التداخل بين الأزمات، الذي أظهرته الحرب في أوكرانيا، يجعل منها ظاهرة، لا نقول غير مسبوقة، ولكن جديدة، نسبياً، في العلاقات الدولية. الحروب عادةً ما تبدأ بصراع جيوسياسي، ثم تنتقل إلى مسار عسكري، سواء مباشرة أو بالواسطة، قبل أن تحصل الهزيمة لأحد الطرفين، وتبدأ الحقائق الجديدة بالظهور، والتي على ضوئها يُعاد إنتاج المشهد السياسي، سواء إقليمياً، أو على مستوى العالم. حصل ذلك في جلّ حروب القرن الماضي، وحتى مع حروب بدايات القرن الحالي، وخصوصاً في العراق وأفغانستان. الاقتران بين الحرب العسكرية ونظام العقوبات لم يكن مشهداً مألوفاً، في أيٍّ من هذه الصراعات، حتى في حالة العراق إبّان حرب الخليج الثانية، حيث الحصار الذي كان أقرب صورة حينها عن الحرب الاقتصادية، ولكن ليس في سياق اعتبارها الأداة الرئيسية للإمبراطورية. كان على الولايات المتحدة بعدها أن تخوض حربين أو أكثر، في يوغوسلافيا السابقة وفي أفغانستان، ثمّ في العراق مجدداً، لتصل إلى اقتناع بأنّ ثمة بدائل أقلّ كلفة من الحرب المباشرة، والجدوى منها مضمونة، بحكم إمساك واشنطن بكلّ مفاصل الاقتصاد السياسي في العالم. من هذا المنظور، تبدو الحروب التجارية التي خاضتها الولايات المتحدة، حتى في عهد ترامب، أقرب إلى المشهد الحالي في أوكرانيا، من النزاعات التي خيضت قبلها، على خلفية جيوسياسية، حين لم يكن التصوّر لنظام العقوبات قد اكتمل بعد.
العقوبات من منظور حمائي
سياسة العقوبات التي تقودها واشنطن ضدّ موسكو حالياً تجد جذورها في المنطق الانكفائي نفسه الذي خاض على أساسه دونالد ترامب حربه التجارية ضدّ الصين. الديموقراطيون بقيادة بايدن لم ينقلبوا على إرث ترامب، في ما يتعلّق بهذه الناحية، بل طوّروه، وانتقلوا به من سياق التصعيد المحدود، مع منهج فرض الرسوم الجمركية على السلع في حالة الصين، إلى سياسة الحصار الشامل في الحالة الروسية، عبر فصل موسكو عن النظام المالي الدولي، وإجبار زبائنها الرئيسيين في أوروبا على الانتهاء من سياسة الاعتماد عليها كمورّد رئيسي لموارد الطاقة. في الحالتين، ثمّة انكفائية اقتصادية تقود هذه السياسة، حتى حين يبدو أن العكس هو الصحيح، أي أنّ ثمّة تصعيداً جيوسياسياً غير مسبوق يقوده الديموقراطيون.
التصعيد الجيوسياسي هنا لا يعكس حقيقة الفلسفة الاقتصادية للحرب، انطلاقاً من الذهاب بنظام العقوبات إلى حدّه الأقصى. الكلفة في هذه الحالة لا تقاس فقط بعدم التورّط المباشر في الصراع والاكتفاء بتوريد الأسلحة إلى أوكرانيا، بل أيضاً بمدى انعكاس نظام العقوبات على الاقتصاد الأميركي مقارنةً بالحلفاء في الاتحاد الأوروبي، الذين يتحمّلون حالياً، خلافاً لواشنطن، القسط الأوفر من تبعات الحرب، حتى سياسياً. الأداة الأساسية في الحرب حالياً، والتي هي حظر موارد النفط والغاز، لا تنعكس مباشرةً على الاقتصاد الأميركي، إلا لدى اقترانها بحالة التضخّم الموجودة أصلاً قبل الحرب. المعاناة الأميركية من ارتفاع أسعار المشتقّات النفطية، وعلى رأسها البنزين، لا تقارَن بالكارثة التي تحصل في أوروبا، على ضوء حرمانِها القسري من موارد الطاقة الروسية.
«سياسة الطاقة المستقلّة» لدى الولايات المتحدة لا تجعلها فقط أقلَّ اعتماداً على الغاز والنفط الروسيين، قياساً بأوروبا، بل أيضاً تحصِّن نظام الإنتاج هناك من تبعات الاتكال المُطلَق على موارد الطاقة الآتية من روسيا. وهي الحالة التي جعلت معظم الصناعات الأوروبية، وخصوصاً في ألمانيا، تشكو من نقص حقيقي في المواد الأوّلية اللازمة للإنتاج، ابتداءً بالغاز والنفط، مروراً بالأخشاب والمعادن، وليس انتهاءً بالأسمدة والحبوب والقمح. الثمن الذي يدفعه الأميركيون بهذا المعنى مختلف تماماً عن نظيره في أوروبا، وهو لا يرتبط بتداعي شروط عملية الإنتاج قدر ارتباطه بالمنظور الذي يرى من خلاله الديموقراطيون سياسة الطاقة الأميركية مقارنةً بالجمهوريين.

الجدل حول سياسة الطاقة
«الترحّم» الحاصل حالياً في الولايات المتحدة على ولاية ترامب، لجهة الفارق الكبير في أسعار البنزين بين اليوم والأمس، هو الذي يصنع الفارق بين حمائية ترامب، والجمهوريين عموماً، ونظيرتها الخاصّة بالديموقراطيين. اتهام الجمهوريين لبايدن حالياً بالتبعية لـ«أوبك» نابع من رؤيتهم لفقدان الولايات المتحدة القدرة على التحكُّم بالأسعار، بعد الاتجاه الذي قاده الديموقراطيون إلى تقليل الاعتماد على إنتاج الوقود الأحفوري. هم لا يعارضون كثيراً سياسة العقوبات على روسيا، المُتّبعة ديموقراطياً، لكنهم يرون أنّ جدواها كان من الممكن أن تكون أكبر بكثير لو لم يحصل هذا الانعكاس المباشر للحرب على الاقتصاد عبر ارتفاع أسعار البنزين. النقاش هناك يدور حالياً حول فاعلية قيادة الحرب من الخلف وبدون تورّط مباشر، حين تكون الجبهة الداخلية محصّنة تماماً، لا حين تبدأ الأسعار بالارتفاع، على ضوء الثغرة الكبرى الخاصّة بسياسة الطاقة. المعيار بالنسبة إلى شريحة كبرى من الأميركيين، حين يتعلّق الأمر بتأييد حرب تحصل بعيداً عنهم، هو في تحقيق نجاح، أو إحراز نقاط لا تكون على حساب حياتهم، أو مستوى معيشتهم, كما حصل في حروب سابقة. لذلك ينظر كثيرون منهم حالياً إلى حقبة ترامب باعتبارها أفضل نسبياً، لجهة كلفة السياسات على الداخل، من الحقبة الحالية، على اعتبار أنّ ثمة حروباً اقتصادية خيضت حينها أيضاً، وأبرزُها مع الصين، ولم تكن كلفتها عليهم كبيرة كما يحصل حالياً مع قيادة الديموقراطيين لحرب العقوبات ضدّ روسيا.
الجدل الاقتصادي، بالمعنى التفصيلي، لا يحضر فوراً هنا، ولكنه يقبع في خلفية كلّ ما يحصل حالياً، وخصوصاً بشأن سياسة دعم الطاقة. هروب الإدارة الديموقراطية بقيادة بايدن من هذا النقاش، عبر ردّ أسباب التضخّم إلى الحرب نفسها بقيادة روسيا، لا ينفع في طمس المسؤولية الداخلية عن هذا الانفجار الكبير في أسعار الطاقة. «النجاح» الذي يرى الديموقراطيون أنهم أحرزوه في محاصرة روسيا، وعزلها غربياً، لا يمكن صرفه داخلياً بدون توضيح الأسباب التي تجعل من إدارتهم للحرب، داخلياً، أسوأ من إدارة ترامب لحربه السابقة مع الصين. والحال أنّ مشروعية الحرب التجارية آنذاك مع الصين لم تأتِ من الحرب نفسها، بل من انعكاسها غير السلبي على الاقتصاد الأميركي. فالنموّ حينها كان قد بدأ يرتفع، ومعه مستوى التوظيف وانخفاض نسب البطالة، بالإضافة إلى الفائض الكبير الذي تحقَّق في الميزان التجاري، سواء مع الصين نفسها، بعد فرض الرسوم الجمركية، أو حتى مع الحلفاء (ألمانيا وفرنسا تحديداً) الذين فُرِضت عليهم تعريفات جمركية أيضاً أسوةً بالخصوم. هذا إذا لم نتحدّث، أيضاً، عن سياسة الطاقة التي تتسبَّب بكلّ هذه المتاعب حالياً لإدارة بايدن، جرّاء التخلّي السريع وغير المحسوب عن الاستثمار في الإنتاج النفطي، الذي يؤيّده الجمهوريون بشدّة، لمصلحة الطاقة الخضراء. وذلك في وقت بدأت تتزايد فيه الشكوك حول فاعلية هذه الأخيرة وإمكانية حلولها بالفعل محلّ الوقود الأحفوري، على ضوء انفجار مسألة الطاقة في العالم والحاجة المتزايدة للتعويض عن النقص الكبير في المعروض الذي تسبَّبَ به حظر موارد النفط الروسية.

خاتمة
كلُّ ذلك يضع شكوكاً كبرى حول فاعلية إجراءات الإدارة الحالية تجاه روسيا، ومعها جلّ السياسة التي تمحورت حول استعادة أجواء حرب ترامب التجارية ضدّ الصين، ولكن في سياق لا يبدو مشابهاً، وبأدوات عمل تفتقر إلى الحدّ الأدنى من المعرفة بأساليب وتكتيكات الحرب التجارية، في حال أريد لها النجاح. هكذا، شُنّت حرب عقوبات شاملة على أحد أكبر مورِّدي المواد الخام في العالم، في ظلّ، ليس فقط ركود تضخّمي عالمي غير مسبوق، بل أيضاً معاناة داخلية كبرى من سياسة الطاقة التي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً، حتى مع إقدام «أوبك بلاس» على زيادة إنتاج النفط بغية خفض الأسعار. الخطوة التي أتت بضغط أميركي استمرّ لأشهر على أعضاء كبار في «أوبك» لن تحلّ مشكلة الطاقة بسهولة، كما يتمنّى بايدن قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، فالأزمة هناك لا تقتصر على تداعيات الحرب في أوكرانيا، ولا حتى على سياسة أسعار النفط الخاصّة بـ«أوبك»، بل تتعداهما لتشمل أزمة التضخّم برمتها. وهذا ما أشارت إليه روسيا مراراً لدى تعليقها على تحميلها غربياً المسؤولية عن أزمة ارتفاع أسعار النفط. حتى في إطار الدعاية المضادّة التي تمارسها موسكو، يبدو تحليلها لسياق الأزمة الاقتصادية العالمية أكثر منطقية من نظيرها الغربي. ففي الولايات المتحدة، وحتى في أوروبا، ثمّة إنكار لا يزال قائماً لأثر سياسة أسعار الفائدة، ومعها إقرار رزم التحفيز البليونية، على مستقبل الاقتصاد العالمي.
الفصل بين سياسة العرض والطلب، التي يقوم عليها التبادل التجاري والسياسة النقدية التي تضعها البنوك المركزية الكبرى في العالم، لا يساعد في فهم الدينامية التي تحصل بموجبها دورات الركود والتضخّم. تسارُع وتيرة هذه الأخيرة منذ أزمة عام 2008، بفعل السيولة الكبرى التي باتت مُتاحة للبنوك والأسواق والشركات وحتى الأفراد، بدون إنتاج، يضع العالم باستمرار على حافة انفجار اقتصادي وشيك. الحمائية التي أتت مع ترامب هي من تبعات هذه الدورة، ومعها فلسفة الحروب التجارية، سواء عبر التعريفات الجمركية أو عبر نظام العقوبات. في الحالتين، ثمّة أزمة يحاول النظام الرأسمالي حلّها عبر تدفيع خصومه، سواء الاقتصاديين أو الجيوسياسيين، ثمن، ليس فقط صعودهم وتنافسيّتهم المحتملة، بل أساساً معرفتهم بطبيعة التراكم الجديد، حين ينفصل النقد عن الإنتاج والتبادل، وحتى الاستثمار، ويتحوّل إلى غاية في ذاتها.

* كاتب سوري