بعد أسبوعين من الاجتياح، بدأت ثلة قليلة من المقاومين بجمع الأسلحة التي خلّفتها الأحزاب والقوى، منها القذائف غير المنفجرة والكلاشنات والجاتيرات والمدافع 60 والهاون. تحت غطاء صيد العصافير، تجوّلوا نهاراً في الأحراش والسهول. يخبّئونها تحت التراب، ويعودون ليلاً لنقلها إلى مكان آمن. لم يكن هذا السلاح كافياً لردع الاحتلال. زوّدهم الحرس الثوري الإيراني بأسلحة، نقلت بحذر، بسبب الحواجز الإسرائيلية، من البقاع إلى الضاحية فالجنوب. خضع المقاومون لدورات شعبية قتالية، مكّنتهم من التعرّف إلى أنواع الأسلحة والألغام. ثم بعد شهرين، خضعوا لدورات أكثر تقدّماً في البقاع، بقيادة «الحرس»، افتتحت بدورة شارك فيها الشهيد السيد عباس الموسوي. بدأت المقاومة صناعة المخازن الصغيرة للأسلحة، بعدد متواضع لم يتجاوز الثلاثة في الجنوب. وبما أن الاحتلال كان يلاحق أي تحرّك للمقاومين، أخفيت الخزانات المستندة إلى حائط بحجارة بدلاً من التراب الذي يمكن أن يشي بأي تحرّك أثناء الطمر أو الحفر لسحب أو وضع السلاح. التخطيط للبدء بالعمليات كان من أصعب المهمات. قرّرت المقاومة البدء بزراعة العبوات. لجأ المقاومون إلى جمع الديناميت والصواعق من المنازل والعاملين على الجرافات بحجة الحاجة إليها لتفجير الصخور. كان هنالك تعطّش لقتال إسرائيل بأي شكل من الأشكال ونفاد صبر على انتظار أمر للمشاركة في عملية ما. يتحدّث الضابط في المقاومة، «أبو حسن»، عن بقائهم لساعات في عجن العبوات الناسفة في المنزل، داخل وعاء على شكل قمع للتسبّب بموجة انفجارية. ولأنهم لا يمتلكون جهاز ضبط وقت لهذه المهمة، استعانوا بـ«timer» الغسالات! كان شرح خطط العمليات يجري على خرائط تُرسم باليد، لتحديد قرب النقطة من الأماكن المحرّرة، والدفاعات الموجودة للعدو من عبوات ناسفة وأسلاك شائكة ورؤية ليلية ورادار لكشف الأفراد... بتلك الإمكانات المعدومة قاتلت المقاومة أعتى جيوش العالم.
عام 1984، قال ضابط في جيش الاحتلال: «إنهم بضعة مخرّبين لا يتجاوز عددهم الـ400 شخص، وسرعان ما نقضي عليهم». يروي أبو حسن كيف تلقوا هذا التصريح: «قرأنا العبارة في الصحف، ضحكنا، وتابعنا الإعداد للعملية المقبلة». جهّز أبو حسن ورفاقه عبوتين ووضعاها على طريق دورية صهيونية، ثم أتبعا المسار بعبوات صغيرة وصواعق لتنفجر بمن سيحاول تتبّع آثار المنفذين. انفجرت العبوة بالآلية التي ضمّت 25 عنصراً. سارت على دولابين واشتعلت، قُتل وجُرح غالبيتهم. شجاعة الأخ الذي كان يرافقنا، يقول أبو حسن، دفعته لإطلاق النار بالرشاش على من بقي حيّاً محاولاً الهرب. زحفنا ونجونا بأعجوبة. في اليوم التالي ذهب أبو حسن إلى مكان العملية لمعاينته، وجدَ رِجل أحد الجنود تتدلى على غصن زيتون والدماء تسيل منها. نجحت العبوات الصغيرة في قتل من حاول تتبّع المقاومين. لم يقرأ العدو هذه العمليّات جيّداً. كانت، من وجهة نظره، هي وإطلاق الصواريخ، مجرّد أحداث متفرّقة لا تلبث إلا أن تهمد. لم يتوقع أن مسار تلك العمليات سيكون تصاعدياً.
بدأ العدو باكتشاف دور حزب الله، باعتباره جزءاً من فصائل المقاومة الموجودة على الأرض، في الثلث الأخير من عام 1983


عام 1986، بدأت المقاومة بحرب اقتحام المواقع بعد انسحاب العدو إلى ما يسمى بالشريط الأمني. كان الأبرز اقتحام موقع الحقبان في محور صديقين، والذي صدم العدو فلم يستطع فهم ما جرى، ولم تحلّق طائراته إلا بعد مرور مدّة من الزمن. كان أولئك «المخرّبون» أقوى مما يظن. بدأ العدو باكتشاف دور حزب الله، باعتباره جزءاً من فصائل المقاومة الموجودة على الأرض، في الثلث الأخير من عام 1983. اكتشف الكيان أن هناك تنظيماً أُطلق عليه لاحقاً اسم حزب الله. فصار يرد على عملياته بشنّ غارات على مراكزه في البقاع.
أمّا العمليات الاستشهادية، فكان لها وقع آخر. حاولت المقاومة بها التعويض عن خلل التوازن العسكري، وجعل وجود الاحتلال مُكلفاً، بحيث لا يطول، وإيقاع أكبر قدر من الخسائر في ضربة واحدة. بعد الاجتياح، وفي ذروة الإحباط، تلقّى العدو صدمة باستهداف مقرّ الحاكم العسكري في صور. كان لتلك العمليات دور استنهاضي للشعب الذي شعر حينذاك باليأس، إذ لم يشهد التاريخ سابقة لهزيمة إسرائيل. عمل العدو على لملمة آثار عملية الاستشهادي أحمد قصير. تذرّع بداية بانفجار أنابيب غاز، لامتصاص الغضب والتخفيف من وقع الخسائر على المجتمع الإسرائيلي، واحتواء الجانب الاستنهاضي في الجهة المقابلة. لكن توالي العمليات الاستشهادية كشف زيف ادعاءاته. وللعبه على وعي الجنوبيين وثنيهم عن دعم المقاومة، لم يتوقف عن توزيع بيانات كُتب عليها «باقون إلى الأبد» في جنوب لبنان.
انتقلت المقاومة إلى العمليات النوعية التي توالت وتغيّرت تكتيكاتها بتغيّر الظروف الميدانيّة والسياسيّة، إلى أن حصل تطوّر إقليمي دولي جديد ترك تداعياته على لبنان والمنطقة. انهار الاتحاد السوفياتي وأُعلن عن بدء مؤتمر مدريد وعمليات السلام في المنطقة. شعرت إسرائيل أن يدها هي العليا، لكن شرارة المقاومة لم تخمد. بل أصبحت أكثر إيلاماً للعدو. في كل تلك الظروف، كانت النتائج النفسيّة والسياسيّة لعمليات المقاومة تتجاوز النتائج العسكريّة لها. صعب على العدو التكيّف مع هذا الوضع، فلم يكن أمامه سوى قتل أمين عام حزب الله السيد عباس الموسوي عام 1992. ليس قتل عقل هاشم وقائد قوات الاحتلال في لبنان أولى العمليات وآخرها. أُجبر الكيان على الخضوع، وانسحب من المستنقع اللبناني.

من عجن العبوات... إلى الصواريخ الدقيقة والمسيّرات
لا تخفي السطور التي خطّها مؤسسو كيان العدو، منذ الخمسينيات، أطماعه في لبنان. وثّقتها بوضوح كتب المؤسس ديفيد بن غوريون، وثاني رئيس وزراء موشيه شاريت، ومذكرات رئيس أركان حروب إسرائيل الأولى موشيه ديان، وأبرزها اقتطاع أجزاء من لبنان لضمّها إلى «إسرائيل». دحضت تلك الاعترافات سردية تبرير الاجتياح عام 1982 وأي نيّة للسلام. وفق تلك المذكرات، أرسل بن غوريون، في الخمسينيات، إلى شاريت، رسالة يقول فيها إنه «الوقت المناسب للانقضاض على لبنان»، باعتبار أن انطلاقة «إسرائيل» يجب أن تكون من «حدود الليطاني». لكن الأخير اعترض على التوقيت إلى أن أتى عام الاجتياح. كان لبنان، «الحلقة الأضعف» -بحسب تعبيرٍ لبن غوريون- في سلسلة الدول العربية، بخاصة بعد أن حيّدت اتفاقية كامب ديفيد تهديد مصر، أكبر دولة عربية في مواجهة إسرائيل، ما هيّأ الظرف الإقليمي لاجتياح لبنان.
يمكن القول، بوجه من وجوه المقارنة، إن الظروف السياسيّة التي كانت سائدة في لبنان في أعقاب الاجتياح مشابهة للظروف السياسيّة في فلسطين عام 1948. من أوجه التشابه هذه وجود أقلّية صهيونية في فلسطين تريد جعل تلك الأرض وطناً قوميّاً لليهود في العالم بحماية بريطانيا والمجتمع الدولي. خيّر العدو الفلسطينيين بين اثنين: الرحيل أو الموت. لم يكن الاستسلام، على عاره، خياراً متاحاً آنذاك. في لبنان، أقلّية كتائبية تحالفت مع إسرائيل، وأرادت جعل لبنان فلسطين ثانية، مع فارق أن الاجتياح كان مدعوماً بـ«دولة كاملة» هي كيان الاحتلال. في لبنان، خيّر العدو معارضي المشروع الإسرائيلي بين الرحيل أو الاستسلام، من دون أن يتوقع وجود خيار جارف ثالث هو نواة المقاومة.
شكّل اجتياح لبنان ذروة صعود إسرائيل في تدرّج توسّعها، المرتبط بالطموح والقدرة والمتغيّرات الإقليميّة والدوليّة. ليس شعار «إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات» توصيفاً واقعياً. كان تصريح أحد جنرالات العدو أكثر براعة في وصف طموح الكيان التوسعيّ، عندما وصف حدود إسرائيل بـ«حيث تصل أقدام جنودها». في 20 آب 1982، نشرت صحيفة «معاريف» مقطعاً لرئيس وزراء الاجتياح مناحيم بيغن، من محاضرة لكلية الأمن القومي وهو يقول: «نستطيع أن نتوقّع الآن أن إسرائيل ستنعم بأربعين عاماً من السلام»، عازياً ذلك إلى «اتفاقية السلام مع مصر، وعدم توقّع أي استهداف من الأردن، إضافة إلى استنزاف سوريا بعد الضربات التي تلقّتها».
في أربعينيّة انطلاق المقاومة الإسلامية، يبدو حلم بيغن مبدّداً. لم يكن يتوقّع، هو ومن خلفه، أن ثلّة من المقاومين ستغيّر مجرى المنطقة. حطّمت المقاومة طمأنينتهم. دفعته عملياتها إلى الاستقالة متذرّعاً بوفاة زوجته. لكن الحقيقة أن «بيغن لم يستطع تحمّل الأخبار المتوالية عن مقتل الجنود الإسرائيليين في لبنان»، وفق الإعلام الإسرائيلي. وبعدما كان يأمل بعقود من السلام تَحوّل لبنان إلى «وادي الدموع»، كما سمّي، وقتذاك، في الأدبيات الإسرائيلية.
لم يحقّق العدو أيّاً من أهداف الاجتياح الرئيسيّة: إقامة حكم موالٍ لإسرائيل في لبنان، أطماع توسعية تاريخية بدءاً من لبنان، تطويق سوريا، تصفية القضية الفلسطينية وتهيئة الظروف لفرض صيغة الوطن البديل في الأردن بعد تجريد الفلسطينيين من أي قدرة عسكرية.
كانت بسمة أبو حسن بشارة النصر وثقة بتلك الثلة التي أصبحت 100 ألف مقاتل. من صواريخ 107 ومدفع الهاون 60 وعجن العبوات بوعاء البئر، إلى مصانع لصناعة الصواريخ الدقيقة والمسيّرات، هذه حال المقاومة في أربعينيّتها، وهذه حال عدوّها.