لا شيء يتقدّم في أي مشروع سياسي تقدّمي على مصالح الشعوب وحقّهم في الحياة الحرة الكريمة ورفاههم وإنمائهم. هذه هي نقطة الانطلاق وهذا هو الهدف الأساسي للنضال. تواجه المجتمعات العربية بشكل عام، ولبنان بشكل خاص، مشكلات كبيرة في إنتاج حياتها وفي انعدام أفق الإنماء والتقدّم. نهب ممنهج لثرواتنا الوطنية، تزايد سكاني كبير، ارتفاع مستوى البطالة، هجرة الكفاءات والمهارات العالية، ضعف البنية الإنتاجية، إلخ. كل ذلك في ظل عدم قدرة المجتمعات، كما السلطات، على بناء الدول الوطنية المستقلة من أجل السير في اتجاه تحقيق السيادة والإنماء.
لكن ما رأيناه من تعمّق الأزمة الاقتصادية والمعيشية في العديد من بلداننا، خاصة في لبنان، لم يكن ناجماً فقط عن سياسات خاطئة أو إدارات محدودة الكفاءة وعديمة النزاهة، ينبغي بالتأكيد محاسبة المسؤولين عنها، لكنه شكل من أشكال الضغط يمارسه الخارج بالتعاون مع امتداداته الداخلية بغية تحقيق أهداف سياسية تتمحور حول التطويع والتطبيع خصوصاً. امتدادات داخلية، تحظى برعاية الخارج، أدارت عملية الإفلاس والانهيار في لبنان، وكلاهما دفع إليهما الحصار من أجل تحقيق أهداف سياسية لم تعد خافية على أحد. وإلا ما معنى أن تعيش بلداننا أزمة محروقات، وهي العائمة فوق حقول الغاز والنفط، سوى أنها ممنوعة عن مواردها؟
إنّ إدراك هذا الواقع يتطلّب منا البحث عن الأسباب الحقيقية لأزماتنا وبالتالي التركيز في «نضالنا المحلي» على مراكز السلطة الفعلية في بلداننا، أي تلك التي يتحكم بها الخارج والتي تتحكم بدورها بكل سبل المعاش ومقدرات الصمود لشعبنا.
تشهد المنطقة العربية، منذ اجتياح العراق، اشتداداً في الهجمة الإمبريالية - الصهيونية - الرجعية، بغية توسيع نطاق السيطرة عليها وتثبيته، تمهيداً لتفرّغ الولايات المتحدة لمواجهة الصين، في ظل احتدام الصراع الدولي حول نظام عالمي جديد هو في طور الظهور فوق أنقاض الهيمنة الأميركية. استعملت هذه الهجمة الوسائل كافة، من الاحتلال المباشر والتدمير الممنهج لبلداننا مروراً بتوظيف الإرهاب وصولاً إلى الحصار والتجويع لشعوبنا. كما عادت أوروبا، مرة ثالثة خلال قرن واحد، ساحة لمواجهة عالمية تنذر بالتحول إلى حرب واسعة النطاق انطلاقاً من الساحة الأوكرانية. وتفتح هذه المواجهة التي تخوضها روسيا مع الحلف الأطلسي، آفاق الانتقال إلى نظام دولي جديد متعدد القطبية، على أنقاض نظام الأحادية الأميركية الذي عاث في العالم حروباً وتدميراً منذ «إسقاط» الاتحاد السوفياتي. وتشكل هذه المواجهة نتيجة حتمية للتناقض بين إصرار «الإمبراطورية» المأزومة على تعزيز هيمنتها على العالم وتوسيع سيطرتها على موارده لتغذية بقائها وبين تراجع قدرتها على تحقيق ذلك في ظل صعود دول وقوى جديدة تسعى للانفكاك عن هذه الهيمنة.
يفتح هذا الوضع الباب أمام آفاق جديدة يمكن أن تؤدي إلى تحرّر كامل المنطقة من الهيمنة وتحقيق الاستقلال الوطني الحقيقي ووضع حد للاحتلال الاستعماري لفلسطين.
أمام هذه الفرصة المتاحة، في سياق التحولات العالمية الجارية، تنبثق ضرورة العمل من أجل انخراط شرائح جديدة من الشعوب العربية في الصراع الدائر في المنطقة وحولها، بغية الدفع نحو تحقيق الاستقلال الوطني الحقيقي والخروج من التبعية وكسر الحلقة التي منعت وأعاقت قيام الدول وبناء وتطوّر المجتمعات.
أيها المناضلون العرب من كل الأطياف،
مقاومين وطنيين ويساريين وقوميين وناصريين وإسلاميين ثوريين، إن بلداننا لا تزال في مرحلة التحرر الوطني، فاستقلالها السياسي غير ناجز، ولن تقوم لها قائمة ما لم تحطم قيود التبعية وتخط لنفسها مساراً آخر للتطور ركائزه الاعتماد على الذات والتكامل في ما بينها ومع مجالها الحيوي الطبيعي. فبمجرد بقاء هذه البلدان سوقاً للإمبريالية ومصدراً لموارد أولية منهوبة، سوف يبقى إنماؤها وتقدمها عصيّين على التنفيذ لو ظلّا متمحورين حول مسألة التغيير الداخلي فقط. فشعوبنا أضحت مجرد كتل بشرية موظفة في خدمة المصالح الإمبريالية ومخططاتها وتحولت دولنا إلى هياكل قابعة معرّاة من الكرامة الوطنية يستحيل عليها التغيير الديموقراطي السلمي، وظيفتها الأساسية تزويد اقتصادات المراكز الإمبريالية بحاجاتها من الموارد البشرية، ومن النفط والغاز، والصعود إلى قطار التطبيع مع الكيان الصهيوني والقبول بفكرة «إسرائيل» ووجودها ككيان «طبيعي» لا كجسم غريب مزروع في المنطقة كقاعدة متقدمة للقوى الإمبريالية الغربية، متسيّدة على سائر الأوطان في المنطقة وشعوبها وحقوقها وكرامتها الوطنية والإنسانية وثرواتها الطبيعية الوفيرة جداً.
إن «التغيير الديموقراطي» في مجتمعاتنا تحُول دونه بنى اجتماعية تقليدية مهيمنة تدفع باتجاه الحروب والتفتيت وطغيان العصبيات على ما عداها. وتزيد من صعوبة تحقق هذا التغيير هيمنة نمط إنتاج ريعي تابع يقوم على المحاصصة والزبائنيّة وهما الوسيلتان لتوزيع الريع وإدامة السيطرة حين تكون «حنفية» الريع مفتوحة. إنه نمط إنتاج يفضي إلى الجوع والهجرة والنزاعات الأهلية لدى إقفال تلك «الحنفية».
تحقيقاً لهذه الغاية، تداعت مجموعة من المناضلين الشيوعيّين اللبنانيين، الحريصين على تاريخ حزبهم المقاوم، والرافضين لهذا الواقع


ولذلك لا يمكن مقاربة مسألة التغيير دون الأخذ في الحسبان مختلف المعطيات المؤثرة والشروط الضرورية، وبينها ما هو عميق وتاريخي مرتبط بتشكل بنياننا الاجتماعي والسياسي ودولنا الشكلية، ومنها ما هو متصل بالمرحلة الراهنة وبطبيعة الصراع الدائر في العالم. فقد كشفت مجريات ما سمي «الربيع العربي» ونهاياته أن التحكم في مسارات الانفجار الاجتماعي في البلدان غير المنتجة والمجتمعات ذات البنى ما قبل الدولتية، ليس في يد القوى والنخب الديموقراطية قليلة العدد وضعيفة التنظيم، إلا بالقدر الذي تخدم به تلك القوى مصالح قوى خارجية داعمة. كما تبين، على نحو حاسم، أن القوى الأكثر انتشاراً وتنظيماً واستعداداً في بلداننا هي القوى الدينية، وبخاصة تنظيم الإخوان المسلمين بقيادته الدولية. هذه الظاهرة تبدو طبيعية في ظل بنى اجتماعية ذات طابع ريفي غالب يحتل فيه الدين موقعاً متقدماً في الوجدان والوعي الجمعيّين، كما في الحياة اليومية. ومع انكشاف علاقة معظم القوى الدينية بالدول الاستعمارية، لأسباب تاريخية، واقتصار التباينات بينها على جوانب «ثقافية»، بعيداً عن التّوق إلى الاستقلال والتحرّر الفعليين، كشفت التدخلات الإمبريالية في مجريات الانفجار الاجتماعي وإدارته في أكثر من بلد عربي أن القوى الليبرالية الحديثة أيضاً، كما القوى الدينية، هي أحصنة التبديل لإنقاذ الأنظمة المأزومة من خلال عملية استبدال تذهب بمن فقد القدرة على الاستمرار، وتأتي بمن يواصل المهمة نفسها، في شكل جديد.
أمّا في المجتمعات المتعددة طائفياً وإتنياً، كما في سوريا ولبنان والعراق، فقد أظهرت التجارب أن قيادة عملية التغيير على أيدي القوى الليبرالية والدينية ذات الارتباطات الخارجية المكشوفة، تفضي حتماً إلى إثارة العصبيات وإدخالها في حروب داخلية ونزاعات تفتيتية مدمرة، تمهيداً لكسر إرادة الدول وإخضاعها.
لذلك، بات ضرورياً أن نستلهم بجرأة التمييز اللينيني الفذّ بين دعوة «عمال العالم للاتحاد» ودعوة «الشعوب المضطهدة للاتحاد»، إذ لا يمكن ولا يجوز، في البلدان التابعة التي هي في طور التحرر، تقديم الصراعات الطبقية على الصراع الوطني التحرري، ذلك أن جميع الصراعات في هذه البلدان إنما تُخاض في ميدان الصراع الوطني، ما يستدعي من القوى الثورية الحقيقية وهي في طور بناء قوتها وتنظيمها وقدراتها على الإمساك بالسلطة، أن تحرص على تولي قيادة الثورة الاجتماعية على نحو يفضي إلى تحقيق مكاسب ملموسة وعيانية للفئات الشعبية والمفقرة وضرب أدوات الهيمنة الداخلية، مع الحرص كذلك على عدم تهديد استقرار الوطن وتحويله ساحة صراع للقوى الخارجية كي تتحقق مآربها الاستعمارية وإعادة تركيز هيمنتها.
إن التغيير الضروري، المنشود، في بلداننا لا يمكن له أن يصيب النجاح إلا في سياق مشروع شامل، متكامل، يستطيع أن يجمع البنى التقليدية حوله إذ يحل أزمة جفاف ريوعها وازدياد حجم أعبائها. مشروع بناء الدولة الوطنية المستندة إلى اقتصاد وطني تنموي منتج يبدل في طبيعة البنية الاجتماعية ويساهم في بناء علاقات إنتاج جديدة تفرض، بالتالي، إقامة البناء الفوقي المتطور الملائم لها والذي يفتح الطريق عندها، دون شك، أمام فرص التغيير الجدي والحقيقي. فبناء اقتصاد وطني تنموي منتج لا يمكن أن يكون شعاراً أو أمراً تفصيلياً في مشروع نضالي معين، إذ يختزل بذاته مشروعاً سياسياً كاملاً، مشروعاً له مقتضياته، فلا اقتصاد وطنياً تنموياً منتجاً في ظل علاقات التبعية المذلة مع الغرب، ولا من غير مواجهة فعلية مع الإمبريالية وأدواتها في الداخل والخارج، كما أن نجاحه يتوقف بشكل كبير على التكامل العربي – العربي.
هذا المشروع التحرري يتطلب قيام حركة تحرر وطني متنوعة ضمن جغرافيا جامعة، حركة تدعو إلى انسجام الخيارات الاستراتيجية المقاومة مع السياسات الاقتصادية المبنية على التفلت من التبعية والارتهان. حركة تحرر وطني تقوم على بناء الذات الوطنية ضمن مشروع ينجز التحرر والإنماء معاً، في بنيان عماده الاشتراكية الملائمة لبلداننا. حركة تبنى مع المتغير في العالم والمنطقة عبر التحالف مع سائر القوى المقاومة. حركة تحرر وطني تفك أسر تطورنا وتعيده إلى حركته التاريخية الطبيعية. حركة تعيد النظر موضوعياً وواقعياً بما صنعه الاستعمار. حركة تدير ظهرها للغرب الناهب وتتوجه شرقاً بشجاعة وبلا خوف أو مسايرة للمصالح الغربية. حركة تحرر وطني تضعنا في قلب الصراع، وفي حركة التاريخ وليس على الهامش.
أيها المناضلون العرب،
شهد العمل الوطني واليساري والقومي في بلداننا انتكاسة مفجعة، تعددت أسبابها، وأدت إلى هذا الغياب الهائل عن الحياة السياسية وعن المشاركة الدفاعية في الحرب التي يخوضها منذ عقود تحالف إمبريالي – صهيوني- رجعي عربي ضد منطقتنا وشعوبنا بغية إنهاء القضية الفلسطينية وتأبيد الاحتلال الإسرائيلي وتثبيته جزءاً عضوياً من المنطقة، لا بل ولاعباً أساسياً فيها. وفي الوقت الذي تركت فيه مسؤولية الدفاع خلال العقدين الماضيين على عاتق قوى مقاومة إسلامية خصوصاً، كما على عاتق سوريا والعراق واليمن بدعم من إيران، وقعت معظم التيارات الوطنية واليسارية والقومية، الخائبة من إخفاقاتها، على الرغم من نجاحاتها المُحقّقة، أسيرة الإحباط والتلهّي بجلد الذات أو الانقلاب على التاريخ والمبادئ وصولاً إلى نبذ العقائد والتخلّي، بالتالي، عن أسلحتها الفكرية الضرورية لامتشاق الدور. وقد تكرست هذه الحالة على امتداد عقود تلت إسقاط الاتحاد السوفياتي وفتحت الباب طويلاً أمام هيمنة أحادية أميركية على جميع المستويات نجحت في تكريسها فكرياً عندما أقنعت خصومها بإلقاء أسلحتهم الفكرية وأهدافهم المشروعة بحجة «نهاية التاريخ» بالانتصار الماحق للرأسمالية.
ورغم نجاة قسم غير قليل من الأمينين للأفكار الوطنية واليسارية والقومية ولقضايا شعوبهم، على امتداد منطقتنا العربية، من لوثة الخضوع لخطاب الهيمنة، فإنّ انكفاءهم إلى المواكبة عن بُعد عُطّل، ولا يزال، الكثير من القدرات والطاقات المجربة. والحال، أن من شأن تحفيز هذه الطاقات واستعادة دورها الكفاحي في المعركة الصحيحة، أن يغير الكثير الكثير. تحقيقاً لهذه الغاية، تداعت مجموعة من المناضلين الشيوعيين اللبنانيين، الحريصين على تاريخ حزبهم المقاوم، والرافضين لهذا الواقع، وخصوصاً للانحراف الكبير الذي أصاب الحركة الشيوعية العربية، من لبنان إلى السودان مروراً بسوريا والعراق، وغيّر في طبيعتها وسياساتها وتموضعاتها، وقرّرت إطلاق العمل من أجل تأسيس إطار نضالي جامع، وطني تحرري، يكون خلاصة حوار واسع تنوي تنظيمه مع مناضلي التيارات الوطنية واليسارية والقومية والعروبية كافة، المدعوّين بدورهم للمساهمة في هذه العملية التاريخية الجليلة.
هي دعوة للعمل معاً من أجل تحقيق وبلورة هذا المشروع ووضع برنامج نضالي شامل له، فيه المرحلي والاستراتيجي، ويكون قادراً على استقطاب الشباب العرب التواقين للتحرر والاستقلال والعيش الكريم والعزيز في بلداننا.
فيا أيها الناجون من سطوة الأفكار المهيمنة، ها قد حانت ساعة العمل.

بيروت في 28 أيار 2022
«شيوعيون لبنانيون»،
عنهم: إبراهيم قيس – خالد خداج – ريمون كلاس – غسان ناصر