بعقدها المؤتمر الوطني الثامن، ونجاحها في تحقيق خطوة مُهمّة على الصعيد التنظيمي الدّاخلي، تخطو «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» خُطوة واثقة مُتكاملة إلى الأمام نحو تحقيق النهوض والتغيير الثوري الديموقراطي الشامل في مفاصل عملها كافة. فالجبهة الشعبية عازمة كما يبدو على الارتقاء بدورها الوطني والقومي والأمميّ، كما أن المُقدمات والشواهد كثيرة على ذلك. إنها اليوم أشدّ تصميماً على تجاوز الصعوبات والتحديات الرّاهنة، وهي تستطيع ذلك بلا شك، وتمتلك المقوّمات اللازمة لتُعيد الاعتبار إلى مكانتها وموقعها وحضورها على الأصعدة كافة.ولم يكُن مُمكناً عقد المؤتمر الوطني الثامن وتحقيق هذه المهمّة الصعبة في هذه الظروف المُجافية، ووَسط حالة الحصار التي تواجهها الجبهة من كل صوب وحدب، لولا إصرار قواعدها المُناضلة وأنصارها وأسراها وكوادرها على إنجاز هذه الخطوة النضاليّة التي ستكون علامة فارقة في مسيرتها. غير أن أكثر ما تحتاج إليه الجبهة اليوم هو التفاف وتكاتف أنصارها وجمهورها بالعمل - لا بالكلام - حول برنامجها النضالي والمشاركة الفعلية في تحقيقه؛ بما يتطلبه ذلك من فتح حوار ونقاش صريح وعميق مع رفاقها وأنصارها، وسماع مواقفهم وآرائهم، والأخذ في الحسبان المزاج الشعبي الفلسطيني عموماً والجبهاوي على نحو خاص.
تُدرك الجبهة أنها تقف أمام حزمة طويلة من المهام والتحديات القديمة – الجديدة، التي يجب مواجهتها بشجاعة ووضوح، وإذ ترى أهمية تفعيل دورها الكفاحي في مواجهة العدو وأدواته، وتلحظ مهامها على صعيد بناء مؤسَّساتها وأطرها العسكريّة والجماهيريّة والسياسيّة والإعلاميّة والماليّة وغيرها وبطريقة تُخلصها من العمل التقليدي باتجاه تكريس الإبداع وتبني آليات العمل التي تعززها روح العصر، وتعتبر كل ذلك أولويات وضرورات وشروطاً للتقدَّم والنهوض. وتعلم أن الحركات الثورية تنمو بالنضال الدؤوب وخلق روافع العمل التنظيمي والكفاحي... غير أن معرفة الخلل والتشخيص الصحيح لا يكفيان، يظلان ناقصيْن لا قيمة حقيقية لهما دونما وضع العلاج وتطبيق القرارات والسياسات على أرض الواقع بالممارسة الفعلية.
لقد أخطأ كل من تعامل مع الجبهة بوصفها فصيلاً فلسطينياً تقليدياً. إنها جزء أصيل من الحالة الوطنية الفلسطينية والحركة العربية والأممية المناهضة للإمبريالية والصهيونية، وليست فصيلاً طارئاً صنعته الأنظمة، بل إنها جزء فاعل في إرهاصات التغيير التي تُعبّر عن نفسها في الشوارع والجامعات والميادين، وبخاصة بعد معركة «سيف القدس» ونتائجها الاستراتيجية، فما أحزرته الجبهة من تقدّم ملحوظ في الانتخابات الطالبيّة والنقابية في العام الماضي خير دليل وشاهد على حركتها الداخلية، وستظل الجبهة أحد هواجس وقلق دوائر العدو وخصومها السياسيين بسبب دورها وقدرتها الكامنة. فالجبهة هي التنظيم اليساري الثوري الذي ظل يرفض التدجين والتكيّف مع شروط الهزيمة.
أكدت الجبهة من خلال عقد مؤتمرها الوطني الثامن على خيار التغيير الديموقراطي – وإن جاء متأخراً 4 سنوات تقريباً - وجدّدت الثقة بالرمز الوطني الكبير الرفيق أحمد سعدات أميناً عاماً، ومنحت ثقتها لنائبه الرفيق جميل مزهر، وجدّدت في عضوية هيئاتها القيادية المركزية وأطرها الحزبية وفتحت الباب لدماء جديدة من المناضلين والمناضلات من الجيل الشاب. كما حدّدت المهام المباشرة المُلحّة التي تسعى لتحقيقها خلال السنوات القادمة، وخرجت من مؤتمرها الوطني مُوحّدة ومتماسكة أكثر من أي وقت مضى.
ومن البديهي القول بأن التجديد الثوري في الأحزاب التاريخية الكبرى، وتركيم البناء الواثق المُتدرج، مهام نضاليّة مؤلمة يرافقها عادة ظواهر كثيرة من السلب والعثرات التي لا حصر لها. كان الدكتور جورج حبش (الحكيم) يصف العملية الديموقراطية بـ«الدواء المر» الذي رغم مرارته يضمن شيئاً من العافية.
لا يتحقق التغيير دفعة واحدة، كما لا يأتي بقرار فوقي أو من خلال فرمان من «الزعيم» أو بالفكر الرغائبي والتمنيات وأحلام اليقظة، فالتغيير الحقيقي يصعد من تحت إلى فوق، تحققه الإرادة الجماعيّة للحزب الثوري بالصبر الاستثنائي للكادر، والخطط الواقعية الثورية التي تلائم كل مرحلة، وقبل كل شيء الاستعداد للعمل من أجل إحداث النقلة المطلوبة.
كما أن التجديد لا يعني استبدالاً لشخوص وأسماء بقدر ما يعني عملية كفاحيّة شاقة ويوميّة تستهدف تطوير السُّبل والأفكار والآليات وطرق العمل. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التجديد الثوري في المجتمعات البشرية وبخاصة تلك التي تواجه الاستعمار والاحتلال جزء لا يتجزأ من العملية الكفاحية الشاملة في مواجهة الذات والعدوّ في آنٍ واحد، وجزء من معركة لا تنفصل عن لوحة الصراع الأشمل، وقيل قديماً: من لا يتجدّد يتبدّد. وهذا التجديد لا يعني في أي حال من الأحوال تغييب أو إنهاء دور أي قيادي أو كادر عن المشهد الجبهاوي.
وَضَعَ المؤتمر الوطني الثامن للجبهة حزمة من الأهداف المُباشرة على رأسها تصليب البُنية التنظيميّة والكفاحيّة واعتبارها الحلقة المركزية. هذا يعني الانشداد الواعي إلى «صحة الجبهة الداخلية» والاستحقاق التنظيمي من جهة، ويعني عبور ميادين النضال وتحرير القوة الكامنة في جسم الجبهة من جهة أخرى. الأمر يتطلب حالة غير عادية من تحصين الجبهة ودور أنصارها وجمهورها الواسع وتنشيط حضورها النضالي في الميادين والساحات كافة.
وللجبهة دورها المركزي في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية باعتبارها رأس حربة اليسار الثوري الفلسطيني والعربي والأممي. وإن أولى المهام المُلقاة على كاهلها هي الدفع المستمر باتجاه تحقيق وحدة جبهتنا الداخلية على الصعيد الوطني في مواجهة مشاريع التصفية والشطب، والشروع الفوري في تأسيس الجبهة الوطنية العريضة القادرة على حمل مشروعنا التحرري الشامل في شقّيه الوطني والاجتماعي. هذه مَهمة ليست مقصورة على الجبهة الشعبية وتتحمل وزرها كل قوى المقاومة الفلسطينية، إلا أن الجبهة تظل صوتاً وازناً ورافعة أساسية من روافع (الحالة الوطنية) التي لن تقوم بدون مشاركة الجبهة ورؤيتها وحضورها.
تاريخ هذا الحزب الثوري ينسجم مع حاضره. ولنتذكر دوره الحيوي الهام في إسقاط العديد من مشاريع التصفية ومنها مشروع «حل الدولتين» وكيف تنبَّهت الجبهة إلى مخاطره وحذّرت منه، واعتبرته مؤامرة خطيرة على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب الأمة والمنطقة، فواجهته عبر تصعيد الكفاح المُسلّح كما واجهته سياسياً وإعلامياً وثقافياً وجماهيرياً وعلى الصُّعد كافّة. واليوم، مثل الأمس، لا بد من نفض الغبار عن سواعد رفاقها وأنصارها وخوض معركة لا هوادة فيها لإسقاط مشروع الحكم الذاتي الهزيل وتجاوز معيقات مرحلة أوسلو.
آن الأوان أن تطرح الجبهة مشروعها التاريخي الثوري من جديد والقائم على عودة اللاجئين إلى ديارهم وتحرير كامل التراب الوطني من النهر إلى البحر وبناء المجتمع الديموقراطي في فلسطين المحرّرة والذي يكفل العدالة والحقوق للجميع.
يتوقع الشعب الفلسطيني من الجبهة الكثير من الفعل والعمل الجاد، ويعتبرها قادرة على تسريع عجلة التغيير على المستوى الوطني، فشعبنا يدرك عُمقها الشعبي العربي والأممي، وأنها تنحاز إلى حقوق ومصالح الطبقات الشعبية المفقرة وقادرة على بناء الجسر المطلوب بين مختلف التيارات الإسلاميّة والقوميّة واليساريّة باعتبارها طرفاً موثوقاً في تحقيق الوحدة الميدانيّة والشعبيّة. وعلى الجبهة أن تستجيب لنداء الشعب وترتقي بدورها وفعاليتها الكفاحية لتكون بمستوى طموحات وتوقعات وتضحيات شعبنا.
يمكن قول الكثير عن مثالب ونواقص المؤتمر، إذ لم تحقق الجبهة من خلال مؤتمرها طموحاتها وأهدافها كاملة، بخاصة على صعيد دور ومكانة المرأة الفلسطينية في الحزب وداخل هيئاته القيادية. هذه مسألة يجب الوقوف أمامها بحزم وعدم قبولها، أو انتظار المؤتمر الوطني التاسع للقيام بهذه المهمة. وقد لا يعجب البعض انتخاب هذا الشخص أو ذاك. كل هذا جزء من النقد المطلوب ومن طبائع البشر، وهي حالة صحية في حياة الأحزاب التي تسعى دائماً للتجديد والتغيير من خلال محطاتها المركزية ومؤتمراتها الوطنية.
المطلوب اليوم هو مدّ جسور العمل والتعاون مع مختلف القوى الشعبية الفلسطينية والعربية والأممية، والطلائع العمالية والشبابية والطالبيّة وجموع المثقفين الثوريين في الوطن العربي والعالم؛ من أجل شقّ مسار ثوري جديد يصون تضحيات شعبنا وتضحيات الجبهة، وهذا هو الطريق الذي رسمه شهداؤها وجرحاها وأسراها، الطريق الذي خطّه غسّان كنفاني بالدم والحبر، الطريق الذي شقّه جيفارا غزة وأبو منصور بالرصاص، ومن شيّدوا مداميكها الأولى بالنضال والفكر والعذاب: طريق التحرير والعودة.

* كاتب فلسطيني