مبتدأ الكلام، خصوصاً في الشأن اللبناني، أن الإصلاح السياسي هو الممر الإجباري لكل إصلاح. مناسبة ذلك، على سبيل التأكيد، هي محاولات متواصلة، تكاثرت، منذ اندلاع الأزمة الطاحنة قبل أربع سنوات، بحثاً عن مشاريع حلول لهذه الأزمة التي أصابت بأضرار فادحة ومدمرة ومتفاقمة حوالي 95% من الشعب اللبناني المقيم وجزءاً كبيراً من المغترب. السمة العامة لمعظم المشاريع المسماة إصلاحية، هي الاجتزاء والاضطراب في الأولويات: ما بين «البيئة» و«محاربة الفساد» والإجراءات الاقتصادية أو النقدية أو المالية، أو حتى الأمنية أو التقسيمية... وغالباً أو دائماً: المراوحة في الصيغة السياسية الراهنة مع بعض الرتوش البسيط! لقد بُني نظام الحكم، من قِبل الانتداب الفرنسي، على قاعدة تقسيم الدول طائفياً ومذهبياً أو إقامة السلطة فيها على هذا الأساس («الكوتا» الطائفية). وهو أمر لم يقتصر على لبنان وحده، بل شمل أيضاً الشقيقة سوريا وسواها. كان الاستعمار الإنكليزي سباقاً في هذا المضمار. هذا النهج ما زال معتمداً، من قبل الاستعمار الجديد، على أوسع نطاق: طلباً وتعزيزاً للانقسام والتفتيت والإضعاف... وتسهيلاً للسيطرة والهيمنة.
لقد استند المستعمرون وأتباعهم في لبنان، منذ السلطنة العثمانية، إلى تراث كرَّسوه وغذّوه، حتى بات حصيناً ومنيعاً. هم رعوا لبنان المتعدِّد والمتنوّع، طائفياً ومذهبياً، عبر نخب وقوى حوّلت هذه المعادلة، و«الصيغة» التي نجمت عنها، إلى «نظام سياسي فريد من نوعه»، كما روج ميشال شيحا، وإلى صيغة «غير قابلة للتغيير» كما كرَّر كثيرون من بعده وصولاً إلى معادلة: «لا وجود للدولة من دون الطوائف ولا وجود للطوائف من دون الدولة». أي أن وجود الطوائف رهن بوجود الدولة كما يؤكد مهدي عامل: فهي بالدولة تصبح مؤسسات، مؤسسات الدولة أي «أجهزة أيديولوجية» لها على حد تعبير ألتوسير (مهدي عامل «في الدولة الطائفية»، ص 17).
هذه المعادلة ما زالت قائمة منذ الانتداب والاستقلال إلى يومنا هذا. تعرضت لاهتزاز عام 1958. عاندها الرئيس فؤاد شهاب، بإصلاحات إدارية، إلى أن تغلبت عليه لاحقاً. أُسقطت كل المحاولات الإصلاحية التي تجرّأت عليها جزئياً: كمحاولة الوزراء إميل البيطار وجورج فرام، وبمعنى ما، شربل نحَّاس وبشارة مرهج (كل الوزراء المذكورين أُقيلوا!). كانت في نجاحاتها تلك تتعزَّز وتتكرس وتتوسع، خصوصاً بعد إسقاط البنود الإصلاحية في اتفاق الطائف لعام 1989، وأهمها بند تحرير التمثيل النيابي، والإدارة عموماً، من القيد الطائفي (بالمناسبة، ما الذي يجبر النقابات المهنية على أن تعتمد القيد الطائفي من دون نصوص ملزمة وفي ظل تشريع دستوري بإلغاء الطائفية، من كل الفئات وفي كل الأسلاك، باستثناء الفئة الأولى مؤقتاً)! انبنت على هذا الواقع منظومة متكاملة متعاظمة من المحاصصة وتسخير الدولة ومؤسساتها ونهب موازنتها ومواردها، اقتراناً بفساد مذهل، وغياب مدهش للمساءلة وللمحاسبة. قاد ذلك إلى الكارثة الراهنة حيث تمّ تفليس البلد وناسه ودفعه إلى أسوأ الاحتمالات والمصائر، وبشكل خاص إلى تغذية واستغلال وقح لأزمته من قبل قوى خارجية بغرض فرض سياسات وعلاقات ومواقف على حساب سيادته ووحدته ومصالحه وحقوقه ووجوده!
هنا يكمن جوهر الخلل الذي استشرى حتى بلغ هذا المستوى التدميري والإفقاري للبنان وشعبه. وهو مستوى غير مسبوق في تاريخ الأنظمة والدول. من هنا ينبغي أن يبدأ الإصلاح. ومن هنا، حكماً، ينبغي أن تنطلق المحاولات الرامية إلى تحقيقه، كلياً أو جزئياً، فوراً أو تدريجاً. الواقع أن النص الدستوري المقر في «الطائف»، كأحد استنتاجات الحرب الأهلية الدامية والمديدة بين عامي 1975-1990، هو الذي يمكن، أو ينبغي، الانطلاق منه. لا بدَّ، لهذا الغرض، من تسريع ذلك للسيطرة على الأزمة ولتعويض ما فات من المماطلة والتعطيل. معروف أن مسار الإصلاحات كان ينبغي أن يبدأ، دستورياً، مع انتخاب أول مجلس نيابي على أساس «المناصفة»، أي مجلس عام 1992. وكان ينبغي أن ينجز، ضمناً، عام 1996 ليكون المجلس النيابي الجديد منتخباً وفق مغاير جديد متحرر من القيد الطائفي بالاقتران مع استحداث «مجلس شيوخ» محدود ومحصور الصلاحيات لمعالجة الهواجس الطائفية.
ليس خافياً أن نتائج الانتخابات الأخيرة قد ضاعفت الحيرة والضياع، وأيضاً محاولات البحث عن الحلول من خلال الفرز الذي أسفرت عنه


ما حصل العكس تماماً. في قانون الانتخاب الحالي، المعتمد أيضاً منذ انتخابات عام 2018، بعد تمديد تعسفي لخمس سنوات، جرى تكريس الطائفية بالصوت التفضيلي المحصور في القضاء بعد أن كاد أن يُفرض، وفق الصيغة «الأرثوذكسية»، صوت مذهبي صاف!
نقطة الضعف أو الخطأ أو الخلل في الاقتراحات الإصلاحية البديلة أنها لم تنطلق من هذه النقطة. لقد كان الأحرى بالقوى الوطنية التغييرية، القديمة أو التقليدية، ذات التجارب والخبرة والتاريخ، أن تبادر إلى عمل جبهوي إصلاحي بعد تفشي الكارثة واستعصاء الحلول، أو حتى قبل الوصول إلى ذلك. هي لم تفعل وفوتت فرصة ودوراً تاريخيين. هي في ضوء ضراوة الأزمة، امتنعت، في الواقع، عن النهوض بمسؤولية وطنية وأخلاقية وإنقاذية هائلة. كذلك فإن القوى الجديدة، التغييرية الناشئة، لم تولِ هذه المسألة ما تستحق من عناية وبلورة وأولوية. طرحها ضبابي يركِّز على السلوك أكثر مما يركِّز على النهج، وعلى الممارسة أكثر من تركيزه على النظام السياسي. لذلك كان سهلاً اختراق صفوفها واستغلال تحركها وإغراقه بطرح بديل من نوع التركيز على سلاح المقاومة ومسؤولية هذا السلاح عن الأزمة عوضاً عن التركيز على النظام التحاصصي الطائفي التابع والمتفلت من المسؤولية والعقاب عمّا ارتكبه من جرائم إفلاس الدولة ونهبها وسرقة وإفقار اللبنانيين.
ليس خافياً أن نتائج الانتخابات الأخيرة قد ضاعفت الحيرة والضياع، وأيضاً محاولات البحث عن الحلول من خلال الفرز الذي أسفرت عنه الانتخابات في اصطفافات أطرافها وكتلها أو عدم اصطفافهم. إن ثمّة فرزاً جديداً ينبغي أن ينشأ على أساس متين وواضح من النضال لإسقاط الصيغة الطائفية لمصلحة نظام مدني: بمواطنة متساوية ودستور نافذ ونظام انتخابي عصري متحرر من القيد الطائفي وعلاقات تحكمها المساءلة والكفاءة لا سواهما من الآفات والعاهات والخزعبلات الشائعة!
باعتماد الطائفية ومنظومتها التحاصصية انهار لبنان وأُذل وأُفقر وتشرد شعبه. انتصار أطراف السلطة في الانتخابات الذي هو أحد ثمار ضعف البديل، لا يعني سوى المضي نحو قعر الهاوية والخسارة. لقد سقطت مقولة: «يكون لبنان طائفياً أو لا يكون»! لقد سقط لبنان الطائفي سقوطاً مدوياً. لبنان الجديد ينهض، فقط، من خلال دولة مواطنة مدنية متحررة (بثمن مخيف) من الهيمنة على مقدرات البلد ومصالح ومصائر شعبه من قِبل حفنة من تجار الطوائف والمذاهب!

* كاتب وسياسي لبناني