنها مقدماً، ولماذا لم تسلم حتى الآن؟ لقد قيل إن أوباما رفض تسليم هذه الطائرات لكي لا تستخدم ضد العرب السنة، فهل معنى ذلك أن العرب السنة هم داعش؟ أم أن ذلك يعني أن الجيش العراقي الذي سيستعمل الطائرات هو جيش الطائفة الواحدة، أو هو «جيش المالكي» كما تكرر قناة «الجزيرة»؟ وإذا كان هذا الجيش هو كذلك فعلاً، فلماذا ارتضت الإدارة الأميركية أن توافق على الصفقة أصلاً مع حكم طائفي وجيش طائفي وتقبض ثمنها منه سلفاً؟
الواقع، هو أن الولايات المتحدة هي التي صممت هذا النظام الطائفي المحاصصاتي وهي التي تتحمل مسؤولية ما أفرزه من سموم قاتلة وانحرافات وتمييز طائفي، وما المالكي وحكومته إلا نتاجاً لهذا التصميم الحكومي الأميركي. وأخيراً وبعد كل هذا يتساءل المرء: أليست هذه الأسباب والتصرفات الأميركية كافية ليفكر الحاكمون في بغداد بالقطع مع الطرف الأميركي نهائياً ومعاقبته على خداعه هذا بإلغاء نظام المحاصصة الطائفية وبناء نظام المواطنة الحديثة والمساواة أم انهم يحاولون أن يجربوا «طول بالهم» وقدرتهم على تحمل مزيد من الخداع والإهانات الأميركية؟
أما موافقة المالكي على استقبال العراق 300 مستشار عسكري ومخابراتي أميركي في بغداد فهي قرار سلبي تماماً، ومضر بمصالح العراق على جميع الصعد، فهؤلاء المستشارون – وقد قيل ذلك في الإعلام الأميركي علناً - لم يأتوا ليقفوا مع الجيش العراقي الحكومي ضد داعش وحلفائه بل جاؤوا ليجمعوا معلومات استخباراتية مهمة من الميدان لمصلحة أميركا أولاً وأخيراً، وليس بعيداً أن يحاول هؤلاء المستشارون توريط القوات العراقية في أكثر من كمين وخطة ملغومة للإجهاز عليها وإفشال خططها لإنهاء التمرد المسلح. وعليه:
ــ ينبغي رفض توجيه ضربات عسكرية أميركية إلى أية أهداف داخل العراق والمبادرة إلى إلغاء اتفاقية الإطار الاستراتيجي مع واشنطن لأن هذه الأخيرة قد تنصلت منها عملياً.
ــ ينبغي طرد المستشارين العسكريين الأميركيين فوراً ومن دون إبطاء وتحجيم حركة ودور السفارة الأميركية في بغداد وقنصلياتها في العراق.
ــ وقبل هذا وذاك، لا بد من التحرك نحو حل جذري للأزمة التي تعصف بالعراق منذ عام 2003 وحتى الآن.
إن المشروع الجاري تطبيقه على الأرض هو مشروع «بايدن» لتقسيم العراق، وهذا لم يعد سراً فالجميع تقريباً يلهج به. والعرب السنة من سياسيين ومسلحين الذين يساهمون الآن فيه، دُفعوا دفعاً الى ذلك بسبب طبيعة الحكم الطائفي الذي أوجده الاحتلال وما جاء به من اقصاء وتهميش والاستفزاز الطائفي من جهة، وبسبب رفض بعض زعمائهم السياسيين والدينيين التخلي عن نزعة «نحن الأقوى ونحن من ينبغي أن نحكم العراق وإلا سنتركه رماداً». وهذا لا يعني عدم تحميلهم مسؤولية الاندراج ضمن هذا الخيار أو مع خيار التكفيرية المسلحة كداعش وغيرها.
الحلول المطروحة للأزمة الراهنة قليلة وغامضة ومتداخلة ومنها مثلاً: حل المالكي ومن خلفه التحالف الوطني «الشيعي» وهو وجوب التزام الاستحقاقات الدستورية وانعقاد البرلمان الجديد وتشكيل الحكومة الجديدة وكأنها كفيلة باختراع عصا موسى السحرية وهذا كلام عقيم وخطير! الحل الثاني لمعارضيهم من الساسة العرب السنة هو التريث وتأجيل انعقاد جلسة البرلمان والبحث عن حلول حكيمة بلغة السيد المطلك من دون ان يقدموا شيئاً جديداً سوى تكرار مقولة «إعطاء الحقوق لمستحقيها ورفع الظلم عن المظلومين» فيما البلد يحترق. الحل الثالث يرد غالباً في بيانات البعث بقيادة عزة الدوري وبعض المليشيات العشائرية كمليشيات علي حاتم هو «استرداد بغداد من الصفويين» والبدء من الصفر. الحل الآخر لداعش معروف وعنوانه «دولة الخلافة الإسلامية» بتفرعاته السياسية والاجتماعية والفكرية... الخ، وهو خيار عبثي وفاشي دموي تنبغي مقاومته ودفنه عميقاً في الأرض وفي الوعي.
بين كل هذه الحلول لا يوجد حل واحد معقول وقابل للتطبيق والسبب هو أن قوانين اللعبة السياسية لا تسمح بصوغ حلّ كهذا، وقد ساهم في ذلك الغياب التام لأي قوة أو مرجعية وطنية ديمقراطية عراقية ذات وزن، وهنا نضع اليد على النصف الآخر من الكارثة. أما ما دعوناه بالتحرك نحو حل سياسي جذري للوضع العراقي، فهو يمكن أن يكون عبر تشكيل حكومة خبراء «تكنوقراط» تدير البلاد لمدة سنة مصحوبة بمجلس حربي يشرف على إنهاء التمرد المسلح وتطهير العراق من المسلحين التكفيريين ويعقد في الوقت نفسه مؤتمراً تأسيسياً يعيد كتابة الدستور ليطرح على استفتاء شعبي ومن ثم يصار إلى انتخابات جديدة على أساس الدستور الجديد. وهذه مجرد فكرة مطروحة للنقاش لا أكثر.
* كاتب عراقي