تتباهى جمعية المصارف على موقعها الإلكتروني بأن المصارف تهيمن على النظام المالي في البلاد. رغم أن هذه المفاخرة تحمل الكثير من الوقاحة إلا أنها صحيحة، بل إن هيمنة المصارف طاولت أيضاً جميع مفاصل الدولة والمجتمع - من الإعلام إلى الفن والرياضة والتربية. وصلت حملات المصارف الترويجية والدعائية إلى حد بات اللبناني يصادف إعلانات مصرفية بشكل شبه متواصل. كان يندر أن تجد حفلاً موسيقياً أو مهرجان سينما أو معرض لوحات أو نشاطاً رياضياً لا يرعاه مصرف. مباريات الأطفال في الرسم كانت ترعاها مصارف! قد يأتي يوم يقوم فيه أحدهم بدراسة الأثر النفسي للتعرّض المتواصل لإعلانات مصرفية على صحة الفرد. كل ذلك كان من مستلزمات استدراج الودائع وإبقاء الوهم قائماً حول ريادة المصارف وعصريتها ومتانتها، لحجب عملية الاحتيال والمقامرة بجنى عمر الناس ومدّخراتهم. لكن أي هدف جعل المصارف تغدق بسخاء على الكنيسة المارونية بخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة؟ أي مصالح تجمع القطاع المصرفي اللبناني بالكنيسة؟ هل لاقت الحسابات المصرفية التابعة للكنيسة الحتف ذاته لحسابات المودعين والصناديق الاجتماعية؟ ما يجمع البطريركية بجمعية المصارف أكثر من مصالح، هناك ما يشبه التماهي بين الطرفين. رئيس جمعية المصارف سليم صفير هو نائب رئيس «المؤسسة البطريركية المارونية العالمية للإنماء الشامل» التي أسّسها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي. في عام 2011، قلّده البطريرك ميدالية «البطريركية المارونية» ثم ميدالية مار مارون عام 2016 في روما. كما منحه الفاتيكان في العام نفسه وساماً من رتبة كومندور. وإذا تسنّى لك زيارة مكتبة المعهد الحبري الماروني في روما فستجد لوحة تحمل اسم سليم صفير على مدخله.
لا يقتصر هذا الوئام على صاحب «بنك بيروت»، بل يبدو أن هناك منافسة بين أصحاب المصارف على توثيق عرى التلاقي مع بكركي. فصاحب بنك «SGBL»، أنطون الصحناوي، يضع طائرته الخاصة في تصرف الراعي خلال سفراته، كما في رحلة الراعي إلى واشنطن للمشاركة في مؤتمر دعم المسيحيين عام 2014 وإلى كندا عام 2018. الصحناوي قام أيضاً بتقديم جدارية فسيفسائية صمّمها فنان إيطالي لتكون ضريحاً للقديس شربل داخل كاتدرائية سان باتريك في نيويورك والتي أقيم لها احتفال ضخم حينها بحضور الراعي. هبات الصحناوي متنوعة أكثر من صفير، إذ قدّم مشغلاً حرفياً لحديقة البطاركة التابع لرهبانية mission de vie، وموّل ترجمة ونشر كتاباً مصوّراً عن البطريرك اصطفان الدويهي بخمس لغات، بالإضافة إلى عدد من الهبات «الخيرية» لجمعيات مسيحية. كما صفير، نال الصحناوي كذلك ميدالية مار مارون.
صاحب «بيبلوس بنك» فرنسوا باسيل لم يحصل على هذه الميدالية، لكنه نال وسام القديس غريغوريوس الكبير وجائزة الصليب الأكبر من الدرجة الأولى من الفاتيكان. من نشاطاته الخيرية التبرع بتشييد كنيسة سيدة الدوير الجديدة في الفيدار ومقر لجمعية كشافة الاستقلال التابعة للرهبانية الأنطونية في الدكوانة. التصاق باسيل بالكنيسة وثيق لدرجة أن الرابطة المارونية أصدرت بياناً دفاعاً عنه في عام 2014، أشادت فيه بوطنية الرجل وعطاءاته على خلفية انتقادات وُجهت إليه بعد مؤتمر عقده حول قضية سلسلة الرتب والرواتب.
تنقل شاهدة عيان أنه في بداية الأزمة دخلت إحدى الراهبات فرعاً لأحد المصارف في الأشرفية. وقفت تنتظر دورها في الطابور. أمامها وخلفها صف طويل من الناس تكاد تسمع صرير أسنانهم وأزيز غليان الدم في عروقهم، ينتظرون أن يتوسّلوا من سارقيهم فتاتاً من مالهم الخاص. وحدها الراهبة كانت السكينة بادية على وجهها تتحمّل مشقة الانتظار بصلابة الشهداء القديسين. عندما وصل الدور إليها، طلبت تحويل مبلغ 100 ألف دولار على مرأى ومسمع الجميع. لبّت الموظفة الطلب فوراً وساد صمت القبور في الفرع.
تشابك المصالح بين المؤسسات الدينية والمؤسسات المالية ليس أمراً جديداً ولا فريداً من نوعه في لبنان. ولا يخفى على كثيرين أن المراكز الدينية تكون أحياناً ملاذاً لغسيل الأموال حيث يسهل لمن أراد ذلك إخفاء تعاملاته المشبوهة تحت ستار تقديمات وتبرعات ومساهمات سخية للكنيسة أم للجامع أم غيرهما من المؤسسات ذات الطابع الديني أو الرعوي. في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية عدد من الفضائح التي هزّت الفاتيكان وارتبط فيها اسم الكنيسة بجرائم مالية تورّط فيها أساقفة. بعض هذه الفضائح كانت أشبه بالأفلام البوليسية. تدرك الكنيسة كل ذلك ولا تحاول إخفاءه، بل تستمر محاولات الفاتيكان لتطهير سمعة المؤسسة الكاثوليكية من هذه الارتباطات. كما يقوم البابا فرنسيس بمحاولات لإصلاح بنك الفاتيكان، وهو مؤسسة مالية تُعنى بإدارة حسابات الفاتيكان ومحفظاته المالية والعقارات التابعة له، وحامت حوله العديد من فضائح الاختلاس وقضايا غسيل الأموال، إذ قام البابا قبل سنوات بطرد كامل مجلس إدارة البنك وتعيين مجلس إدارة جديد له.
يبدو أن أصداء الخطوات الإصلاحية في روما لم تصل بعد إلى رأس الكنيسة المارونية في لبنان


تاريخياً، وبحكم موقعه الجغرافي، كان للفاتيكان والكنائس الإيطالية بشكل خاص علاقات مشبوهة بالمافيا الإيطالية استمرت حتى وصول البابا الحالي. قبل ذلك، كانت المجاهرة بمواقف ضد المافيا الإيطالية، أو حتى التضامن مع ضحاياها من قبل الكنيسة، تؤدي إلى مصرع آباء وأساقفة، أوّلهم كان الكاهن الإيطالي غيوسيبي بوغليسي الذي قامت المافيا بتصفيته علناً في أيلول 1993 على خلفية تحدّيه لعصابات الكوزا نوسترا التي تُعتبر عرابة المافيا في العالم. بعد ستة أشهر، اغتيل الأب غيوسيبي ديانا خلف مذبح الكنيسة بينما كان يهمّ بارتداء لباسه الكهنوتي، وهو كان أحد الشهود في تحقيق قضائي بقضية تربط سياسيين ورجال أعمال بالكامورا، إحدى أكبر منظمات المافيا الإيطالية وأوسعها شهرة. لكن لم يكن التهديد والخطر الأمنيان وحدهما سبب سكوت الكنيسة عن ممارسات المافيا والتعايش معها. يشير تقرير لمجلة «إيكونومست» إلى أنه خلال الحرب الباردة، كان هناك تواطؤ غريب بين الكنيسة والمافيا لمحاربة عدو مشترك هو الشيوعية، وأن غضّ النظر عن ممارسات المافيا تحت مسمى «التسامح» كان ثمناً ضرورياً لإبقاء إيطاليا في كنف المعسكر الغربي المعادي للاتحاد السوفياتي.
إلى جانب المصالح السياسية، كانت هناك مصالح مالية وارتباطات مشبوهة للكنيسة عبر بنك الفاتيكان السيئ السمعة. في حزيران 1982، وُجد المصرفي روبرتو كالفي معلقاً من رأسه على أحد جسور لندن في جريمة لم يفك لغزها إلى يومنا هذا، وقد حيكت حولها الكثير من نظريات المؤامرة. كالفي هذا كان رئيس أحد أكبر المصارف الإيطالية، بنك امبروزيانو، الذي كان يُطلق عليه اسم «مصرف الكهنة»، قبل انهياره عام 1982. وكان كالفي يُلقب بـ«مصرفي الله» بسبب تعاملات مصرفه مع بنك الفاتيكان، وهو كان قبل مقتله بقليل يخضع للمحاكمة بجرائم تبييض أموال. كما سبق مقتله، سلسلة من الاغتيالات طاولت قضاة يحققون في جرائم مالية تطاول القطاع المصرفي الإيطالي. ارتباط بنك الفاتيكان بمصرف كالفي كان وثيقاً لدرجة أن رئيس بنك الفاتيكان يومها، الأسقف الأميركي بول مارسينكوس الذي كان لصيقاً جداً بالبابا في حينه (البابا بولس السادس)، كان أحد أبرز المساهمين بمصرف كالفي وأوّل أسقف بتاريخ الكنيسة يشارك في مجلس إدارة مصرف. كما يرد في كتاب «مصرفيو الله» لجيرالد بوزنر أن الكاتب اطّلع على وثائق أفرجت عنها وزارة الخارجية الأميركية تبين أن مارسينكوس كان جاسوساً أميركياً وكان يزود المسؤولين الأميركيين بتفاصيل شخصية عن البابا. زوجة كالفي اتهمت الفاتيكان بمقتل زوجها فيما حامت شبهات حول المافيا الإيطالية بمقتله ولا يزال يلفّ هذه الجريمة الكثير من الغموض. بالرغم أنه لم يثبت تورط بنك الفاتيكان بإفلاس مصرف كالفي، تم تحميل الفاتيكان مسؤولية معنوية، دفع بموجبها 244 مليون دولار للدائنين.
استمرت الفضائح المالية تلاحق بنك الفاتيكان حتى وقت قريب، أبرزها كانت محاكمة المونسينيور نونزيو سكارانو عام 2013 بتهم تبييض الأموال وتحويل ملايين الدولارات من حساب بنك الفاتيكان إلى حسابات أصدقاء نافذين له في سويسرا. عندما تم توقيف سكارانو كان على متن طائرة خاصة يرافقه مسؤول في الاستخبارات وبحوزته 20 مليون دولار يحاول إدخالها من سويسرا إلى روما. المونسينيور، وهو كان مصرفياً قبل أن ينضم إلى الكهنوت، والذي تُقدر ثروته بملايين الدولارات، قال في دفاعه عن نفسه حول تحويله 730 ألف دولار خارج بنك الفاتيكان إن المبلغ كان تبرعاً سخياً من أحد المانحين لبناء مستشفى للأشخاص الذين يعانون من مرض عضال.
بدأت ملامح الإصلاح داخل الكنيسة الكاثوليكية بالظهور مع وصول البابا فرنسيس إلى سدة الفاتيكان عام 2013. ويُعد عهده بداية عهد القطيعة بين الكنيسة والمافيا الإيطالية، إذ جاهر ببعض المواقف الحادة ضدها، كان أبرزها عام 2017 عندما توفي زعيم كوزا نوسترا وأحد أشهر رؤساء المافيا الإيطالية، توتو ريينو، الملقب بزعيم الزعماء، داخل سجنه ورفضت الكنيسة علانية أن تقام له جنازة عامة. تقوم استراتيجية البابا فرنسيس على تنظيف بيته الداخلي بدل طمس الفضائح أو إنكارها خوفاً على سمعة الكنيسة. فهو لم يتوانَ عن طرد أساقفة وكهنة يواجهون تهم فساد وفضائح جنسية ودعم تحقيقات المحاكم المدنية معهم. رغم أن خطواته لا تزال بطيئة وغير كافية لمحو تاريخ ملطّخ بفضائح الفساد والاختلاس وتبييض الأموال، إلا أن البابا فرنسيس كان أوّل بابا يفرض تعديلات جوهرية داخل الفاتيكان، مقارنة بالعهود السابقة. وفي أيار من العام الماضي أعلن عن إنشاء مجموعة عمل لدراسة فرض الحرم الكنسي على جميع أعضاء المافيا وتقديم الدعم للأساقفة حول العالم لاقتلاع منظمات الجرائم المنظّمة وطرد أعضائها من الجسم الكنسي.
لكن يبدو أن أصداء الخطوات الإصلاحية في روما لم تصل بعد إلى رأس الكنيسة المارونية في لبنان. فبدل الحرم الكنسي كان البطريرك الراعي يفرض خطوطاً حمراء لحماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من أي محاسبة على الرغم من كل قضايا الاختلاس التي يحاكم بها في عدد من الدول. ولا يرى ضيراً في السفر بطائرة الصحناوي الخاصة بينما كان الأخير يقوم باستخدام نفوذه للإفلات من المحاسبة في جريمة الميزون بلانش الموصوفة والتي أدين فيها مرافقوه. ولولا أن قضاءنا ينخره الفساد لكان الصحناوي يقبع الآن في السجن. كما أن هناك شكوى قدّمتها «المفكرة القانونية» وجمعية حماية المستهلك أمام النيابة العامة التمييزية ضد جمعية المصارف واعتبارها جمعية أشرار وفق المادة 335 من قانون العقوبات، إلا أن الجمعية لا تزال تحظى بثقة الراعي وحمايته. فهل تصل نسمات الإصلاح الفاتيكاني إلى ربوع بكركي؟

* صحافية