*استقطب تناول دور الصين في أفريقيا في السنوات الأخيرة رؤى نمطية كرّرت، في الغالب، مقولات «بلاغية» في جوهرها بين حماسة مفرطة لقدرة الصين على موازنة أدوار القوى «الاستعمارية» السابقة والولايات المتحدة في القارة لصالح دول الأخيرة ومشروعاتها الوطنية، ونزوع بكين لتكرار سياسات الاستعمار الجديد والاستحواذ على اقتصادات أفريقية كاملة عبر «فخ القروض». وبين هذه القراءات المتعجّلة، التي سادت لعقود على نحو مستغرب تماماً، يغيب بشكل ملحوظ «الدور الأفريقي» في جميع معادلات الحضور الصيني وإسهامه في تحقّقه على النحو الذي يروّج له كل فريق. لكن مقاربة الدور الصيني في أفريقيا من حيث خطابها الأيديولوجي من نهاية الخمسينيات حتى منتصف السبعينيات (عهد ماو تسي تونغ)، وتناقضه في سياقات عدة مع سياساتها الفعلية في القارة، ربما كما تجلت بشكل أكبر في جل هذه المرحلة في تجليات الصلة مع جزائر هواري بومدين، يمكن أن يفسر، جزئياً بطبيعة الحال، دور الصين الحالي في أفريقيا كقوة «توافقية» في أفضل الأحوال، أو حاملة لبعض دعائم المصالح الأميركية والغربية في أفريقيا في حالات أخرى كما يتضح في قراءة خريطة مشروعات مبادرة الحزام والطريق (2013) في أفريقيا التي تتطابق، أو تتكامل، مع «مجالات نفوذ» هذه المصالح.

في جذور مفهوم تونغ عن العالم الثالث
تأثّر ماو، عن طريق أستاذه يانغ تشانغ-تشي، بالهيغلية الجديدة التي طورها البريطاني توماس هيل غرين (تـ 1882)، وتركزت في السياسة –باختصار- على نقض فكرة أن المجتمع يمثل «ارتباطاً لأفراد يتعاونون في سبيل المكاسب المتبادلة» إلى اعتباره «جماعة حيّة ومعبرة عن إرادة شاملة أو تاريخية». وكشف مقرر يانغ حول الأخلاق، والذي لخص في مؤلفه A Critique of Western Ethical Theories، لطلابه، ومن بينهم ماو، أبعاد الفلسفة الأخلاقية الغربية، كما طرح في مدخله عن «الزهد» مقارنة بمفهوم «الكونفوشيوسية الجديدة» الذي لم يكن شائعاً حينذاك، ووظفه ماو في تأصيل سياسته الخارجية. كما لوحظ التشابه بين رؤية أنطونيو غرامشي عن القوى الاجتماعية (وخلاصتها أن تفوق جماعة اجتماعية يتجسد في الهيمنة والقيادة الفكرية والأخلاقية) ونضال ماو المطول لإجبار المنظرين الماركسيين على الإقرار بأهمية الفلاحين الثورية. وإلى جانب هذه الخلفية الفكرية الناضجة لماو، فإنه طور، حتى الستينيات، فلسفة لخصها ستيوارت شرام (1989) في تأكيده على الحاجة إلى قيادة حاسمة من قبل نخبة سياسية، قبل أن تعمد «الثورة الثقافية» إلى تعظيم نظري لقيمة «السماح للأفراد بتحرير أنفسهم وإدارة الأمور بالطريقة التي يريدونها».
أمّا خارجياً، فقد أكد ماو، خلال نشاطه الموسع (أيار-حزيران 1960) أن «الإمبريالية الأميركية» هي العدو الأكبر في العالم «حالياً»، ولفت أمام وفود نقابية وممثلة للمرأة الأفريقية إلى أن: «عدونا المشترك يتمثل في الإمبريالية الأميركية، وأننا جميعاً نقف على الجبهة نفسها ونحتاج للتوحد مع بعضنا البعض والدعم المتبادل، وأن شعوب العالم أجمع، ومن بينها شعب الولايات المتحدة، هم أصدقاؤنا». وإجمالاً، فقد قامت فكرته عن «العوالم الثلاثة» على أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يمثلان معاً العالم الأوّل، وأن الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والأقاليم الأخرى (ومن بينها الصين) تمثل معاً «العالم الثالث»، فيما تمثل الدول المتقدمة بين هذين التصنيفين «العالم الثاني»، وحظيت الفكرة باهتمام كبير من المسؤولين الصينيين وروج لها نائب رئيس الوزراء دينغ شياو بينغ في ظهوره الأول بالأمم المتحدة (نيسان 1974)، وإن تراجع الاهتمام بالفكرة تماماً (وكذا علاقات الصين بالعالم النامي ككل) بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان (1979)، وتوجه بكين نحو الغرب لمساعدتها في عمليات التحديث قبل عودتها لاستخدام المفهوم بشكل ملحوظ (وبراغماتي تماماً) على خلفية تجدد الخلافات مع واشنطن لاحقاً بين حين وآخر، وكأداة مهمة مع تبدل حسابات الصين السياسية الدولية.

الصين والجزائر: ثنائية دعم التحرّر الوطني والتماهي الأيديولوجي
عكس تقارب الصين والجزائر، منذ منتصف الخمسينيات، تأثيرات التشابه في الثقافة السياسية والتاريخ الاستعماري والنضال من أجل الهوية الثقافية، لا سيما أن القومية الجزائرية تعززت بخبرات أبنائها في الحرب العالمية الثانية والاتصال المباشر بالمشهد السياسي الفرنسي (والتيار الشيوعي بشكل خاص) في مطلع القرن العشرين. وحدث التقابل المبدئي بين الصين وجبهة التحرير الجزائرية في مؤتمر باندونغ 1955، وبجهود لافتة من الوفد المصري بحسب سرد دونوفان تشاو، 2014، وما شهده المؤتمر من إقرار المساواة بين النازية والاستعمار والمطالبة بمنح الجزائر (والمغرب وتونس) حق تقرير المصير، الأمر الذي عنونه مارتن إيفانز (2012) بأنه انتصار للجبهة، كما ربط إيفانز بين دعم الصين القوي للأخيرة في عام 1956 ودعوة رئيس الوزراء تشوان لاي حينذاك فرنسا للدخول في مفاوضات معها (حزيران 1956) على أساس «الاعتراف الكامل بالتطلع الوطني للشعب الجزائري»، ونظرة الصين للجبهة على أنها نظير لحركة «فيت-منه» في الهند الصينية التي استخدمتها «كأداة للاستراتيجية الثورية ضد فرنسا» وضد الغرب بشكل عام، كما كانت الصين أول دولة شيوعية تقبل تمثيلاً دائماً للثورة الجزائرية في تموز 1960.
كما حرص ماو على الجانب الثقافي في علاقاته مع الجزائر حيث استقبل وفداً جزائرياً برئاسة مالك بن نبي (مستشار وزارة الإرشاد القومي حينذاك) في نيسان 1964، وشهد توقيع خطة تنفيذية لتطبيق اتفاق التعاون الثقافي بين البلدين واتفاق تعاون الإذاعة والتلفزيون. وفي أيلول من العام نفسه وقّع البلدان اتفاقاً تجارياً، بينما أوردت الصحف الأميركية تقارير عن وجود بعثة عسكرية صينية «غير رسمية» كانت على اتصال مباشر بوزير الدفاع الجزائري. ولم يغير وصول هواري بومدين للسلطة وإقصاء بن بلة (19 حزيران 1965) من وثاقة تعاون الصين والجزائر في دعم حركات مواجهة الاستعمار في أفريقيا أو مساعداتها المتكررة للمجموعات الثورية وحركات التحرّر في القارة، كما حظي وصول بومدين باعتراف عاجل من الصين (في شكل رسالة 5 تموز من الرئيس ورئيس وزرائه تشوان لاي) مما أشار لمواصلتها سياساتها تجاه الجزائر ووعيها التام بالوضع المحلي، بينما رأى محللون غربيون أن موقف الصين ربما عكس علمها بالانقلاب قبل وقوعه. وفي المقابل، كانت الجزائر حاضرة بقوة في نقاشات مجلس الأمن الدولي (شباط 1968) بخصوص نيل الصين مقعداً فيه. فقد نشط السفير الجزائري في الاجتماعات وعلى مستوى ثنائي مع السفراء الآخرين لصالح القضية الصينية، ورأى إيفانز (ربما بقدر من المبالغة) أن جهوده أجبرت السفير الأميركي ريتشارد ف. بيدرسن، بعد ساعات من المفاوضات، أن يذكر أن الولايات المتحدة ليس لديها أية تحفظات بخصوص إمكانية النقاش مستقبلاً حول المسألة. وكان التصويت لصالح استعادة الصين مقعدها نصراً رمزياً كبيراً، وتعبيراً عن عمق النفوذ الجزائري (والمالي تحديداً) في أفريقيا، إذ يمكن إرجاع جزء كبير من النجاح إلى الكتلة الأفريقية، وبالفعل وجه تشوان لاي خطاب شكر لبومدين (31 تشرين الأول 1971) على جهود بلاده الديبلوماسية في الملف.
وفي تماه أيديولوجي لافت، عبّر بومدين، خلال زيارته التاريخية للصين نهاية شباط 1974، عن قناعة شعوب «العالم الثالث» المتزايدة بأن بقاءها يعتمد على وحدتها وتضامنها وأن نضالها هو نضال مشترك في حقيقته، وأن تصاعد الوعي السياسي لهذه الشعوب ورفضها «نظاماً عالمياً أصبح غير ملائم تاريخياً» (anachronistic) قادها للتصميم على «النضال من أجل إعادة ضبط العلاقات الدولية في جميع المجالات»، وأن التغيرات التي تتم هنا (في الصين) وهناك تميز بدايات طفرة في التحرر، إلى جانب أن عدم الانحياز لم يعد مجرد رفض لوضع قائم وجائر بالأساس، ولكنه يعني حركة تحرير، حركة مبتكرة، مما يمنح بعداً محدداً لشمول التطور التاريخي الذي يحدد العلاقات بين دول العالم، كبيرها وصغيرها، صناعية أو نامية. بينما علق شوان لاي، الذي حضر اجتماعات ماو مع بومدين ووزير خارجيته حينذاك عبد العزيز بوتفليقة، على المحادثات وأهميتها في تعميق الفهم المتبادل، وأوضح أن «تنافس القوى الكبرى على الهيمنة هو سبب المشكلات الكبيرة الجارية في العالم، وطالما ظل هذا السبب قائماً فإن العالم سيظل في اضطراب، وسيستحيل تحقق ما يسمى بالسلام الدائم»، وأن الشعب الصيني سيقف دوماً بحزم إلى جانب العالم الثالث وشعوب العالم أجمع، والنضال كتفاً بكتف والتقدم معاً. وهكذا كانت الجزائر، عند زيارة بومدين الهامة للصين، بالفعل قاعدة للأنشطة والنفوذ الصينيين في أفريقيا، وأسهمت هذه الصلة في إبعاد عدد من الدول الأفريقية (أبرزها بوروندي عند منتصف السبعينيات) عن الاتحاد السوفياتي والتقرب من الصين. وأوردت تقارير غربية نقل الطائرات الجزائرية لشحنات منتظمة من الأسلحة الصينية إلى بورندي. بينما نظرت الجزائر دوماً للصين -كما ورد في رسالة تعزية بومدين في وفاة ماو للرئيس هوا كو-فنغ أيلول 1976-باعتبارها «نموذجاً للعالم الثالث» أرساه ماو.

«الماوية» في أفريقيا: نقد أفريقي غير مكتمل
واجه النفوذ الصيني «الماوي» في أفريقيا (1955-1976) انتقادات وجهت بالأساس من نخب وقيادات سياسية في «أفريقيا الفرنسية». كان أبرزهم الرئيس العاجي فيلكس هوفيه بوانيه الذي أكد أن هدف الصين الأساسي السيطرة على حكومات الدول الأفريقية واقتصاداتها وليس نشر الفكر الشيوعي بين الجماهير الأفريقية «وأن أفريقيا قليلة السكان هي هدفهم بعيد الأجل وعلينا أن نعي هذا الخطر». ورأى (1966) أن بكين استخدمت نوعين من التوسع في أفريقيا، أولهما التخريب المستمر للحكومات القائمة عبر الخبراء الصينيين السياسيين والعسكريين في حرب العصابات والتخريب، وثانيهما فساد الساسة والمسؤولين ومشروعات المعونات الاقتصادية التي تمنح بكين «بداية للسيطرة على عدد من الصناعات الحيوية وزيادة أعداد الصينيين في الدول المهمة». ولاحظ ملاحظة مهمة في سياقاتها التاريخية أن ما سرده ينطبق بالأساس على الأنشطة الصينية في غانا قبل سقوط كوامي نكروما مباشرة. كما انتقد بوانيه في مرحلة مبكرة فكرة الجزائر «صينية الهوى» عن «العالم الثالث».
ورغم وصف الجبهة الدائم لبوانيه بأنه «مخلب للاستعمار الفرنسي الجديد»، فإن الرئيس أحمد بن بلة وفريقه الديبلوماسي سعوا بنجاح لجعله أول رئيس دولة من أفريقيا جنوب الصحراء يأتي للجزائر (نهاية نيسان 1963 وقبيل زيارة جمال عبد الناصر مطلع أيار)، وحصل بوانيه خلال زيارته على تطمينات جزائرية بعدم دعم المعارضة الداخلية لحكمه، في وقت كانت عزلته تتصاعد في واقع الأمر، وهو ما أدركه السفير الجزائري في أبيدجان حينذاك بتصريحه أن بوانيه مدرك للدين المستحق عليه للجزائر «وحقيقة أننا بادرنا بإقامة العلاقات الديبلوماسية الرسمية» مع بلاده، مما أشار إلى حجم القبول الأفريقي العام للجزائر ونفوذها في تلك الفترة.

الماوية وأفريقيا في عالم «ما بعد الحرب الأوكرانية»
تبرز العلاقات الصينية- الأميركية تناقضات «الماوية» على نحو تام. إذ تكشف بدقة تباين خطابها الأيديولوجي، بتحولاته المهمة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عن سياسات الصين الدولية وموقع «العالم الثالث» بها حتى قبل الغزو السوفياتي لأفغانستان. وعلى سبيل المثال، أعلنت بكين رسمياً في آذار 1969، وقبيل زيارة نيكسون التاريخية لها، أن موسكو، وليست واشنطن، هي التهديد الأول، وذلك على خلفية النزاع الحدودي الصيني-السوفياتي والتقارب الملحوظ في الأشهر التالية بين الولايات المتحدة والصين في ما عرف بديبلوماسية «البينغ-بونغ» التي قادت إلى زيارة سرية قام بها هنري كيسنجر لبكين (تموز 1971) سبقت اعتراف الأمم المتحدة بجمهورية الصين الشعبية، وتلاها بأشهر قليلة زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون واجتماعه بماو وتوقيع «بيان شنغهاي» مع رئيس الوزراء تشوان لاي الذي مهد الطريق أمام مزيد من تحسن العلاقات وصولاً إلى الاعتراف الديبلوماسي الكامل وترسيخ «سياسة الصين الواحدة».
أمّا أفريقياً، ومع تصاعد الحرب الروسية- الأوكرانية، فإن الصين تترقب طلباً أفريقياً متزايداً على أسلحتها رغم التقارير الغربية الأخيرة عن تراجع عقود الدفاع الصينية في الآونة الأخيرة على خلفية نقص الشفافية ورداءة جودة هذه الأسلحة مقارنة بالتكنولوجيات الغربية في تصنيع الأسلحة (بحسب راند كوربوريشن)، من دون أن ينفي ذلك واقع تزايد مبيعات الأسلحة الصينية (إلى جانب التدريب العسكري والاستثمارات في مشروعات البنية الأساسية) في أفريقيا. إذ تعد دول مثل إثيوبيا ونيجيريا والجزائر والسودان وغانا من أهم مستوردي الأسلحة الصينية في القارة. مع ملاحظة أن الصين نفسها خامس أكبر مستورد للسلاح في العالم بعد الهند والسعودية ومصر وأستراليا.
وفي استحضار مألوف للماوية، اقترح الرئيس الصيني شي جينبنغ (نهاية نيسان الماضي خلال انعقاد منتدى بواو الآسيوي) «مبادرة أمنية عالمية» جديدة قوامها «تعزيز مبدأ الأمن الكلي، وبناء أمني متوازن ومجد ومستدام ومعارض (لفكرة) بناء الأمن القومي على أساس عدم أمن في الدول الأخرى». كما أكد سيادة جميع الدول وسلامتها الإقليمية وحقها في «اختيار طرق تنميتها ونظمها الاجتماعية»، وهو اقتراح بالغ التهافت ولا يعبر عن سياسات الصين على الأرض. في خضم الأزمة الأوكرانية وتجاذبات الموقف الصيني والتزام واشنطن وبكين بسياسة «أسيجة الأمان» للحيلولة دون الصراع (بينهما) بحسب وصف بايدن (تشرين الثاني 2021)، ومن ذلك وصول حجم التجارة في السلع بينهما في العام 2021 نحو 657.4 مليار دولار مع ميل الميزان التجاري لصالح الصين بقيمة 355.3 مليار دولار، وارتفاع ملحوظ في التجارة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري إلى 174 مليار دولار بزيادة في حدود 26 مليار دولار مقارنة بالأشهر الثلاثة الأولى من العام الماضي. يتضح أن أفريقيا وقعت تماماً في فخ «نهاية التاريخ» وصيرورة «النظام النيوليبرالي» مجرّداً في جانبه الاقتصادي، فيما أفلتت رؤى الصين الواقعية من «سذاجة» الادعاءات الأيديولوجية واستهلاكيتها على نحو لا رجعة فيه.
* باحث مصري متخصّص في الشؤون الأفريقية