[إلى كلّ «روح ثوريّة» تعرف، منذ أربعين ربيعاً، الانتقال من الفكرة إلى العمل]
يُخَصَّصُ الباب السادس من «مقدّمة ابن خلدون» لمناقشة أصناف العلوم وطرق تعليمها. وعوضاً عن الشروع في استعراض أصناف العلوم رأساً، تُمهِّد بعض نسخ الكتاب لهذا التصنيف ببضعة فصول نظريّة عن «الفكر الإنسانيّ». ونقطة المبدأ في هذه المعالجة، كما هي الحال في كثيرٍ من مؤلّفات ذلك الزمن، تمييزُ الأفعال الإنسانيّة من جهتَين: الأولى، افتراقها عن الفعل الإلهيّ (مع ضرورة التشبّه بها). والثانية، شرفها ورِفعتها بالمقارنة مع الأفعال الحيوانيّة. وفي ما خصّ التمييز الثاني، ولأنّ افتراق الفعل الإنسانيّ عن الفعل الحيوانيّ مصدره العقل، فإنّ ابن خلدون (أو الناسخ الذي أضاف تلك الفصول المتميّزة في بعض النسخ) وجدَ أنّه لا بدّ من تناول الفكر الإنسانيّ وكيفيّة انتقاله من طور الفكرة إلى طور الفعل.
يختصر نصّ ابن خلدون هذه المسيرة بنقلٍ مشهور وسَبكٍ حَسَن وصيغة تجريديّة يُمكن القول إنّها أدبيّة أكثر منها علميّة، ولكنّها في الحقيقة مفيدة في الفهم وتبسيط الغاية، فيقول: «أوّل العمل آخرُ الفكرة، وأوّل الفكرة آخرُ العمل».
الذهن البشريّ، كما يشرح هذا الجزء من «المقدّمة»، يبتدرُ صاحبَه بفكرة كبيرة، بغاية عظيمة، بهدفٍ سامٍ. ولكنّه سرعان ما يتنبّه إلى أنّ دون ذلك خطواتٍ كثيرة تنقصه في ظرفه الراهن ولا تقرّبه من هدفه. فيشرع عندها إلى تقريب المسافة بينه وبين الهدف بتصوّر المرحلة التي تسبق المرحلة النهائية. فإذا وجدَ أنّ المسافة بينه وبين هدفه لم تُردَمْ بعدُ بما يُمكن له القيام به، في حدود طاقته وإمكانيّته، شرعَ في تصوّر مرحلةٍ أقربَ، ثمّ أخرى أشدّ قرباً، وهكذا إلى أن ينتهيَ بفكره إلى أقرب ما يمكن له تناوله، وحينها يشرع بالعمل. ويُمثّل ابن خلدون على هذه الحركة بمثال مبسّط حول بناء الإنسان سقفاً لبيته أو ملجئِه. فأوّل ما يخطر في فكر العاقل إذا أعياه الحَرُّ أو المطر أنّه يحتاج إلى سقف، فيدرك أنّه لا يمكن له البدء به رأساً. فيتحرّك الذهن إلى الحائط أو ما يرفع السقف، ثمّ إلى الأساس الذي يقوم عليه الحائط. فيشرع أوّلاً بالعمل في الأساس (وهو آخر ما فكّر به على الترتيب المتقدّم) إلى أن يصل بالعمل إلى السقف (وهو أوّل ما خطر في فكره). وهكذا، صار أوّلُ ما وقع عليه الفكر آخرَ ما يُمكن للمرء القيام به.
ولكنّ ابن خلدون لا يترك المسألة هنا – وكأنّه يردّ على مَن سَخِرَ سابقاً من بداهة هذا المثال، كابن قتيبة الدينوري مثلاً – بل يورِد تعليقاً مفاده أنّ ارتفاع المرتبة الإنسانيّة مقرون بما يُمكن للمرء تصوّره من سلسلة الأسباب والمسبّبات هذه، فيستنتج ما نَصُّه: «وعلى قَدر حصولِ الأسباب والمسبّبات في الفكر مُترتّبةً، تكونُ إنسانيّةُ [المَرء]. فَمِنَ الناسِ مَن تَتوالى له السببيّة في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم مَن لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ستّ [مراتب]، فتكون إنسانيّته أعلى». وفي الحقيقة، فإنّ هذا يعني أنّ علوّ المرتبة الإنسانيّة ليس مرتبطاً بالقدرة على تصوّر أهداف أبعد فحسب (فقد يصل أحدهم إلى ذلك بالرواية والنقل عن غيره)، بل في إدراك الطريق المؤدية إلى ذلك الهدف بالفكر والعمل.
■ ■ ■

ومهما يكن من أمر هذا التبسيط/التجريد الخلدونيّ (مع ما له مِن أصول في الفلسفة القديمة) وما يُمكن لأحدنا أن يورِدَ عليه من إشكالات، فإنّه يبقى، كما قلت، مفيداً في إظهار سبب فشل الكثيرين، أفراداً وجماعات ومؤسّسات، في تحقيق أهداف دعوا وسعوا إليها.
وليس في تاريخنا القريب ما هو أشدّ انطباقاً على هذا القول من قضيّة فلسطين. فما أكثر مَن تصوّر الهدف والغاية وانتهى به السعيُ مرتزقاً على موائدِ الواقعيّة والحتميّة والسلام العادل والشامل. وعلى فرض حسن النوايا، فإنّه لا يُمكن القول إلّا أنّ جُلّ الذين انتظموا في درب هذه القضية كانت أذهانهم قاصرةً أو مقصّرةً عن تصوّر سلسلة الأسباب بينهم وبين تحرير فلسطين، كلّ فلسطين (وفي حالة بعضهم، فإنّه لا مانع مِن التخيّر في الحكم عليهم بين حَدَّي الخيانة والغباء).
ما يُشكّل خطراً على العدو ليس أن يخطر في بالك «فكرة»، مهما كانت جذريّةً، بل أن تكون قادراً على تخيّل ما يفصل بينك وبين هذه الفكرة من «عمل»


ولكن، بعيداً عن هؤلاء، فإن شِئت الاعتذار لهذه الأمّة عن قصورها ثمانية عقودٍ عن تصوّر الطريق ما بينها وبين فلسطين، فَـقُـلْ إنّ الذي يزيدُ الأمرَ سوءاً هو أنّ المحتلّ والغاصب لم يزل يترصّد كلّ خطوة تخطوها حركة أو جماعة إلى هذا الهدف، فيسارع إلى إضافة عوائق ومشاكل جديدة؛ هذه التي لا يحبّ بعضهم تسميتها بـ«المؤامرات» خشية التعيير باللغة الخشبيّة. ولأنّ فلسطين ليست قضيّة تحرير أرض وشعب فحسب، بل استعادة قرارٍ وسيادة لأمّة بأكملها، فإنّ هذه المعوّقات ليست دائماً عسكريّة، هذا مع أنّ البطش الدموي يبقى سلاح الاستعمار الأثير. فيَحدُث أن يضع العدو في طريقك في لبنان مثلاً «شياطين هذا الشرق وقدّيسيه»، أو يحدث أن يُخرِجَ لكَ فتى المنظّمة الدوليّة الأغرّ الذي يتجشّم عناء تلقينك دروسَ المساواة الجندريّة.
لا أنوي الخوضَ في ذمّ أحد، ولكن القصد هو – على طريقة ابن خلدون – التذكير بأنّ الذي يرجّح إحدى كفّتَي الميزان في هذا المقام هو «المرتبة الإنسانيّة» لمَن يريد المجابهة والمقاومة؛ إنّه مَدحُ مَن «تَحقَّقَ» في إنسانيّته، حتّى لكأنَّ المسألةَ بالنسبة إليه – أي مسألة التحرير – تَحَدٍّ ذاتيّ للارتقاء بمَلَكَتِهِ وقابليّاته. ما يبدو في الظاهر أمراً يستدعي تحريك الجيوش وتنظيم القتال وحشد الطاقات هو في باطنه صقل لنفس المرء وعقله وتهذيب لخُلُقه وَسمَته وارتقاء بالإنسانيّة، في كلّ أشكالها ووجوهها. وهذا معنى أن تكون فلسطين قبلةً أولى، للفرد وللجماعة، وميزان العمل وبوصلة المسيرة، وعنوانَ كلّ تحرّر ثقافيّ وفكريّ واقتصاديّ واجتماعيّ لِمَن حملَ هذه القضيّة بصدق.
والمواجهة اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، هي في هذا «النموذج الإنسانيّ». وما يُشكّل خطراً على العدو ليس أن يخطر في بالك «فكرة»، مهما كانت جذريّةً، بل أن تكون قادراً على تخيّل ما يفصل بينك وبين هذه الفكرة من «عمل». ثمّ إنّه ولو أدرك أنّك على بعد خطواتٍ عديدةٍ من هدفك، فإنّ ما يتوجّس منه هو تأديتك لكلّ تفصيلٍ بتماميّةٍ ودقّة. وهذا مسار، إن دقّقنا النظر، أبعد من قشريّات سياسيّة وفلسفيّة كثيرة، من قبيل الشغف اللامحدود بـ«مشروع الدولة»، ولا سيّما بالمعنى المبتذل للاصطلاح، لأنّ سقف هذا الأخير – في عالَم مادِّيّ النزعة – لن يتعدّى الحلم بمستوى حياةٍ أعلى وإنفاق أكثر وترفٍ مصطنع بعوائد ريعٍ ما. وأمّا ذاك، فهو «مشروع جهاد» نحو نموذج إنسانيّ يرتّب المقدمات، ويُدرِّج الأولويّات، ويتدرّج في القابليات (من «أيّوب» إلى «حسّان»، على سبيل المثال لا الحصر)، وينتشل نفسه ومَن حوله من كلّ ضعفٍ، ولا ينسى في كلّ ذلك «أوّل فكرةٍ» أخرجته ذاتَ اجتياح من ضيق الطائفة إلى أفق الأمّة، بل إلى فضاء الإنسانيّة، لأنّها في العمق والحقيقة «آخرُ عمل» في طريق هذه المواجهة.
وما يمكن إضافته إلى ما ذكره ابن خلدون هو أنّه في مقياس الأمم والجماعات وما هو أعمّ من الفَرد الواحد، ثمّة «عقلٌ جمعيّ» يرتّب تلك الخطوات المنطقيّة ويحتّم على كلّ جيلٍ القيام بعملٍ معيّنٍ في سبيل الغاية النهائيّة. ومتى انقطعت هذه السلسلة التي تربط منجزات الآباء بواجبات الأبناء عادَت تلك الجماعة إلى مربّعها الأوّل، وكأنّها قد «نَقَضَت غزلَها من بعدِ قوّةٍ أَنكاثًا».
واليوم، ومع أنّ البلاد تتقلّب على مواجعها، وقد تقصر إذّاك الأذهان عن رؤية أيّ فكرةٍ ربّما (ولا ضيرَ، فإنّ الجوع كافر، وأكفرُ منه الخوف من الوقوع فيه)، فإنّ الرهان لا يزال على أولئك الذين خطبوا وِدّ البندقيّة، فباتت ميراثَهم «جهاداً» عن «عماد». أولئك الذين ابتدرَتهم فلسطين فكانت «أوّل الفكرة»، وحضرتهم كلّ الأسباب منذ الغُربة الأولى في غَيابَةِ عام 1982، فلم يمنعوا دمهم أن يُبذَل لأربعين ربيعاً وأكثر، حتى «آخر العمل».

* باحث لبناني