حين بدأ مسار فرض العقوبات على روسيا، كجزء من ردّ الغرب الموحَّد على تدخُّلها في أوكرانيا، لم يكن في الحسبان أنه سيكون مفارقاً، على نحو كبير، للمسارات السابقة للصراع، بينها وبين الغرب. التداعيات، حينها، اقتصرت على الكيانات والأفراد التي فُرِضت عليها العقوبات، ولم تتجاوزها إلى ما هو أبعد، إلى درجة أنها لم تتسبَّب بأزمة، حتى للاقتصاد الروسي نفسه، إذا اعتبرنا أنّ المعيار هنا هو سعر الصرف أو مؤشرات البورصة الروسية، أو حتى إمدادات السلع الأوّلية مثل النفط والغاز والغذاء. عدم انعكاس العقوبات، هيكليّاً، على الاقتصاد الروسي، أبقى الأزمتين، سواءً في جورجيا أو في الدونباس، في إطارهما الجيوسياسي، أي في إطار النزاع العسكري المحدود داخل الفضاء السوفياتي السابق. العامل الأوروبي حينها لم يكن موجوداً بالقدر نفسه، خلافاً للأزمة الحالية، حيث لم يكن الصراع مع الولايات المتحدة وحلف «الناتو» على هذا القدر من التعقيد، وكان العامل الجيوسياسي فيه أكثر حضوراً بكثير من نظيره الاقتصادي. المرحلة نفسها لم تكن قد شهدت بعد هذا البروز الكبير لاقتصاد الحرب أو الأزمات على حساب التصوّرين السياسي والجيوسياسي لهما، حيث حصلت انطلاقاً من الأزمة الاقتصادية في العام 2008 انعطافة جديدة لا ترى إمكانيةً لاستمرار التراكم الرأسمالي خارج إطار تسريع الانهيار الاقتصادي، عبر الأداة الجديدة المتمثّلة بنظام بالعقوبات.
صعود العامل الاقتصادي
والحال أنّ الاستمرار في تجاهل هذا المتغيّر، أو لِنَقُل في مقاربة المسألة الأوكرانية على ضوء أثرها الجيوسياسي فحسب، انطلاقاً من مجرّد تقويضها لنمط العلاقات الدولية السابق، هو بمثابة دعوة لفصل هذا العامل، على أهميته البالغة، عن نظيره الاقتصادي، الصاعد بقوّة، والحاسم في تأثيره، حتى على مسار الحرب نفسها. عدم متابعة أثر الحرب على الاقتصاد كما يجب، ولا نقول إهمالها، يقود حُكْماً إلى اعتبار تأثيرها محصوراً بالبقعة الجغرافية التي تجري فيها. أي كما حصل سابقاً، ليس فقط مع النزاع الروسي-الغربي، بل أيضاً مع الحروب التقليدية التي سبقته، مثل حربي العراق وأفغانستان. التقاطعات بين كلّ هذه النزاعات تخفي أثَر العوامل الأخرى التي لم تكن فاعلة حينها بالقدر الكافي، أي إلى الحدّ الذي يجعل تأثيرها مماثلاً لتأثير العوامل المُعتَبرة أساسية في الحروب، وعلى رأسها المنظور الجيوسياسي الذي طغى على شكل خوض هذه الصراعات، سواءً في جورجيا والدونباس، أو في العراق وأفغانستان، أو حتى في سوريا وليبيا واليمن.
بهذا المعنى، بقي تأثير العامل الاقتصادي محدوداً أو هامشياً، حتى في الإقليم هنا، إلى حين انفجار الأزمة في لبنان في تشرين الأوّل من العام 2019، وانتقالها لاحقاً إلى سوريا بأثر رجعي، تحت تأثير انهيار سعر الصرف القياسي، في كلا البلدين. صعود المقاربة الاقتصادية هنا تراَفقَ، مع نُذُر الأزمة الاقتصادية العالمية، بُعَيد انتشار فيروس «كورونا» على مستوى العالم. الربط بين المشهدين جعَلَ المقاربة تأخذ في الاعتبار، ليس فقط تأثير العوامل الاقتصادية، مثل سعر الصرف وحجم الناتج المحلّي وأزمة الديون وأثر تقلّبات أسعار النفط مصحوبةً بضعف عامل الطلب، بل أيضاً حصولها في ظلّ الترابط الحاصل على مستوى العالم بين هذه الأزمات، جميعها. هكذا، انعكس المسار برمّته، أو لنقل خضع لتحوّلات جذريّة، أصبح بموجبها الاقتصاد أو العامل الاقتصادي هو المحدّد للعوامل الأخرى وليس العكس. فصار التحليل، في ضوء ذلك، يعتمد على تقلّبات سعر الصرف أو اتجاهات أسعار النفط صعوداً أو هبوطاً، أكثر من اعتماده على سياسة هذا الحزب أو ذاك، حتى في المسائل الاقتصادية. وتجذَّرَ هذا الاتجاه أكثر مع الوجهة التي بدا أنّ أزمة الفيروس قد اعتمدتها، لناحية «تهميش السياسة» على مستوى العالم لمصلحة الخبراء، وخصوصاً العلماء، الذين أمسكوا بزمام الأمور لفترة، وباتت آراؤهم وتقديراتهم هي المرجع لتحديد اتجاهات أزمة الفيروس. المنحى العلمي للأزمة عمَّقَ من حاجة العالم إلى المرجعية الاقتصادية، لأنّ طابع الأزمة المركّب كان يقتضي الإلمام بالأمرين معاً، ومعهما أيضاً، السياسة نفسها، ولكن ليس قبل تحوِّلها، وتجديد أدواتها، أقلّه خلال سنتي الأزمة، لمواكبة المتغيّرات التي عصفت بالمشهد العالمي حينها.

عنصر التفاوت بين الأزمات الاقتصادية
والحال أنّ عالمية الأزمة التي صعدت بالعامل الاقتصادي إلى الواجهة لم تكن تعكس بدقّة حالَ التفاوت، ليس بين الأزمات بحدّ ذاتها، بل بين أشكال انعكاسها على المجتمعات. على اعتبار أنّ حصولها لم يكن خارج سياق الاستقطابات الاقتصادية الكبرى في العالم، وعلى رأسها الاستقطاب بين الشمال والجنوب، بالإضافة إلى أنماط الإنتاج والتنمية التي تعتبر المحدّد الرئيسي، ليس فقط لحجم الأزمة في كلّ بلد قياساً إلى غيرها، بل أيضاً، لشكل انعكاسها، داخل كلّ مجتمع على حدة. هكذا، وفي ضوء هذا الاستقطاب الكبير، تصبح أزمة الديون في لبنان أو أزمة سعر الصرف في سوريا أزمات عالمثالثية أكثر منها غربية، في حين تبدو أزمة الطلب على السلع والخدمات في ظلّ تقييد التنقّل وحركة التجارة العالمية ذات بعد رأسمالي مركزي أكثر. وهو ما ينعكس تفاوتاً، حتى على آثارهما الاجتماعية، لجهة حصول انهيار هنا، بينما يبقى الأثر في الغرب أو الشمال محصوراً، إمّا بالركود حين تبدأ الأزمة وتستفحل، أو بالتضخّم حين «توشك على الانتهاء».
الأزمة أظهَرَت ليس فقط «هشاشة النموذج» الذي تحصل بموجبه عملية التراكم ولكن أيضاً درجة «التماثل» بينها وبين الأزمات التي تحصل في دول العالم الثالث


على أنّ التفاوت يقلّ، أو يصبح ذا تأثير أكبر، نسبياً، على الشمال أو الدول الرأسمالية، حين تصيب الأزمة إمداداته في مقتل، أي كما يحصل حالياً مع الأزمة الأوكرانية. فانقطاع الإمدادات، أو تأثُّرها بنظام العقوبات الأميركي، يضع الدول الرأسمالية المركزية في أوروبا أمام تحدٍّ، لا يقلُّ أبداً عن ذاك الذي تواجهه باستمرار دول الجنوب حين تقع أزمة ديون أو انهيار سعر صرف أو حتى فقدان لأجزاء كبرى من الناتج المحلّي تحت تأثير الهجرة إلى الشمال وخروج قوّة العمل جماعياً من البلاد. الشكل الذي تأخذه الأزمة هنا يحافظ على عنصر التفاوت ذاته، ولكن هذه المرّة مع قدرة أقلّ بكثير على التكيّف، نظراً لمحدودية الخيارات التي ينطوي عليها عنصر التخلّي عن إمدادات الطاقة الآتية من روسيا. الكلفة الرخيصة للإنتاج، اعتماداً على الغاز الروسي، ومعها نظام الخدمات والاستهلاك هناك، تجعل من البدائل، ليس فقط أمراً مكلفاً، بل معيقاً لنمط الحياة نفسه، الذي يصبح تصوّره صعباً من دون هذا المصدر الرخيص والنظيف للطاقة. هذه الصعوبة هي ما يجعل الأزمة الحالية مختلفة عن سواها، أي إلى الحدّ الذي يبدو معها تأثيرها مشابهاً، إن لم نقل «مماثلاً»، لتأثير أزمات الديون وانهيار أسعار الصرف على الدول النامية.

محدودية نموذج التصنيع الكثيف
الأزمة أظهَرَت، ليس فقط «هشاشة النموذج» الذي تحصل بموجبه عملية التراكم في أكبر اقتصاد في أوروبا، ولكن أيضاً درجة «التماثل» بينها وبين الأزمات التي تحصل في دول العالم الثالث، لدى أيّ اهتزاز في نموذجها الاقتصادي. في الدول النامية، يحصل الانهيار غالباً بسبب عدم وجود هياكل للإنتاج، وهو ما يسرّع من انتقال الأزمة إلى السياسات النقدية، على شكل انهيار في سعر الصرف أو عجز عن سداد الديون. غياب هذه العوامل في أوروبا لا يجعلها محصّنة بالضرورة ضدّ الأزمات الهيكلية في الاقتصاد، كما تبيّن لنا من الأزمة الأوكرانية. فوجود هياكل إنتاج قوية، والنمو الثابت في الناتج المحلّي الإجمالي المسنود بالقيمة المضافة لليورو، بالإضافة إلى تعزيز قوّة العمل عبر عامل الهجرة، بالتالي استمرار التدفُّق اللانهائي للسلع والخدمات التي تنتجها هذه الاقتصادات، كلّ ذلك لم يمنع من وصول نموذجها في التراكم إلى حائط مسدود لدى أوّل إشارة إلى انقطاع الغاز الروسي، المحتمَل، عنها.
تأثير الحرب في أوكرانيا شمل الدول النامية كذلك، غير أنه أتى في سياق مختلف، أي خارج إطار هياكل الإنتاج والتصنيع. الانتقال بدا متناسباً مع الفروقات الكبيرة في نمطي الإنتاج والتنمية، حيث أخذ في تلك الدول شكل تضخّم مفرط وانقطاع في السلع الأساسية، وحتى الخدمات، ولكن أيضاً ضمن ما هو معتاد من انهيارات دورية. بمعنى أنّ التكيّف مع هذا الشكل الجديد لن يكون أصعب، بالنسبة إليها، من نظيره القديم، الخاصّ بأزمات الديون وانهيار أسعار الصرف. لِنَقُل أنّ الافتقار إلى التصنيع الكثيف في الجنوب العالمي، ومعه الاستهلاك والرفاهية والطلب الكبير على السلع والخدمات، يجعل من شكل الأزمة في الدول النامية، بعد وصولها إليها، وفقاً لنمط إنتاجها المتأخّر، «أقلّ منه» في نظيرتها الرأسمالية. ففي تلك الدول، لا يعرف الناس الكثير عن سياسات التقشّف، سواءً في استهلاك السلع أو الخدمات، وحين يُطلَب منهم ذلك على لسان وزراء في ألمانيا وبريطانيا وسواهما، يبدو الأمر وكأنه خروج عن سياق كامل عمره عقود من التبعية، ليس للطاقة الرخيصة بحدّ ذاتها، ولكن لسهولة تدفّق المواد الخام إلى هذه الدولة الرأسمالية أو تلك.
الرفاهية التي خُدِشت مع التلويح بحظر إمدادات الطاقة من روسيا، كشَفَت، ليس فقط عن حجم اتكال الصناعة في ألمانيا وأوروبا عموماً على الغاز الروسي، بل كذلك عن طبيعة البنية الإنتاجية هناك التي يستحيل استمرارُها في تأمين التدفُّق اللامتناهي للسلع والخدمات من دون الطاقة الرخيصة التي تمثّلها الإمدادات الآتية من روسيا. اللجوء في مواجهة هذه الأزمة إلى سياسات التقشّف، بدلاً من معالجة الخلل في البنية الإنتاجية المتكلة بشكل مُطلَق على الطاقة الرخيصة، يثبت أنّ التصنيع الكثيف ليس أفضل بالضرورة من نظيره المتأخِّر، حين تتعادل فرص الاثنين في الحصول على الموارد الأوّلية. العجز عن إيصال السلع والخدمات إلى المستهلكين هناك، بالوفرة ذاتها، هو بمثابة معادِل لإيصالها هنا في العالم الثالث بكمّيات محدودة، أي وفقاً لنموذج النُدرة، الشائع جداً، في الجنوب. في الحالتين، لا يعود عامل التصنيع هو المحدِّد لطبيعة الإنتاج أو نمط الاقتصاد، أو حتى لدرجة الرفاهية، بل سهولة الوصول إلى المواد الخام أو الأولية، بحيث يتساوى في انقطاعها، أحياناً، وفي مفاصل معيّنة من الأزمات العالمية، الاقتصادان الرأسمالي والنامي، ومعهما طبعاً نمط الاستهلاك والطلب الذي يصبح «متناظراً» بدوره، حتى وهو يميل، كالعادة، لمصلحة الدول الرأسمالية.

خاتمة
هذا التحوّل النسبي في علاقات القوّة بين الدول والاقتصادات، لا يمكن رصده لدى حصول حرب أو أزمة جيوسياسية، بالأدوات التي اعتدنا على استخدامها في مفاصِل مماثلة. ليس لأنها لم تعد صالحة، بل لأنّ جدواها أصبحت أقلّ، مع تزايُد الاعتماد على نظيرتها الخاصّة بالاقتصاد السياسي، حتى في الأزمات التي يطغى عليها عادةً الطابع الجيوسياسي البحت، مثل الأزمة الأوكرانية. ويمكن القول أيضاً بأثر رجعي إنّ جلّ الأزمات، وحتى الحروب التي حدثت في العالم منذ أزمة الرهون العقارية في العام 2008، قد أصبح، ليس فقط تحليلها، بل حتى فهمها، أسهل لدى قراءة الحدث ومعاينته، في ضوء هذه الأدوات. وهي ليست بالضرورة اقتصادية فقط، بل أحياناً تكون بمثابة مزيج من السياسة والاقتصاد، أو الجيواستراتيجيا والاقتصاد، أو حتى السوسيولوجيا والاقتصاد، إن لم نقل الثقافة أيضاً. وإبراز طابَعِها المركّب ليس افتعالاً، لأنها بالفعل كذلك، فمن دون حقول المعرفة الأخرى التي تتزاوج مع الاقتصاد يتحوّل هذا الأخير إلى مجرّد طلاسم أو معادلات رياضية مجرّدة وعصيّة على الفهم. وفي المقابل، حرمان هذه الحقول المعرفية من أدواته، في ظلّ طغيان منطقه حالياً، يجعل مقاربتها أكثر تجريداً منه، أي أقلَّ ارتباطاً، ليس فقط بالمتغيّرات الكبرى الحاصلة، بل أيضاً بأدوات فهمها.
* كاتب سوري