قرأت مقالة السيد حسن فحص في جريدة «الأخبار» الغرّاء، والتي تحمل عنوان «انثيالات طراد حمادة والذاكرة المثقوبة»، وتبدو كردّ على مقالتي، في جريدة «الأخبار» الغرّاء أيضاً، والتي تحمل عنوان «مؤتمر طهران 1982: تأسيس المقاومة الإسلامية». مع أن ما ورد في مقالة السيد حسن فحص عن مرحلة الإعداد لمؤتمر المستضعفين عام 1882 في إيران، ومن اشترك في هذا الإعداد، لا يتصل بفحوى وقصد ما كتبته عن وقائع المؤتمر وموضوعاته وما نجم عنها من قرار تأسيس المقاومة الإسلامية، ما يجعلها ردّاً خارج الموضوع. لأن التأسيس لا يرتبط في الإعداد المسبق للمؤتمر، ولأن حدوث الحرب المفاجئة واجتياح لبنان أثناء المؤتمر غيّرا موضوعاته وبدّلها.ويبقى أمر واحد أن عدم ذكر اسم المرحوم السيّد العالم الأديب العاملي هاني فحص بين الحاضرين كان بغير قصد، كما حصل مع آخرين من أعضاء المؤتمر، وخاصة وأن ما يربطني من معرفة وصداقة مع المرحوم السيد هاني فحص يجعل الأمر في هذا المحل. لقد كنّا أخوَين صديقين مناضلين معاً في حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» من الأعضاء اللبنانيين الفريدين في مؤتمرها العام، ومن الأعضاء المراقبين في المجلس الوطني الفلسطيني. وكنت أعرف علاقة المرحوم السيد هاني فحص بالثورة الإسلامية في إيران وبشخصيات معروفة في بداية الثورة، وكان لها دور في التواصل مع حركات التحرر الوطني بما فيها حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ومع ذلك، فإنه قد ورد في مقال السيد حسن فحص ما يلزم الإجابة عنه، لأن في الجواب شرحاً مضافاً لمقالة التأسيس التي يجب أن تُدرس بعناية ويبنى عليها في التأريخ لهذه المرحلة التي شهدت عصر فجر المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، ولا تزال قوتها أمل الأمّة في التحرير والنصر.
يميّز الفيلسوف الألماني هيغل بين التاريخ الواقعي والتاريخ النظري. التاريخ الواقعي هو كتابة المؤرخ لأحداث عصره. والتاريخ النظري هو كتابة المؤرخ لتاريخ عصر آخر لم يعش فيه المؤرخ. وتعدّ المذكّرات من التاريخ الواقعي بمثابة الشهادة والشهود. ولها المكانة الأولى في تاريخ الحدث لأنها تكتب عن حدث مَعيش. وعليه، فإنّ مقالة مؤتمر طهران هي مذكرات وكتابة عن حدث مَعيش شاهدة عليه، وهي أصدق الوثائق التاريخية، ولا يمكن لمؤثرات التاريخ النظري وأخطاء المؤرخين أن تحدث أثراً على صدقها وشهادتها الحقيقية الواقعية.
وتختلف مقالة المذكرات عن المقالة الصحافية في عامل الزمن. يقول ألبير كامو إن الصحافة تأريخ اللحظة. لكن زمن المذكرات أطول من لحظة الزمن للمقالة الصحافية. نحن نكتب عن حدث عمره أربعون عاماً. وعليه، من المتوقّع أن يكون بعض شهوده قد فارقوا الحياة ومنهم من لا يزال على قيد الحياة بحمد الله، وهم كثر، والذين غادروها أغلبهم استشهدوا في مسيرة المقاومة العظيمة. والدليل هو أن السيد حسن فحص نفسه يروي أحداثاً عن المرحوم أبيه، وهذا أمر طبيعي وفق عامل الزمن. ولا يدخل في أخطاء المؤرخين، لأن هذا هو التاريخ الواقعي لا النظري، والذاكرة هنا تكون فعالة في إعادة عيش الزمان مرة أخرى. والواقعية في الشهادة على الحدث هو أن الكاتب كان حاضراً وشاهداً. وكان تاريخه واقعياً وحقيقياً. هذا من الناحية الفلسفية، وفلسفة التاريخ بشكل خاص، وفي دراسة التذكر، وفعل الذاكرة، شهادة صريحة أنها ذاكرة وقّادة.
لا شك أن مؤتمر المستضعفين في منتصف شهر شعبان من المؤتمرات المهمة التي تعدّ لها العاصمة الإيرانية طهران باهتمام وفي فترة كافية من الوقت وتدعو لها شخصيات من دول إسلامية وعربية وحتى عالمية عدة. وعليه، فإن الإعداد للمؤتمر مسألة إيرانية داخلية اشترك فيها السيد هاني فحص مع أصدقائه من الإيرانيين. لكن هذا الأمر لا يدخل في مذكراتي لأنني لم أحضره ولم أشهده، ولا في موضوع المقالة، لأن المهم بالنسبة إلى المقالة هو تزامن المؤتمر مع اجتياح العدو للبنان في حرب 1982، الأمر الذي حوّل موضوعات البحث في المؤتمر إلى النظر والنقاش في أحداث الحرب المستجدة، وتغيّر ما كان قد أعدّ له من موضوعات أو برامج. الأمر الذي حصل فعلاً هذا ما يهمّنا في المذكرات، والتأريخ له باعتباره المؤتمر الذي تزامن والاجتياح في حرب 1982، وصدر فيه قرار تأسيس المقاومة الإسلامية من قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني (قده).
دوره في العلاقة بين الثورة الإسلامية والمقاومة الفلسطينية موضوع يستحقّ دراسة بشكل مستقل


الأمر الآخر أن الشخصية التي اهتمت بالدعوة لهذا المؤتمر في لبنان، كان الحاج عماد مغنية. كما أن الشخصية التي تصدّرت الحوارات مع الأعضاء والمشاركين في المؤتمر كان الجنرال علي شمخاني، ولم تكن شخصيات أخرى سواه من خارج الحرس الثوري مشاركة في الحوار. وهذا ما ذكرته، وهو واقعة حقيقية بصرف النظر عن سرديّة ما تم من تحضيرات في إيران لا تهمّ موضوع بحثنا، على صدق وقائعها، لأنها سابقة لتحوّلات المؤتمر الذي نتحدّث عنه. وإذا أردت تحليل الأسباب، فقد يكون نشوب الحرب نقل ملف المؤتمر من أصدقاء سماحة المرحوم السيد هاني فحص، على رواية حسن فحص، إلى الحرس الثوري، وكان ممثّله اللواء علي شمخاني. هذا التحليل النظري قد يكون معقولاً.
يضاف إلى ذلك أن ألفت النظر إلى مسألة قد تستحق بحثاً مستقلاً في وقت آخر تتعلق باتجاهات شخصيات لبنانية (ليس بالضرورة بينها المرحوم السيد هاني فحص، ولعل العزيز ابنه السيد حسن الذي رافقه أدرى بذلك) إلى إقامة علاقات داخلية مع شخصيات إيرانية، فيما يشبه التدخّل في الوضع الداخلي الإيراني. مثاله تأييد هذه الشخصية في مخالفة أخرى، كأن تتكون اتجاهات لإنشاء تحالفات لوبي معيّن. وهذا ما تنبّه له حزب الله، ولم يتدخّل في السياسات الداخلية الإيرانية، وكان على مسافة واحدة من الجميع ملتزماً قرار الولاية، ولذلك كان محبوباً ومحترماً من كل القوى الإيرانية والشخصيات السياسية والدينية وعلى علاقة ممتازة معها. لقد فشلت تجارب خلق علاقات ثنائية مع قيادات إيرانية على طريقة صنع لوبي وجماعات تربطها مواقف مشتركة. ولا أريد التفصيل، ولكن أعتقد أن الرسالة واضحة ممّا ذكرت. ولكنني أقدّر عالياً دور المرحوم السيد العاملي هاني فحص، والفتحاوي، ورجل الدين الشيعي الأديب، ودوره في العلاقة بين الثورة الإسلامية والمقاومة الفلسطينية، وهذا موضوع يستحق دراسة بشكل مستقل.
إن ما حصل من تحضيرات ذكرها السيد حسن فحص هو أمر طبيعي، لكن لا علاقة له في ما يتصل بموضوعات المقالة من المذكرات التي رويتها وشهدت أحداثها إلا ما تعلّق بدور الحاج عماد مغنية في الدعوة إلى المؤتمر في لبنان. وإلى تزامن هذا المؤتمر مع الحرب عام 1982،
ذكرت أنه كان في المؤتمر تياران أساسيان يبنى عليهما النظر إلى الموقف من قضية فلسطين بشكل أساسي منذ الربع الأخير من القرن العشرين حتى بدايات هذا القرن، وهو أن قوى إسلامية وعربية اتجهت للجهاد في أفغانستان وأدارت ظهرها لفلسطين والقدس. وكذلك شنّ صدام حسين حربه المفروضة على إيران، فيما الأَولى أن تكون قوّة العراق لتحرير فلسطين. واستمر هذا الأمر في الفارق بين التوجّه إلى فلسطين أو إلى أفغانستان. الإمام الخميني اتخذ قرار التوجّه إلى فلسطين، تحرير جنوب لبنان وجبل عامل من الاحتلال الجديد. وعليه يكون المؤتمر هو زمان القرار التاريخي في تأسيس المقاومة الإسلامية في لبنان، وكذلك في فلسطين. هذا هو المقصد الأوّل من المقال. المقصد الثاني يتعلّق بتحرّكنا في حرب 1982 في حركة فتح وقوات العاصفة وهو أمر لا علاقة له بما كتب السيد حسن فحص.
يبقى أنني نسيت ذكر المرحوم السيد العاملي العالِم هاني فحص. وهو أمر حصل عن غير قصد، وحتى أستدرك هذا النوع من النسيان أنصفت جميع من حضر المؤتمر من اللبنانيين والفلسطينيين بالقول إنهم جميعاً مؤسّسون للمقاومة الإسلامية في لبنان وفي فلسطين. وهذا وارد نصّاً، وعليه ترفع كل حجة ويكون التاريخ منصفاً للجميع. إن قرار الإمام الخميني كان تأسيساً للمقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان. ولم يكن قرار «إيران أوّلاً» كما يذكر السيد حسن فحص، لأنه لو كان كذلك كان يمكن أن يذهب الاهتمام إلى مناطق الهضبة الإيرانية، وله معهم علاقات قومية ولغوية ودينية ومذهبية وتاريخ حضاري مشترك وعادات وتقاليد وأعراف ومصالح استراتيجية كبرى عدة. أما الأمر في استمرار الحرب مع صدام حسين، فإنه حصل وفق قرار معاقبة المعتدي. كان الإمام يريد أن يعاقب المعتدي على حرب عدوانية كبرى، وتلك مسألة شرحتها بالتفصيل في كتابي «مرآة العارف» في مناقشة النقاط العشر التي طرحها الإمام في ذكرى «عشرة الفجر»، والعودة إليها مفيدة حتى لا نكرر الشرح في المقال.
أهمية مقالة المذكرات ليس ذكر أسماء الشخصيات الحاضرة كافة، لأنه متوفر بالتأكيد في سجلات المؤتمر لكل باحث يريد أن يكتب عنه، وهو يستحق كتابات متعددة بقدر، فيما المهم في مقالي ما يقوم على ذكر القرارات التأسيسية الكبرى لمقاومة إسلامية غيّرت وجه المنطقة في أكثر من أربعين عاماً. هنا قصد المقال وهدفه الأساسي. وما كنت أريد أن أذهب إلى مناقشات مع من أحب في مسائل خارج موضوع البحث. لكنها حصلت والخير في ما حصل.
يبنى على المقال فكرة تأسيسية مرتكزة على نظرة فلسفية باعتبار تاريخ تأسيس المقاومة هو اتخاذ القرار بالمقاومة. وما يليه يدخل في بناء القوة «وأعدّوا لهم ما استطعتم». والجانب الآخر منه يتعلّق بحرب 1982 التي يمكن أن تستكمل في كتابات إضافية عن حرب الجنوب وبيروت، إضافة إلى البقاع والجبل.
وخاتمة القول إن المقالة تاريخ واقعي في شهود وشهادة واقعيين وحقيقيين، وتدخل في ميدان المذكرات التاريخية والتاريخ الواقعي لا النظري. وهي لذلك وثيقة تاريخية يعود إليها المؤرّخون النظريون ويقيمون عليها قواعد ما يكتبون.
أمّا بخصوص القرآن والعرفان، وسلوك العارفين الصادقين، الأمر متروك في شأنها إلى ربّ العالمين.

* كاتب ووزير سابق