تكتسي الانتخابات النيابية اللبنانية 2022 أهمية خاصة ومضاعفة ــــ وكذلك سابقاتها أيضاً إلى حدّ ما، بل ربما أكثر ــــ بالنظر إلى حجم التعبئة والتصعيد والتحريض ومقدارها، وماهيّة وطبيعة الشعارات التي أُطلقت في خضمّ هذه الحملة الانتخابية، والرهانات التي تصاعدت من هنا وهناك في الداخل والخارج. وقد تكشّفت للعيان وبالعين المجردة في إطار هذه العملية الانتخابية، وفي ظل التموضعات والاصطفافات والانقسامات العمودية الحادة، بخلفياتها وجذورها وامتداداتها وأبعادها، وحالة الترهّل والتحلّل العامة والشاملة على الأصعدة كافة، والتصدع والتفكك للبنى والأنساق والمؤسسات والأسلاك، بل الدولة نفسها وبرمّتها، إلى أن استقرت تقديرات الربح والخسارة وحساباتها، من ضمن معادلة المنافسة السياسية والانتخابية، في الحقيقة وعلى أرض الواقع وفي الميدان، على المقارنة والمفاضلة بين اتجاهين ومشروعين في هذا البلد، ومن خلفهما ثمة محوران ومعسكران على امتداد الإقليم والمنطقة.ــــ الملاحظة الأولى، تفترض الإحاطة بهذه المحطة، في إشارة إلى هذه الانتخابات النيابية بالتحديد، بتوقيت الحسابات الخارجية وعلى إيقاع التدخّلات الأجنبية، بشقيهما الدولي والإقليمي، بمعنى مجموعة القوى الدولية والإقليمية المعنية أو الضالعة بالشأن الداخلي اللبناني، السياسي بصورة عامة والانتخابي بصورة خاصة. ذلك أنّ المداخلات والتدخّلات والمؤثّرات والضغوط الخارجية والأجنبية تلقي بثقلها على مسار العملية الانتخابية، وقبلها تركيبة المشهد السياسي، كما كيفية تظهير المشهد الإعلامي للناس والرأي العام. وقد باتت فاضحة وسافرة في الشكل والحجم والمقدار والمضمون، وتقوم بتوظيف الأدوات والوسائل والأساليب السياسية والدبلوماسية والمالية والإعلامية واستخدامها واستعمالها في خدمة الأجندات والمشاريع والمصالح والحسابات والرهانات السياسية وغير السياسية في البلد والمنطقة.
ــــ الملاحظة الثانية، تحيلنا على السياق الذي يحيط بهذه الانتخابات على وجه العموم والتوقيت الذي تجرى فيه بالتحديد على وجه الخصوص. حيث يندرج توقيت هذه المحطة في سياق مرحلة انتقالية مؤقتة يجتازها البلد، وهي تبدو في غاية الأهمية والخطورة والدقة والحراجة والحساسية لناحية المفاعيل والمترتّبات والتداعيات، وفي غمار المخاض الذي شهده البلد ــــ ولا يزال ــــ تحت هذا العنوان، وذلك على إيقاع التحوّلات والمستجدّات في الإقليم، كما الترتيبات الإقليمية الجديدة أو المستجدّة. وقد بدأت إرهاصاتها ومؤشراتها وملامحها تتجسّد، على أن تتّضح صورة المشهد السياسي عندما ينجلي غبار المعركة الاستراتيجية، إذ تفيد المعلومات والمعطيات بتقدم اتجاهات وخيارات ورهانات سياسية واستراتيجية مقابل تراجع اتجاهات وخيارات ورهانات أخرى على امتداد المنطقة، وليس البلد فقط.
ــــ الملاحظة الثالثة، تتعلق بواقع الطبقة السياسية التقليدية وتركيبة السلطة السياسية القائمة. إذ يواجه العديد من الأحزاب والقوى السياسية الكلاسيكية أزمة سياسية غير مسبوقة، وهي أزمة ثقة، وأزمة وجود، وأزمة مصير، كما أنها أزمة أخلاقية. حيث تبدو الحريرية السياسية بالدرجة الأولى منكسرةً، وذلك لأسباب واعتبارات وحسابات خارجية وداخلية على حدّ سواء، من دون أن يعني ذلك بالضرورة وبالتبعيّة أنها اندثرت. وتبدو الجنبلاطية السياسية بالدرجة الثانية مأزومة في تحديد مصيرها في الحاضر والمستقبل. وذلك على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال، وكذلك بقية الرموز والأعلام الأخرى لجماعة عصب السلطة من فلول تجمّع 14 آذار وسائر مكوّنات هذه السلسلة وحلقاتها المركّبة والمعقّدة من التحالفات الهجينة بين مجموعات المصالح المتناقضة والمتقاطعة من القوى الفئوية والجهوية الرجعية، في إشارة إلى الإقطاعية التقليدية والأوليغارشية الرأسمالية وإكليروس الطوائف والمذاهب.
هذه الانتخابات تقع في خضمّ هذا المخاض الكبير، بإرهاصاته المدوّية وتجلّياته العميقة، لسيرورة الانتقال التدريجي من طور الجمهورية الثانية إلى طور الجمهورية الثالثة


ــــ الملاحظة الرابعة، تتناول مقاربة الاتجاهات الأخرى للخيارات البديلة والرديفة والشعارات ذات الصلة بها للقوى الأخرى من الجهات المقابلة، ومن بينها عدد كبير من الجمعيات والمنظّمات غير الحكومية وهيئات المجتمع المدني ــــ من دون التعميم ــــ وغيرها من الفاعلين السياسيين الجدد أو المستجدّين أو الطارئين، كما الفاعلين القدامى والمتجددين. إذ إن أقلّ ما يُقال في هذه التجارب والنماذج والأنماط من الخطاب والممارسة السلوكية أنها غير مسؤولة وغير موفقة وغير مدركة لأبعاد المرحلة أو اللحظة ومحاذيرها. فهي تجمع العديد ــــ بل الكثير ــــ من الأفراد والمجموعات من النفعيين والانتهازيين والطفيليين والزبائنيين والمركنتيليين والمنافقين، والذين لا يقلّون عن أسلافهم ممن سبقوهم فساداً وإفساداً، ولا يمثلون ولا يشكلون خياراً أو اتجاهاً جدّياً للتغيير الحقيقي وفق رؤية استراتيجية، بانورامية ومستدامة.
ــــ الملاحظة الخامسة تفتح بالباب راهناً وتفسح المجال لاحقاً لإجراء قراءة أولية ومبدئية في نتائج الانتخابات النيابية العتيدة وأبعادها وتبعاتها. ذلك أن هذه العملية الانتخابية يُفترض أن تعيد إطلاق عجلة العملية السياسية وإحياء نبض الحياة السياسية من جديد، من دون أن يعني ذلك التجديد للشرعية السياسية نفسها على إيقاع الرتابة النمطية والمشهدية على الإطلاق، وإنما إعادة إنتاج هذه الشرعية السياسية من رحم الشرعية الشعبية وفي بوتقتها، بصرف النظر عن ماهيّة منظومة السلطة السياسية وهويّتها وتركيبتها في مرحلة ما بعد هذه الانتخابات النيابية. مع الإشارة هنا إلى كثرة ــــ بل زحمة ــــ مجموعة المؤثّرات والضغوط والمحدّدات في هذا المضمار، الداخلية والخارجية منها على السواء.
ــــ الملاحظة السادسة، والأخيرة، تقتضي المبادرة لاستشراف المستقبل السياسي لهذا البلد على ضوء الملاحظات المدوّنة أعلاه لدى المشاركة في عملية الانتخاب بالاقتراع أو التصويت والاختيار بين المرشحين، بحسب الشعارات والخيارات والرهانات والبرامج والمشاريع السياسية، فقد تمثّل أو تشكّل هذه المحطة مناسبة ــــ بل فرصة غير مسبوقة ولا تتكرّر ــــ لكسر سياسة الحصار والهيمنة الأحادية وضرب المخطط الذي يستهدف قوة البلد ومنعته، كي يتمكن اللبنانيون حينها من إعادة بناء بلدهم على أسس صحيحة وسليمة. وذلك بعد تفكيك المؤامرة بتجنيب لبنان الانجرار أو الانزلاق لاحتمالات الفتنة والحرب والخراب والدمار بعدم السماح ــــ ولا حتى القبول ــــ بتكرار سيناريوات سوريا والعراق وليبيا واليمن، و«تحييده» حقّاً من خلال إسقاط شعارات الانعزال والانطواء والإقصاء والإلغاء لـ«جماعة المحايدين الجدد» (على نسق «جماعة المحافظين الجدد» الأميركية) والمغامرين والمقامرين بمصائر الناس. في الختام، تبقى الإشارة إلى أن هذه الانتخابات النيابية ــــ لكونها أو بوصفها هي محطة سياسية وتاريخية مفصلية ومصيرية ــــ تقع في خضمّ هذا المخاض الكبير، بإرهاصاته المدوّية وتجلّياته العميقة، لسيرورة الانتقال التدريجي من طور الجمهورية الثانية إلى طور الجمهورية الثالثة، في سياق مشروع إعادة بناء الدولة، وفي غمار عملية إعادة تكوين السلطة بعد الانتهاء من محاولات إعادة تشكيل التوازن الوطني والمبادرات بقصد الوصول أو التوصل إلى إعادة صياغة العقد الاجتماعي والسياسي في شكله ومضمونه، من بوابة انعقاد أعمال المؤتمر الوطني والدولي وفاعلياته بشأن لبنان في فرنسا ما بين الانتخابات النيابية المذكورة أعلاه والانتخابات الرئاسية المرتقبة والمزمع إجراؤها بعدها، وإن بعد حين من استحقاقها، حيث تنطلق عجلة الإنقاذ الاقتصادي وورشة الإنعاش الاجتماعي مع العهد الجديد والولاية الجديدة.
* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية