لم يكن أمراً عادياً أن تجرى الانتخابات النيابية في لبنان، وسط مخاوف عدة رافقت الاستعدادات لها، وتبريرات لعدم انعقادها. حصلت الانتخابات وهلّل البعض وراقب بعض آخر مفارقات عديدة سجلتها، من التحالفات إلى التصويت ثم شكل المجلس النيابي الذي تبلور عن الانتخابات والذي سيستمر لأربع سنوات مقبلة. هذا المجلس الذي يمكن القول إن هناك قوى بدأت تحضيره منذ العام 2019، أي بعد عام واحد على انتخابات عام 2018، فكان الحراك الذي بقي يضج بتداعياته إلى ما قبل الصمت الانتخابي الذي سبق حصول الانتخابات.أبرز هذه المفارقات كانت أن ينجح حزب القوات اللبنانية ترشيحاً في طرابلس في عقر دار آل كرامي، من خلال تحالفه وتشاركه مع أشرف ريفي المدعوم علناً بالمال السياسي، بقصد إحداث الفرق. لكن هذا التحالف لم يمنع ابن عائلة كرامي العميقة الجذور في طرابلس، من النجاح من خلال لائحته ولو خسر هو بفرق بسيط جداً أيضاً، علماً أن الفشل رافق مرشحي المستقبل الذين كانت تعطيهم المدينة معظم نوابها.
في دائرة صيدا وجزين كانت مفارقة كبيرة أن تنجح «القوات» بأصوات ناخبي قرى شرق صيدا والمدينة نفسها التي تعرف جعجع تاريخياً من خلال حروبه الصبيانية وما أدت إليه من اقتلاع المسيحيين من قراهم ومنازلهم وتهجيرهم وربما هجرتهم إلى الخارج.
لم يقتصر هذا المتغيّر على صيدا وطرابلس وحسب، بل انتقل أيضاً إلى دائرة الشوف وعاليه حيث كان تحالف وليد جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي مع «القوات» ومع المجتمع المدني، وقد نجحوا في اختراق اللائحة المواجهة التي تضم تحالف ارسلان ووهاب والتيار العوني. وكان عنوان الاختراق التغيير والانتقال من عباءة القديم. طبعاً لم يمس التغيير هيمنة البيك وحزبه الذي أصابه الذعر قبل الانتخابات ولكنه عاد ونجح بعدما استجمع قواه في تحفيز ناخبيه على التوحد أمام خطر إلغاء الزعامة الجنبلاطية كما زعم قاصداً بذلك تعبئة جمهوره.
أقصد في ذلك الإشارة إلى أن عدوّي حرب الجبل نجحا في تخطي كل الحواجز النفسية في ما بينهما وبين بيئتهما في استهداف عدائي واضح للمقاومة. عشية الانتخابات، وفي إطلالته الأخيرة، قدّم السيد حسن نصرالله موجزاً عما قدمته المقاومة في الدفاع عن لبنان، ليس في جنوب لبنان فقط في مواجهة العدو الإسرائيلي، وفي تثبيتها خطوط التوازن الاستراتيجي الذي صنعته بالدم، بل أيضاً في مواجهته للإرهاب التكفيري الذي ضرب منطقتنا من العراق وسوريا واستمر متقدماً نحو لبنان وفي خططه ومشروعه إقامة إمارات داعشية في كل المنطقة. لقد وقفت المقاومة سدّاً مانعاً أمام تقدّم هذا المشروع التدميري نحو لبنان، من ناحية حدوده الشرقية، فواجهته من سوريا إلى لبنان وأسهمت إسهاماً كبيراً في القضاء عليه وهو يستهدف تدمير النسيج الاجتماعي والتراث الحضاري. في إحدى المحطات التي لم يذكرها السيد رواية حقيقية تستحق أن نتذكرها جيّداً عن ارتعاد أصاب وليد جنبلاط، كما أصاب قيادات أخرى، من مهاجمة التكفيريين للدروز في إدلب وتكفيرهم، وكان أن اعتبر البيك أنه لا مانع من التنازل عن طائفته وتركهم لمصيرهم، مصرّحاً بذلك علناً، لا بل صادق على اعتبارهم فرقة غير مسلمة، مكرّراً مطالب التكفيريين لشيوخه الأجلاء بأن يتعلّموا الصلاة ويعلموها في جوامع تبنى. هل كان على السيد أن يتحدّث عن واقع حماية كل فئات المجتمع من دون أي تفرقة حتى يتذكر الدروز الوفاء لمن حماهم، كما ذكّر المسيحيين بذلك؟ هو لم يفعل وترك ذاكرة بعض الأوفياء تتحدث عن الوفاء، بينما سار الناخبان الدرزي والمسيحي إلى الانتخابات تحت ضغط بروباغندا ضاغطة طيلة ثلاث سنوات، تحرّض على العداء لحزب الله الذي أفقر البلاد والعباد، ناسين واقع الحصار الأميركي، ومنظومة الدولة العميقة التي نهبت البلد، والبيك واحد من أركانها. هذا بالرغم من أن ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، كان حاضراً بكلامه قبل انطلاق العملية الانتخابية بساعات ليؤكد صحة الكلام عن دور الحصار الأميركي وعن دعمه للمجتمع المدني لمواجهة حزب الله وعن المال الذي دفع له. وهكذا كان الاختراق فخسر حلفاء المقاومة الدروز مقاعدهم وربح آخرون من لوائح المجتمع المدني في الشوف وعاليه.
أمّا كيف كانت تأثيرات هذه الانتخابات وقانونها على الأحزاب العقائدية العلمانية؟ يمكن القول إن جماعات الطوائف كانت أكثر استعداداً وكذلك أطراف من فريق 14 آذار


أمّا كيف استطاعت جماعات «المجتمع المدني» أن تنجح في رفع أرقام نوابها، وما زلنا نتحدث عن البيئة الدرزية، حيث عداء ملفت للمقاومة، تكفي الإشارة إلى كلام النائب «المخترق» للائحة الثنائي في الجنوب على المقعد الدرزي فراس حمدان، الذي أعلن أنه يعتبر المقاومة «عصابة». لذا يمكن القول إن المقاومة أخطأت بقبولها أن يكون مدير بنك الموارد مروان خير الدين مرشحاً على هذا المقعد رغم مباركة وموافقة جنبلاطية – إرسلانية، في أجواء الحقد والتحريض على دور المصارف وحاكم مصرف لبنان في نهب أموال المودعين. الأمر نفسه ينطبق على طبيعة ذهاب المقعد الأرثوذكسي في اختراق من جماعة المجتمع المدني أيضاً.
في المفارقات أيضاً كان أمراً غير عادي أن يخترق ابن أحد مشايخ بشري، وليم طوق، قلعة حزب القوات اللبنانية، للائحة ابنة عمه زوجة جعجع، ستريدا، ويكون مقعده إضافة للائحة آل فرنجية، المنافسين الحقيقيين لجعجع في انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة.
أمّا أبرز ظاهرة ملفتة في الانتخابات كان الإعلامي جاد غصن، المرشح على إحدى لوائح شربل نحاس، والذي استطاع من خلال مواجهته للمرشحين التقليدين في جبل لبنان والمتن، مثل سامي الجميل و«القوات»، أن يترك أثراً كبيراً في الشباب مكّنه من أن يحصد نحو تسعة آلاف صوت وخسر على فارق 88 صوتاً فقط.
يبقى أن هذا القانون الانتخابي الرديء والمشوه تطغى مساوئه في تكريس الكره والتفرقة بدءاً من أعضاء اللائحة الواحدة وصولاً إلى أبناء المجتمع، وتعزيزه للطائفية من خلال الصوت التفضيلي ثم من احتسابه، وكذلك الكسور في حاصله والذي ثبت أنه هو الذي يصنع الخرق، على حسناته.
العلامة البارزة والملفتة في هذه الانتخابات أنها استطاعت أن تدخل عناصر نسائية إضافية إلى المجلس عبر لوائح المجتمع المدني وبالتأكيد عبر انتخابات المغتربين في الخارج. أمّا كيف كانت تأثيرات هذه الانتخابات وقانونها على الأحزاب العقائدية العلمانية، وهل كانت على استعداد لهذه المتغيرات؟ يمكن القول إن جماعات الطوائف كانت أكثر استعداداً وكذلك أطراف من فريق 14 آذار. في الكورة على سبيل المثال، أسقط الانقسام في الحزب القومي المرشحين على لائحتين متنافستين، الحزبيان: سليم سعادة ووليد عازار، مما سمح في نجاح القواتي فادي كرم. كذلك في المتن الشمالي أدّى عامل سوء اختيار المرشح، وكذلك لائحته، في إسقاط مرشح «القومي» في عقر دار مؤسس الحزب أنطون سعادة.
الخلاصة أن بعضاً من أفرقاء هذا البلد قرروا، أن في تحالفاتهم أو أماكن ترشحهم، إعادة صياغة لتاريخ هذا الكيان المأزوم سياسياً منذ تأسيسه وصولاً إلى تحديد خياراته ودوره وطبيعة نظامه، وعلاقاته وموقعه في الإقليم، وربما يكون الخطر عليه من ثرواته والمطامع فيها سبباً لمعادلات سياسية جديدة قد تنشأ إذا تمكن هؤلاء من تحقيق مراميهم في توتير جديد يستمر طيلة عمر هذا المجلس. هل تزعزع الحضور المقاوم في البيئات المختلفة لهذا الكيان؟ سؤال يلزمه الوقت لينضج. لقد احتضنت المقاومة حليفها المسيحي الأساسي وحمته بصدرها وقد أدركت تربّصهم به، ولو أن ذلك قد تم على حساب حلفائها العلمانيين وشركائها الأساسيين في المقاومة. وقد استطاعت أن تثبت أنها حريصة على نسيج داعم لها وأنها وفية مع الأوفياء.
* كاتبة لبنانيّة