لا يخفى على أحد أنَّ النهج المعتمَد منذ عام 2000، من قبل أعداء المقاومة وخصومها، ولو بشكل متدرّج، هو تضييق الخناق عليها ومحاصرتها في الميادين كافة، أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو إعلامية. ويعود ذلك إلى فشل كل محاولات إضعافها عسكرياً، وتنبّه العدو إلى تنامي قدراتها اللوجستية والقتالية وتحصّنها بشرعية الدفاع عن الأرض والوطن التي كفلتها الدساتير الدولية، بالإضافة إلى تعزيز حضورها الشعبي لبنانياً وعربياً ودولياً. الأمر الذي جعل العدو مجبراً على الانسحاب من جنوب لبنان والبقاع الغربي بهدف سحب الذرائع منها وإسقاط شرعيَّتها وتحويلها بنظر بعض الداخل والخارج إلى ميليشيات خارجة على الدولة وعبء عليها، مستفيداً من لعنة الطائفية التي يعاني منها لبنان منذ تأسيسه، والتي ما زالت سلاحاً فعّالاً يمكن استخدامه كلما دعت الحاجة، ومن ثم الانتقال إلى شكل آخر من أشكال المواجهة يكون التفوق فيه للعدو في الخبرة والقدرة. وما التضييق الاقتصادي الراهن إلا مثال واضح على شكل المعركة الجديد الذي انتهجه العدو.ولكن ذلك ما كان له أن يتمّ إلا بتجفيف منابع القوة لدى المقاومة، بدءاً من الامتداد السوري الذي يحمي ظهرها، وصولاً إلى الإمداد الإيراني الذي يؤمّن استمراريّتها ويحافظ على تفوقها النوعي في الميدان ويحقق توازن الرعب. بعد محاولات عدة وحثيثة، من طرح فكرة «لبنان أولاً»، إلى القرار 1559، إلى اغتيال الرئيس الحريري في العام 2005، إلى خروج الجيش السوري من لبنان، إلى المحكمة الدولية، ثم إشعال فتيل الحرب السورية، نجح العدو في إبعاد الدور السوري من الواجهة ومن المشهد السياسي اللبناني والعربي، ولكنه فشل في فك الارتباط الجغرافي مع سوريا والذي يؤمّن ذلك الامتداد، وفي سد قنوات الإمداد الإيراني، إن كان على مستوى المال أو السلاح. بالتالي بدأت محاولة الاستفراد بالمقاومة وشيطنتها تطّرد وتكبر، من خلال التشكيك في ولائها اللبناني وإلصاق تهم الإتجار بالممنوعات بها، والمساواة في الدور بين إيران وإسرائيل. لا بل وصل الأمر إلى تغييب مصطلح «الاحتلال الإسرائيلي» وإحلال «الاحتلال الإيراني» مكانه، عبر إيقاظ بعض الرموز المناوئة للمقاومة، ومن ثم وضعها تحت المجهر لإظهار الشوائب والأدران التي نمت في بيئتها لنزع ثوب القداسة عنها، مستفيدين أيضاً من بعض الأخطاء والخطابات غير المسؤولة لبعض حلفاء المقاومة والمحسوبين عليها بين فينة وأخرى، الأمر الذي يسهّل على العدو والخصم القيام بمهمته بأريحية لمحاربة المقاومة من خلال بيئتها وبعض الناطقين باسمها، ناهيك عن الضغط عليها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً لتفكيك مناعتها الشعبية.
لقد بات لزاماً على المقاومة أن تبادر إلى تغيير أوراق اللعبة وتحسين شروط تموضعها بما يتناسب مع شكل المعركة الجديد


لقد بات واضحاً أن قدرات المقاومة في المواجهة غير العسكرية يشوبها الكثير من نقاط الضعف والثغرات، وهذا يعدّ أمراً طبيعياً يفرضه الواقع اللبناني ونظام الحكم الهجين المُبتلى بالمحاصصة الطائفية والانقسامات السياسية الحادة القادرة على عرقلة كل الحلول الممكنة بالاستناد إلى الدستور، بالإضافة إلى نظام اقتصادي ريعي مدولر تشكّل المصارف اللبنانية رأس حربة فيه. كل ذلك جعل من لبنان يقف على رمال متحركة ووضع رقبته تحت سيف الدولار الأميركي القادر على تركيعه وقتما شاء.
إذاً، لقد بات لزاماً على المقاومة أن تبادر إلى تغيير أوراق اللعبة وتحسين شروط تموضعها بما يتناسب مع شكل المعركة الجديد مهما كانت قد تأخرت في ذلك. فلا بدّ من وضع رؤية شاملة ومشروع واضح المعالم قادر على مواجهة التحديات المستجدّة تصارح به شعبها. وربّما يحتاج ذلك إلى الاستعانة ببعض الخبراء المتخصّصين المحليين والدوليين رغم صعوبة المهمة التي ستُلقى على عاتقهم نظراً للتعقيدات الموجودة على المستويات كافة. كما يحتاج إلى تصفية بعض الخطاب السياسي والديني من الهنات والزلات التي سمعنا أخيراً نموذجاً منها، والتي بلا شك تخدم مصلحة العدو والخصم. كذلك يحتاج إلى تمايز المقاومة عن بعض حلفائها والمحسوبين عليها في ما يخص قضايا الفساد والمجاهرة بعدم التبنّي لها، بل بالرفض الحازم الذي يدرأ أي شبهة قد تلصق بها، لاستعادة ثقة الشارع ولمنع وضعها مع الفاسدين في خانة واحدة، وذلك حفاظاً على إرث المقاومة واستمراريتها وديمومتها وعلى عدم تشويه سمعتها والذي يعتبر هدفاً رئيسياً للعدو لتحقيق مشروعه ومطلباً ملحّاً له كمقدمة للإجهاز عليها.
كما يجب على المقاومة انتهاج خطاب جديد مغاير للخطاب التعبوي الذي أدّى إلى تململ البعض في بيئتها والحاضنة الشعبية لديها، وذلك عبر الانتقال إلى خطاب عملاني يكون أكثر محاكاةً لقضايا الناس الحياتية، من دون أن يعني ذلك فصله عمّا يُحاك لها من دسائس ومؤامرات تهدف إلى تعريتها وعزلها بهدف إخضاعها للهيمنة الصهيوأميركية. كما عليها التنبّه إلى أن الرهان على المتغيرات السياسية الإقليمية والخارجية وحده غير كافٍ، بل يجب أيضاً العمل على تحصين المناعة الداخلية لمنع التسرّب الحاصل في بيئتها ضمن الإمكانات المتاحة. إنّ ما تقدّم من خطوات وأفكار ربما يكون ممرّاً إلزامياً لا بد من سلوكه للوقوف على نقطة الانطلاق التي ينتظرها مسار طويل ومهمّات شاقة، ولكن هذه المرَّة بالتركيز إلى الأمام من دون الالتفات إلى الخلف الذي من شأنه أن يشتّت الانتباه ويشوّش الرؤية.

* شاعر لبناني، أمين سر اتحاد الكتّاب اللبنانيين