رأيتُ هذا الفيلم من قبل. آلمتني المشاهدة الأولى والمشاهدة الثانية أكثر إيلاماً وإزعاجاً. كنتُ صغيراً عندما نشبت حرب 1967 لكنها أثّرت في تكويني وتفكيري وهي لاحقتني عبر السنوات ولا تزال. لا يمكن أن تمرّ الذكرى من دون أن تنكأ جرحي سنة بعد سنة. أقرأ عن تلك الفترة دائماً وجمعتُ ما تيسّر من تغطيات صحافية وأكاديميّة عنها. كنتُ أرصدُ لسنوات ما كُتب في الإعلام العربي قبل الحرب. أخيراً، أرصدُ أكثر ما كُتب بعد الحرب، خصوصاً من يساريّين جذريّين عثروا على أسباب الهزيمة في الشخصيّة العربيّة أو في «العقل العربي». كان تشخيصهم طبّياً- نفسياً: حكموا أننا أمّة مريضة وعلينا اتباع نصائحهم كي نُشفى. عبد الناصر البعيد عن الانفعاليّة في التعاطي مع إسرائيل، سيقَ إلى الحرب سياسيّاً، ومن أعدائه وخصومه. تعرّض لهجمات قويّة من كل أعدائه في العالم العربي. الصحافة العربيّة المموّلة من الخليج لم ترحمه. قراره بسحب قوّات الأمم المتحدة جاء نتيجة الضغط المباشر عليه في الحقبة التي سبقت الحرب (والحرب شنّتها إسرائيل، كي لا ننسى، لأن سرديّات إعلام وأكاديميّات النفط تجعل من عبد الناصر مُشعلاً للحرب). حتى عبد الناصر تأثر بالمزايدات. وصفي التل سخر وقال إنه يختبئ وراء تنانير جنود الأمم المتحدة. النظام البعثي السوري كان أقسى. صحافة بيروت (الموالية للغرب والخليج في معظمها يومها، وهي باتت موالية أكثر لنفس الأطراف هذه الأيّام) شاركت في التحريض من أجل حرب لم يكن عبد الناصر مستعدّاً لها ولم يكن يريدها. عبّر عن شكوكه من استعدادات الجيش المصري. لكن عبد الحكيم عامر طمأنه قائلاً: «برقبتي». نستطيع، بما نعلمه اليوم عن اختراق إسرائيلي للإعلام العربي منذ مطلع القرن العشرين، أن نجزم أن العدوّ استثمر وموّل الحملات ضد عبد الناصر (لكن طبعاً كانت هناك حملات بريئة في إعلام الخليج وكان مكمن اعتراضها ضد عبد الناصر أنه غير ديموقراطي، تماماً مثل الاعتراضات البريئة اليوم في إعلام الإمارات والسعوديّة أن النظام السوري والإيراني ليسا ديموقراطيّيْن. ماذا نفعل؟ النظامان يحبّان الديموقراطيّة حبّاً جمّاً ويؤمنان شديد الإيمان بضرورة نشرها حول العالم).الأيّام الماضية كانت تكراراً شنيعاً لما جرى عشيّة الحرب في 1967. أنا عادةً أقفز ابتهاجاً لأي فكرة أو تحريض للردّ على عدوان إسرائيل، ويطير قلبي جزِلاً مع كل صاروخ مسافر نحو أهداف لجيش العدوّ. لكن الانفعاليّة في التعاطي مع إسرائيل مرض شفتنا منه المقاومة اللبنانيّة الحاليّة، وتلاميذها في غزة. في زمن الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة، حكم الانفعال والارتجال والاستعراض الأداء العسكري-السياسي في المواجهة. وكنا جاهلين في أمور الحرب النفسيّة: كنا نتلقّاها ونتأثّر بها من دون أن نشارك فيها، كما تفعل المقاومة الحاليّة (غير المدنيّة، يا لخجلتنا من أشراف المدنيّة في لبنان والمحيط). الاختراق الاستخباراتي (من العدوّ ومن المكتب الثاني ومن أجهزة الأنظمة العربيّة) شلّ العملَ وبدّد الطاقات يومها. الشرذمة كانت العنوان، ليس بين التنظيمات بل في داخل التنظيمات نفسها. أبو جهاد لم يكن يثق بأبو الزعيم وأبو صالح لم يكن يثق بأبو عمّار، والأخير كان القائد العام لقوّات الثورة الفلسطينيّة. تم التفريط في استعمال كلمة ثورة في حينه، لكن ليس بنفس الدرجة التهريجيّة لأتباع السعوديّة والإمارات بين الشباب اللبناني. كانت هناك عمليّات عسكريّة في أعياد انطلاقات التنظيمات وكنتُ دائماً أنزعج من ذلك. أي خطة عسكريّة في المواجهة والمقاومة تفرض التحضير لعمليّة في عيد الانطلاقة؟ وفي أي سياق؟ كان الرفاق يسألون بعضهم البعض قبل أسابيع من العيد: ماذا تحضّرون هذه السنة؟ (وكانت معظم العمليات فاشلة، حتى تلك التي ما زلنا نحتفل بها سنة بعد سنة). الحركة الوطنيّة لم تكن تعدّ خطط مواجهة عسكريّة. لا عجبَ في ذلك في حركة كان قائدها وليد جنبلاط، وكانت قياداتها محكومة بسقف أبو عمّار الديبلوماسي. الوجود المسلّح هو للتحريك وليس للصدّ أو التحرير. مزعج كم كان ياسر عرفات يحرص على احترام خطوط التماس ليس فقط في بيروت بل في الجنوب أيضاً (طبعاً، شاطرَ النظام السوري عرفات في هذا الاحترام).
بلا مواربة، أنصار إسرائيل في لبنان يريدون من المقاومة شنّ الحرب، الآن الآن، وليس غداً. هذا طبعاً مثير للارتياب. تشتمّ رائحة استدراج استخباراتيّة خبيثة


في الأيام الماضية هبّ كل فريق السعوديّة والإمارات في الإعلام اللبناني والمواقع (غير) الحرّة مُطالباً المقاومة بالردّ العسكري الفوري عن أنباء (تبيّن أنها غير مؤكّدة) عن استخراج النفط في المنطقة المتنازع عليها في المياه بين لبنان وفلسطين. الذين امتهنوا ترديد مقولة حصريّة السلاح ونزع سلاح المقاومة والإصرار أن ماكس فيبر لا يمكن له أن يقبل بوجود السلاح «غير الشرعي» يريدون إطلاق الصواريخ على الفور (السلاح الذي حرّرَ الأرض وصدّ عدوان تمّوز هو السلاح غير الشرعي والسلاح الذي يطارد أكياس البطاطا هو السلاح الشرعي في مسخ الوطن اللبناني). هؤلاء الذين جعلوا من نزع السلاح عنواناً لتحركّاتهم ولقرع طناجرهم باتوا المحرّضين على فعل المقاومة. هؤلاء يرون أن المقاومة تهادن العدوّ. الذين قالوا إن المقاومة جرّت لبنان إلى حرب (حرب افتعلتها إسرائيل) يريدون اليوم من المقاومة أن تفتعل حرباً مع إسرائيل. بلا مواربة، أنصار إسرائيل في لبنان يريدون من المقاومة شنّ الحرب، الآن الآن، وليس غداً. هذا طبعاً مثير للارتياب. تشتمّ رائحة استدراج استخباراتيّة خبيثة من جماعة أنصار التطبيع الخليجي وبعضهم يريد الحلّ السلمي بين لبنان وإسرائيل. حتى اللبنانيّين الذين جاهروا (في الإعلام السعودي) بطلب انضمام لبنان لمسار التطبيع والتحالف الخليجي مع إسرائيل يلومون المقاومة على سكوتها (حتى الساعة) عن أخبار غير مؤكدة عن قيام العدوّ باستخراج النفط في المنطقة المتنازع عليها. هذا لا يعني أنه ليس هناك من مشكلة عويصة في مسار التفاوض الجاري. الزميل قاسم غريّب واكب منذ البداية وفي مقالات تفصيليّة مسار المفاوضات وكان واضحاً أن ختامها لن يكون مسكاً. ولماذا لا يكون قاسم غريّب هو رئيس وفد التفاوض، أو عضواً فيه في الحد الأدنى، بدلاً من مفاوضين قد يكونون بسوء عرفات وجواد ظريف في التفاوض (طبعاً، أنا—ومن أنا— ضد المسار التفاوضي من أساسه للأسباب التي سأوردها أدناه).
المشكلة كبيرة وهي مرتبطة بالفساد. وهنا يحضر النقد الذي وجّهه بعضنا في محور المقاومة ضد أداء حزب الله وتحالفاته السياسيّة. إن نقد الفساد والطلب الملحّ بانخراط الحزب في محاربة الفساد (لا أتحدّث هنا عن ملفّات حسن فضل الله أو عن تقديم إخبارات للقاضي النائم—بشدّة— علي إبراهيم، الذي لم يرَ فساداً في لبنان إلا في بلدية حمّانا) يندرج في بند المقاومة. لقد نفذ العدوّ في أرضنا من ثغرات الفساد. سألتُ رجل أعمال عربياً معروفاً كان قريباً من قادة المقاومة الفلسطينيّة عن سبب انهيار الجبهة في صيف 1982 في الجنوب فقال لي: الكثير من القادة كانوا عملاء لإسرائيل، بصراحة. استغلّت إسرائيل فسادهم واشترتهم. وبعضهم حمل نياشين ونجوماً جديدة بعد استدعائه إلى رام الله بعد أوسلو. إن مشهد نبيه برّي وهو يتلو بياناً مُعدّاً بالإنكليزيّة في وزارة الخارجية الأميركيّة ويشير إلى إسرائيل («الشرّ المطلق» في أدبيّات حركة «أمل») بـ«حكومة إسرائيل» كان نذير شؤم. وكتب بعضنا عن ذلك في حينه. وقد تزامن إطلاق عمليّة التفاوض المستعجل في حينه مع إطلاق اتفاقيات أبراهام. كان واضحاً أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب أدرجت التفاوض اللبناني-الإسرائيلي من ضمن ملف التطبيع المشين—ولم يعترض لبنان. كان يمكن للبنان أن يتريّث أسابيع قليلة حتى انجلاء نتائج الانتخابات الأميركيّة قبل أن يمضي وينزلق في التفاوض، لكن لا. أصرّ لبنان على الامتثال للأوامر الأميركيّة. ولم يكن هناك اعتراض. من سيعترض؟ كل فريق 14 آذار وأقصى يمين 14 آذار (أي «الثوار») يريد التفاوض بيننا وبين العدو حول كل شيء وصولاً للسلام الكامل والشامل والتام. وفي 8 آذار لم يكن هناك اعتراض خصوصاً وأن نبيه برّي تولّى بنفسه التفاوض مع الأميركيّين حول إطلاق العمليّة، التي تسلّمها منه بعده ميشال عون —وعون يقود الفريق الذي لا يكنّ عقيدة عداء لإسرائيل.
ولبنان له تاريخ طويل في المفاوضات العقيمة والتي يديرها أعداؤه له. لم يُكتب بعد تاريخ مفاوضات 17 أيّار. هذه كانت مفاوضات أدارتها إسرائيل بالنيابة عن لبنان، وكان غسان تويني من مجموعة تميّزت بالحماسة الشديدة (أين اختفت كل صور مفاوضات 17 أيّار. بالكاد تجد بعضاً منها على الإنترنت. كم من الشخصيّات من مختلف الطوائف شاركت في المفاوضات، لم يكن أمين المعلوف وداود الصايغ وحدهما هناك). إسرائيل اختارت رئيس فريق التفاوض اللبناني، بشخص أنطوان فتّال. من المؤكد أن الحكومة الإسرائيليّة كانت تعرفه خلال عمله الديبلوماسي. والطريف في المرحلة الأخيرة أن «الخبيرة» النفطيّة، لوري هايتايان، باتت تزايد على عداء الحزب لإسرائيل وتطالب بمواقف حادة في المفاوضات لكنها، كالعادة، تجد خلاص لبنان في شخص المفاوض الإسرائيلي، آموس هوكشتين. وهي كانت، قبل تعيينه مفاوضاً «محايداً» بيننا وبين العدوّ، قد ناشدت وزير الخارجيّة الأميركي (بتمون عليه) كي يعيّن أموس الذي له باع طويلة في خدمة مصالح إسرائيل، لمن اكترث بمعرفة ماضيه ومواقفه وجنسيّته.
إن المسار الكارثي الذي يجد لبنان نفسه فيه لا يمكن تحميله لـ 14 آذار مع أن السنيورة كان — كالعادة — مبادراً في التفريط في الحقوق اللبنانيّة. إن الحكومة التي أطلقت المسار الأخير من التفاوض هي حكومة خاضعة لـ 8 آذار. ونبيه بري (حليف الحزب الأوثق) كان الصلة بين الحكومة اللبنانيّة وبين الإدارة الأميركيّة في هذا الملف. وأميركا باتت تمسك بتلابيب كل الزعماء الفاسدين في لبنان لأنها تتحكّم بثرواتهم وتتحكّم أيضاً بمصائر إرثهم لأولادهم وأحفادهم من بعدهم. تستطيع بشحطة قلم أن تجمّد حسابات أي منهم. والثري الذي يحتفظ بملايين في مصارف غربيّة (وهذا يسري على كل زعماء لبنان باستثناء حسن نصرالله وقادة الحزب) هو رهينة بيد الإدارة الأميركيّة تماماً كما أن الجالية اللبنانيّة في السعوديّة والإمارات ليسوا إلا رهائن يجب أن يقابلوا حق الإقامة بالطاعة والولاء والسجود قبل الأكل وبعده. عندما يترك الحزب مسألة مصيريّة بيد نبيه بري أو ميشال عون أو الياس بو صعب أو أي من الحلفاء الأثرياء، فهو يتيح لأميركا استغلال ورقة العقوبات التي أوقفت بعد 2001 كل تمويل من الأثرياء الفلسطينيّين حول العالم لصالح منظمة التحرير. هي نسّقت مع أنظمة الخليج كي تقضي على منظمة التحرير (وهي كانت فاسدة بيد عرفات وبيد عبّاس من بعده).

هذه المرّة لا نستطيع أن نتّهم أعداء المقاومة بنصب الفخ. الفخ منصوب من قبل الذين يخافون من غضب أميركا لو هم اعترضوا على مشيئتها


ما كان على لبنان أن يقبل وساطة الإدارة الأميركيّة. اقرأوا كتاب فريدريك هوف كي تزيلوا من أذهانكم فكرة الأميركي المحايد. أميركا قادت منذ عام 1970 مسيرة السلام ولم تحد في كل تلك العقود عن خدمة مصالح إسرائيل وعن استغلال شكليّة مسار التفاوض كي تدفع باتجاه حلول فرديّة تقضي على القضيّة الفلسطينيّة. في أي مفصل من مسار الصراع العربي-الإسرائيلي أثبتت أميركا أنها —في أي ملف— تستطيع أن تقف على مسافة واحدة (كي نستعمل لغة سفير سعودي سابق) من الأطراف المتنازعة؟ لم يكن هناك ملف واحد. لا، ميشال عون أصرّ على الوسيط الأميركي وقال بأنه نزيه. كيف تجلّت نزاهة أميركا؟ في شنّ الحرب ضد تيّارك فقط بسبب تحالفه مع المقاومة؟ تاريخيّاً، الأداء العربي في التفاوض الدولي أداء تعيس (عبد الناصر كان صلباً لكنه قبل بمبادرة روجرز على مضض لأنه كان يعدّ للحرب). كان أنور السادات يقدّم من التنازلات ما يُدهش الأميركيّين الذين كانوا يرون أنه كان يذهب بعيداً جداً (سمعتُ ذلك من ويليام كوانت ومن هارولد ساندرز اللذين عملا في شؤون المفاوضات في عهد كارتر). وفي لبنان، سلّم أمين الجميّل إدارة المفاوضات إلى الوفد الإسرائيلي وأنصاره في الوفد اللبناني —هل يعلم الشعب اللبناني أن جويس الجميّل صفعت إيلي سالم (وزير الخارجيّة في حينه) عندما نصح في مرحلة لاحقة أمين الجميّل بإلغاء الاتفاق؟ وبعد انسحاب إسرائيل المذِلّ في عام 2000، أصرّ رفيق الحريري على الاستعانة بوساطة مُدارة أميركيّاً في الأمم المتحدة وقرّرت أميركا في حينه —خلافاً للقانون الدولي— أن الأمم المتحدة تستطيع، فقط في حالة الحدود بين لبنان وفلسطين، تحديد الحدود من عندها (وكان لتيري رود لارسن — صديق مغتصب الأطفال جيفري إبستين، والمعروف بضعفه أمام أصحاب المال، مثل رفيق الحريري— دورَ المنفِّذ للإرادة الصهيونيّة). ما هي سوابق ميشال عون ونبيه برّي وكل قادة الأحزاب الذين لم يعترض منهم أحد عن تفويض حليف إسرائيل الأوّل، أي أميركا، مهام التفاوض الحيادي؟ أميركا ناصرت كل عدوان إسرائيلي على لبنان وهي موّلت كل القنابل والصواريخ التي هطلت على رؤوس شعبنا، ويقول ميشال عون إن أميركا هي خير المفاوض النزيه بيننا وبين العدوّ؟
إن التفاوض مع أميركا أو عبر أميركا هي مهمّة محفوفة بالمخاطر. إدارة روحاني - ظريف فاوضت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما حول المشروع النووي. كان المفاوض الإيراني أكثر صلابة من المفاوض الفلسطيني (ومفاوضو منظمّة التحرير من أسوأ نماذج التفاوض الديبلوماسي عبر السنوات والعقود، يكفي أن تتذكّر أن ياسر عرفات فوّض ياسر عبد ربّه بتدشين التفاوض بين منظمة التحرير والإدارة الأميركيّة عندما قبل عرفات أن يقرأ بياناً أعدّته له وزارة الخارجية الأميركيّة كشرط لبدء التفاوض). لكننا اليوم ندرك أن جواد ظريف لم يكن أفضل من ياسر عرفات في التفاوض. هو قال في حينه إن توقيع جون كيري هو الضمانة للاتفاقيّة. طبعاً، كان منتقدو ظريف في طهران على حقّ وإيران تدفع اليوم ثمن الإدارة السيّئة للمفاوضات من قبل ظريف.
وزادت أميركا في إذلال لبنان عبر تعيين مفاوض إسرائيلي-أميركي. كيف مرّت هذه؟ تصوّر لو أن لبنان مثلاً أصرّ على مفاوض لبناني-أميركي محايد بينه وبين العدوّ. هل كانت أميركا ستقبل بذلك؟ (أميركا مثلاً تقبل بتعيين سفير أميركي في تل أبيب لو كان أولاده من حملة الجنسيّة الإسرائيليّة لكن لا يمكن أن تسمح بسفير يحمل أبناؤه مثلاً الجنسية الإيرانية أو السوريّة). أميركا هي أقلّ دولة حياديّة في مسائل الصراع العربي-الإسرائيلي. وحده لبنان لا يزال يصدّق مزاعم لا تقول بها أميركا نفسها عن حياديّة لها نحو الصراع العربي-الإسرائيلي.
هنا يدرك حزب الله أن التحالفات والتهاون مع الفساد (عندما يختار الحزب أو يقبل بمرشحين فاسدين فإنه يكون متبنّياً للفساد. الذي قبل بمروان خير الدين لا يستطيع أن يرفع لواء الدفاع عن المودعين المظلومين) هو في تضاد مع مشروع المقاومة. الحزب يتعامل مع الحكم أنه يثق بحلفائه ولو كانوا من الفاسدين إذا ما حافظ على سلاحه الجاهز للدفاع عن لبنان. هذه المرّة لا نستطيع أن نتّهم أعداء المقاومة بنصب الفخ. الفخ منصوب من قبل الذين يخافون من غضب أميركا لو هم اعترضوا على مشيئتها. هذه المفاوضات يجب أن تتوقّف. لن يحلّها مفاوض ماهر. وهناك نميمة بين أعضاء الوفد وبين بعضهم وبعض أركان السلطة. لبنان منقسم والانقسام يظهر في تشكيل أي وفد. هناك فريق لبناني عريض بات متقنعاً بضرورة لحاق لبنان بمسار التطبيع الخليجي وليس الحملة على المقاومة إلا تنفيذاً لأجندة خارجيّة. وميشال عون وجبران باسيل وغيرهما من أفراد الحكم ومن الإعلام الفاسد يتحدّثون عن «خط تفاوضي». من يدخل إلى مفاوضات بتعريف موقف رسمي على أنه تفاوضي؟ هل هناك أغبى من ذلك أو قد يكون الغباء هنا حكماً مُلطّفاً عن مواقف ومقاصد هؤلاء. من يقول لعدوّه نحن نريد هذا الخط لكننا غير جادّين ومستعدّين للتنازل عنه؟! لا، وعندما حردَ المفاوض الإسرائيلي-الأميركي المُحايد وقاطع لبنان، سارع كثيرون إلى الإعلان بأن الخط 29 ليس إلا خطاً تفاوضياً. يعني لبنان العريق في التفريط بحقوقه يتنازل لعدوّه قبل بدء المفاوضات فيما يقوم أنصار العدوّ على المواقع وفي الإعلام بتحريض الحزب على إشعال حرب فقط كي يحمّله المسؤوليّة عن أي دمار يقع من جراء دفاع لبنان عن حقوقه.
الحزب مُلام لو أقدمَ ولو انكفأ، لكن هذا ما يستطيع هو أن يتعامل معه. أمّا الوطن فهو مُطالب بالرد من أجل وقف الإذلال والمهانة التي تلحقها المفاوضات به والتي كان من المفترض أن يكون تحرير 2000 وصدّ عدوان تمّوز قد شفيا لبنان منها. إن خيار محكمة العدل الدوليّة أو توكيل طرف ثالث لا صلة له بالصراع العربي-الإسرائيلي سيكون أقلّ ضرراً من المهزلة الجارية.
* كاتب عربي ــــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@