تعدُّ دولُ الغرب ومالُ الاغتراب اليميني ــــ وبحماسة شديدة وإن خفَّت في الأشهر الماضية ــــ للانتخابات النيابيّة المقبلة في لبنان. وحكومات الغرب مضحكة في تعاطيها مع الانتخابات في بلادنا. هي تحرص على إجراء الانتخابات في موعدها إذا كانت واثقة من نتائجها، وهي مع التأجيل (كما حصل في ليبيا أخيراً) إذا لم تكن واثقة من النتائج. وأميركا تقدِّس الانتخابات إذا جاءت بأدواتها، ولا تعيرها اهتماماً إذا كان إهمال نتائج الانتخابات يفيد مصالحها. وهي مع الانتخابات إذا كان البلد متأرجحاً بين أعدائها وأزلامها، وهي ضدّها في الممالك والمشايخ البوليسيّة التي ترعاها. هي مع الانتخابات في فلسطين إذا أتت بعصابة «فتح» للسرقة والنصب والتنسيق الأمني، وهي ضد الانتخابات إذا أتت بـ«حماس» أو بأي فصيل يؤمن ويمارس الكفاح المسلّح. ففي أوكرانيا (رمز النضال العربي المتوافق مع أنظمة الخليج) لم تمانع أميركا أن ترعى انتفاضة منظّمة للإطاحة بنتائج انتخابات لم ترضَ عنها في 2014. في لبنان، تاريخياً، صبّت دول الغرب الكثير من الاهتمام على الانتخابات لأنه كان البلد الوحيد في العالم العربي الذي كانت تجرى فيه انتخابات (وانتخابات لبنان كانت تاريخيّاً مشوبة بالكثير من التشوّهات والتدخّلات الخارجيّة المباشرة، فدول الغرب والخليج ــــ بالإضافة إلى دول أخرى حسب السنوات ــــ كانت تنفق الملايين للتأثير على نتائج الانتخابات. انتخابات 1968 كانت انقلاباً أميركيّاً مباشراً ضد الشهابيّة في سنوات الحرب الباردة ــــ كانت الشهابيّة متعاونة إلى أقصى الحدود مع الحكومات الأميركيّة في محاربة الشيوعيّة واليسار والقوميّة العربية، بصرف النظر عن الاجتماع في الخيمة مع عبد الناصر).عمليّة الانتخابات في البلدان المُسمّاة ديموقراطيّة (أي الديموقراطيّة النخبويّة البورجوازيّة) هي نتاج اقتراح من بين أسماء وأحزاب تتقرّر في الانتقاء والتراتبيّة والأرجحيّة بناءً على المال السياسي والنظام الاقتراعي والتدخل والمال الخارجي في حالات ديموقراطيّة الدول النامية. انتخابات باراك أوباما في 2008، وما صاحبها من مفاجآت اقتراعية، يمكن أن تكون دليلاً على ما يمكن أن يؤثّر على نتائج الانتخابات اللبنانية المقبلة. العقلان المُدبِّران في العمليّة الاقتراعيّة لأوباما، ديفيد أكسلرود وديفيد بلوف، قرّرا إدخال ناخبين جدد في العمليّة الانتخابيّة ورفع مستوى الاقتراع. وهما جرّبا تلك النظريّة في الانتخابات الحزبية التمهيديّة في «مؤتمر» ولاية أيوا في 2008. قرّرا أن قطاع الشباب (الذي بقدر حماسته للمرشّح أوباما لم يكن له سجلّ اقتراعي يفوق الـ 18 في المئة) يمكن أن يُستثار وأن يُسجّل للمرّة الأولى نسبة اقتراع أرفع. وهذا ما حدث بالفعل. لكن لم تكتفِ الحملة بذلك، بل اعتمدت أيضاً على جذب المُقترعين التقليديّين ورفع نسبة اقتراع الأقليّات والنساء. وفوز أوباما كان مفاجأة كبيرة لأنه ضرب بالحسابات التقليديّة. أصبحت الانتخابات في أميركا عمليّة حسابيّة وحاسوبيّة تعتمد على برامج اقتراعية تستطيع أن تعطي ترجيحات وتوقّعات لم تكن ممكنة من قبل ــــ لكن يتطلّب النجاح إيجاد مرشّح يجذب المقترعين ــــ مثل ابن صالح الخير في عكّار مثلاً.
في الانتخابات المقبلة في لبنان، هناك عدة علامات استفهام غير مؤكدة. نسبة التصويت هي واحدة من المفاجآت في هذه الانتخابات. واستطلاعات الرأي تبني على نتائج آخر انتخابات، لكن آخر انتخابات جرت في ظروف تختلف جذريّاً عن ظروف هذه الانتخابات. لا ندري كيف سيكون السلوك الاقتراعي في هذه الانتخابات. لا ندري إذا كان الذين خاب أملهم من أحزاب الحكم، مثل التيار الوطني الحرّ، سيلزمون منازلهم أو سيقترعون لمنافسين لـ«التيار». السلوك الانتخابي للسنّة في لبنان هو لغز الألغاز، مع أن فؤاد مخزومي ورث زعامة جمال عبد الناصر عليهم. سعد الحريري أعطى إشارات واضحة بأنه لا يريد من السنّة المشاركة في الانتخابات. لسعد الحريري حساباته وهي تتلخّص في أنه يرى أن مقاطعة الانتخابات ستدلّ على شعبيّته بالنسبة إلى النظام السعودي. والصف السنّي يعاني من مرض «قوى التغيير» نفسه: كثرة الشرذمة والانقسام تمنع بروز زعيم واحد كي يسيطر على الساحة. واستطلاعات الرأي في بلد صغير مثل لبنان قد تكون أقلّ دقة من غيرها في بلدان أخرى لأن الاستطلاعات المعتمدة من شركات الاستطلاع الكبرى تعتمد على المقابلات وجهاً لوجه. ومقابلات الوجهاً لوجه هي معتمدة من شركات الاستطلاع الكبرى لأنها أكثر دقّة وتفصيلاً وتستطيع أن تستجلب شروحات ليس فقط عن اتجاهات الاقتراع، بل أيضاً عن أسباب الاقتراع وعوامل اختيار المرشحين. لكن في المناطق اللبنانيّة، الناس يعرفون بعضهم البعض، كما أن أسماء الناس تعطي فكرة عن طوائفها وأحياناً عن توجهاتها السياسيّة، ما يضفي جواً من الحذر على إعطاء الأجوبة الصريحة. في المقابل، فإن استطلاعات الهاتف قد تمنح المُجيب غطاء من الحماية وتتيح له جواً من الاستتار الضروري للتصريح بالمكنونات. وهل أن جداول المُستطلعين تتضمّن هواتف أرضية وخلويّة؟ هذه كانت مشكلة هنا وخفّضت من تقدير سلوك الشباب الاقتراعي لأنهم لا يقتنون هواتف أرضيّة.
القوى الرجعية التقليدية في 14 آذار تخوض الانتخابات في صف واحد مع شباب 14 آذار


التحالفات الانتخابيّة، كما الصراع الانتخابي، تعكس صراعات إقليميّة وعالميّة. دول الغرب وأنظمة الخليج تستثمر في الأحزاب التقليديّة في صف 14 آذار كما في صف قوى التغيير المنضوين في صف سفارات الغرب والخليج (لا أقول إن كل قوى المجتمع المدني تدخل في هذا التصنيف، لكن أكثرها يدخل فيه، والتمويل الاغترابي السخيّ يذهب نحو المرشحين الرجعيّين اليمينيّين، وكان بيان «ممفد» الأخير صريحاً حول دول التمويل مع أن البيان لم يوضّح سبب خوض الحركة لمفاوضات مع أمثال ألبرت كوستانيان وبولا يعقوبيان؟ ما المشترك معهما؟) مخابرات النظام السعودي استدعت حزبَيْ جنبلاط وجعجع وأمرتهما بتوثيق التحالف الانتخابي. كان مهماً للنظام السعودي أن يفوّت التحالف الرجعي اليميني هذا (بين قوى تصارعت في الحرب) فقط من أجل إضعاف جبهة الحزب ومنح إسرائيل جبهة مناصرة لمصالحها. في المقابل، فإن حكومات الغرب أرادت أن تشكل جبهة عريضة متراصة في مواجهة الحزب (الحزب هنا فقط بمعنى مقاومة إسرائيل لأن الفساد والتحالف مع الفساد ليس من هموم دول الغرب التي لم تتحالف تاريخيّاً إلا مع مجرمي حرب وفاسدين في كل منطقة الشرق الأوسط. تذكّروا أن كل صحافة الغرب في الانتخابات الأخيرة في لبنان اعتنقت ترشيح يحيى شمص، المتهم بتجارة المخدّرات). ومحاولة حشد قوى التغيير في جبهة متراصّة اصطدمت بالرؤوس الكبيرة في المجتمع المدني (وهذه الرؤوس الكبيرة هي غير تلك التي هدّد حسن فضل الله بأنها ستتدحرج يوم تُفتح ملفّات الفساد التي جمعها، وقد تحالف بعض هذه الرؤوس مع حزب فضل الله نفسه). كل واحد من قيادات المجتمع المدني يريد أن يكون زيلينسكي زمانه، وأن يحظى بثقة دول الغرب ودول الخليج. وتجمّع قبل أيام في مكتبة الكونغرس كوكبة من مرشحي لبنان في منافسة لإبهار اللوبي الإسرائيلي في طرق تركيع حزب الله في الانتخابات، وكان سامي الجميل وابن عمه، نديم، من ضيوف الحفلة. وكان واضحاً في التكتيكات الأميركيّة أن حلفاء إسرائيل العرب والغربيّين أرادوا إهمال أجندة الإصلاح المبهمة والتركيز بقوة على ضرورة نزع سلاح مقاومة إسرائيل. وكان أن سارت كل قوى التغيير ــــ من دون استثناء ــــ في مسار رفض سلاح مقاومة إسرائيل وتحميل شهداء المقاومة المسؤوليّة الكبرى عن ملفات الفساد. إن شهداء المقاومة الذين قدّموا حياتهم لوطنهم أصبحوا في التوليفة الجديدة هم المسؤولون عن تعيين رياض سلامة وعن سرقة وسط بيروت من مالكيها وعن نهب المصارف ــــ نفس المصارف التي طردت أعضاء حزب الله منها بأمر من وزارة الخزانة الأميركيّة.
من الصعب ترجيح وضع الأحزاب بصورة شاملة لأن الوضع المحلّي هو الغالب. والانتخابات الطائفيّة في بلد مثل لبنان هي انتخابات محليّة أكثر مما هي وطنيّة شاملة. كما أن تقسيم الدوائر الانتخابية على دوائر أصغر من مستوى كل لبنان تغلّب المصالح الطائفيّة ــــ لهذا يدعو وليد جنبلاط إلى تصغير الدوائر، مع أن برنامج الحركة الوطنية الذي وضعه أبوه اقترح جعل كل لبنان دائرة انتخابيّة واحدة. والوضع المحلّي يتداخل فيه العائلي والطائفي معاً، ويعيد إنتاج منظومة الأحزاب نفسها. وقد تجد جماعة التناصر والتناحر الطائفي أن اللوذ بزعيم الطائفة يزداد إلحاحاً في زمن الانهيار المالي. وهذا العامل يقضي على آمال فصائل التغيير. والحملة على جبران باسيل قد تعطي ثمارها، لكن تحالفات باسيل مع أحزاب الممانعة يمكن أن تعود له بفائدة سياسيّة شبيهة بفائدة تحالفات الانتخابات الماضية (اكتشف باسيل أخيراً أنه مع السلام مع إسرائيل على أن يضمن حقوق لبنان: كأن تقول أنا مع أكل اللحوم على أن تكون من الخضر فقط).
ليس هناك من أنقياء في هذه الانتخابات. صحيح: هناك أحزاب وشخصيّات وحركات وتيّارات تشكّل جزءاً من المحور الإسرائيلي ــــ الخليجي الإقليمي، وهناك في الجانب الآخر محور يضمّ أعداء إسرائيل وبعضهم غارق في الفساد، وبعضهم متأرجح في موضوع فلسطين. هناك في محور الممانعة من لم يصدر عنه موقف ضد التحالف الإماراتي ــــ الإسرائيلي: أسامة سعد (الذي خرج من محور الممانعة ودخل في منظومة بولا وسامي الجميل ولوسيان التغييريّين وهو يسعى معه للعثور على استراتيجية دفاعيّة بديلة من المقاومة) اختارَ مصطلح «بعض الأنظمة» في إشارة جريئة وصريحة إلى تحالف النظام الإماراتي مع إسرائيل. لكن كيف يمكن النظر إلى هذه الانتخابات على أنها استفتاء على الصراع مع إسرائيل وهناك جبران باسيل الذي صرّح بأنه لا يكنّ عقيدة عداء ضد إسرائيل، وهناك نبيه برّي الذي بارك، مع ميشال عون، رضوخ لبنان لشروط إسرائيل في المفاوضات البحريّة والذي قرأ بياناً أميركيّاً أشار فيه باسم الحكومة اللبنانيّة إلى «حكومة إسرائيل». وهناك أيضاً أحزاب وشخصيات ترفض أن تنطق ضد التطبيع مخافة أن ينزعج طغاة تعدّد الزوجات والأنظمة البوليسيّة في الخليج. والحزب يصرّ على أنه سيلتزم إنجاح الحلفاء، بمن فيهم مروان خير الدين، الذي أصبح رمزاً من رموز النخبة المصرفيّة الفاسدة. والحزب لا يمكنه أن ينأى بنفسه عن الفساد عندما يتحالف مع رموز من رموزه، مهما راكم حسن فضل الله من الملفّات في حروبه ضد الفساد والتي لم يتسرّب منها لنا شيء ملموس.
المفارقة الأكبر في الانتخابات الحاليّة هي في شكل التحالفات. يُقال إن الحزب الشيوعي سعى جاهداً للتحالف مع حزب الكتائب، لكن الأخير لم يقبل به. والحزب الشيوعي اللبناني نحا نحو الليبراليّة منذ اندلاع الانتفاضة وغاب دور حنا غريب الذي كان يهزّ الدولة بصراخه عندما قاد الحركة النقابيّة بفعاليّة شديدة. والحزب الذي كان حليفاً للحزب في السنوات الماضية لأن مشروع مقاومة إسرائيل كان ــــ ويجب أن يكون ــــ أكبر بكثير من الخلاف العقائدي بين الطرفين، بات يجهد في قطاعه الشبابي لإثبات النفور من حزب الله لأن الحزب ليس «كول» بمعيار شبابية النوادي العلمانيّة «الثوريّة». وهذه مشكلة «ممفد» أيضاً: كل الحركات «الثوريّة» تعادي «ممفد»، فيما «ممفد» تجهد لإثبات أنها باتت بعيدة جداً عن حزب الله وأنها توافق على شعارات السنيورة وكل 14 آذار بأن المقاومة يجب أن تُستبدل بمقاومة «مدنيّة» يقودها جوزيف عون ولوسيان بورجيلي وجورج نادر، الذي قاد فوج الطناجر بفعاليّة ورهبة عسكريّة قلَّ نظيرها في تاريخ المعارك الحربيّة. ومهما حاولت «ممفد» أن تنتقد عبر نشطائها على المواقع حزب الله وتسخر من شعاراته ومن خطب زعيمه، فإن حركات «الثورة» تستمر في لصق «ممفد» بالحزب واتهامه بأنه أداة له (والعداء بين «ممفد» والحزب على المواقع أكثر حدّة من العداء بين الحزب وأعوان إسرائيل أو بين «ممفد» و«الكتائب» واليمين اللبناني). لا بل إن «ممفد» سعت جاهدة (وتفاوضت لأيام وليالٍ، حسب اعتراف شربل نحّاس نفسه) مع حزب الكتائب للانضواء في حركات الثورة والمسير وراء لواء بولا وسامي الجميّل، لكن هؤلاء لم يقبلوا بهم.
شرذمة قوى «الثورة» ستعود بالضرر الشديد على مشروع استبدال السلطة بسلطة 14 آذار متراصّة. هذه هي حقيقة هذه الانتخابات: القوى الرجعية التقليدية في 14 آذار تخوض الانتخابات في صف واحد مع شباب 14 آذار الذين لبسوا لباس «قوى التغيير»، لكن الزي التنكري ينجح في إخفاء حقيقتهم بقدر ما نجح مجدي مشموشي عندما حاول إخفاء هويّته في أحد المسلسلات عبر ارتداء قبّعة. قوى التغيير هي أقصى يمين 14 آذار: هؤلاء مثل أشرف ريفي ومحمد بن سلمان يلومون 14 آذار لأنها لم تنزع سلاح المقاومة وقبلت بالجلوس معه في سلطة واحدة. هؤلاء أنقياء: لا يحبّذون التحالف مع أعداء النظام السعودي والإماراتي.

التحالفات الانتخابيّة، كما الصراع الانتخابي، تعكس صراعات إقليميّة وعالميّة


لبنان خاضع اليوم لهيمنة متكاملة يشكّلها التحالف الخليجي ــــ الغربي. والسفير السعودي والسفيرة الأميركيّة ينشطان في تشكيل اللوائح والتحالفات. حتى السفارة السويسرية دخلت في بازار الانتخابات. والإعلام الجديد المموّل من الحكومات الأوروبيّة وجورج سورس (أي وسائل الإعلام «المستقلّة» ــــ عرفنا سبب وصف تلك الوسائل لنفسها بأنها مستقلّة، إذ إن جريدة «نيويورك تايمز» وصفت قبل أسابيع راديو البروباغاندا الأميركيّة، «ليبرتي»، بأنه «موقع مموّل من الحكومة الأميركية، لكن مستقلّ». أي أن التمويل الغربي لا ينفي الاستقلاليّة عن وسائل الإعلام وإنما يضمنها). تقول صديقة إن اللوذ بنظريّة المؤامرة أساء إلى إمكانيّة التغيير الثوري في لبنان: ففريق حزب الله ركّز على المؤامرة الأميركيّة (وهي حقيقيّة جداً ومتفاقمة) من دون أن يعبئ جمهوره بأفق حرب طبقيّة تحمّل أصحاب المصارف وزعماء الفساد المسؤوليّة وأن ذلك خفّف من نقمة الجمهور الطبقيّة. وتضيف إن نظريّة المؤامرة اليمينية الرجعيّة التي تركّز على «الاحتلال الإيراني» (غير الموجود) إنما هي بروباغندا المصارف وزعماء الفساد لتحوير الأنظار عن الطبقة الحاكمة. الوعي الطبقي لم يتبلور، ولم يعمل عليه أيّ من الأطراف في لبنان. هناك فرقاء (مثل «ممفد») تعرض طروحات اشتراكية ضروريّة، لكنها لا تقرن ذلك ببرنامج وطني جذري في السياسة الخارجية والدفاع لأن ليس من اشتراكية في لبنان من دون سياسة جذرية تعادي المحور الغربي ــــ الخليجي. تريد أن تؤمم المصارف وأن تقيم طبابة مجانيّة وتعليماً مجانياً؟ عليك إذاً أن تنضم إلى فريق المواجهة الإقليمي وإلا فإن مشروع التغيير يبقى نظريّاً.
هناك احتمال أن تنال قوى التغيير مقاعد، لكن عبر اعتناق مواقف تقليديّة. في غضون سنتَين تطابقت مواقف بولا يعقوبيان مع مواقف «القوّات»، وعليه يسهل على الناخب الانعزالي في الأشرفيّة الاقتراع لبولا لأنها لا تمثّل اختلافاً مع «القوات» (وتاريخ مواقفها سيشهد بذلك) وتعادي مَن يعادي «القوّات» وتناصر مَن يُناصرها (وهي لا تنطق بكلمة ضد الأنظمة المفضّلة عند القوات، أي النظام السعودي والإماراتي، وهي أنظمة مفضّلة عند بولا). مارك ضو تنعّم بحلقات مفتوحة على محطة «الجديد» المأجورة (المأجورة بالمعنى الحرفي لأنها انتقلت من نسق ممانعة مبتذل إلى محطة تبيع المواقف مقابل مال إماراتي وصفقات سعودية وتمويل أميركي). وهو لا يختلف في مواقفه عن مواقف جنبلاط ويُعادي مَن يعادي جنبلاط في الإقليم والبلد. هكذا، تصبح قوى التغيير مُستنسخات عن قوى موغلة في التقليدية والفساد. هذا يفسّر مناصرة تغييريّين لسامي الجميل وميشال معوّض ونعمة افرام. طبعاً، ليس صدفة أن الرعاة الخارجيّين لكل هؤلاء هم أنفسهم (من حكومات غرب وطغاة خليج). أي أن أميركا تستطيع أن تزعم أن قوى التغيير (التي هي أكثر رجعية من القوى التقليديّة) تحقّق طموحات مَن يريد تقويض السلطة القائمة ــــ نتذكّر أن أميركا كانت تدعم وتموّل حركة «فتح» (الشريك الأمني للاحتلال) التي كانت تخوض الانتخابات ضد «حماس» بشعارات مقاومة إسرائيل (آخر مقاومة لحركة «فتح» كانت قبل عشرين سنة أو أكثر).
أنا ــــ ومَن أنا ــــ لا أؤمن بالمشاركة في هذه الانتخابات. الانتخابات مفصّلة على مقاس طائفي ومناطقي. يجب العودة إلى بديهية المطالبة بجعل كل لبنان (الصغير جداً) دائرة انتخابيّة واحدة على أساس النسبيّة. والتحالفات بين حزب المقاومة وبين فاسدين ومتجذّرين في الفساد يُنفِّر من مواقف الحزب. الحزب كان أجدر به مغادرة السلطة وعدم خوض الانتخابات بالمرّة. ما الخطر من ذلك؟ جملة في البيان الوزاري يوافق عليها الجميع، ثم يتنكَّر لها قبل صياح الديك والدجاجة؟ الحزب مرتاح للوضع في الجنوب، لكن عليه أن يخوض معركة بالنيابة عن حليفه الشيعي كي لا تأتي النتيجة مزعجة له. والحزب جدي في وعده بأن معركته هي «إنجاح الحلفاء». لنفترض أن كل خصوم الحزب (أدوات الخليج والغرب) استولوا على السلطة وتمتّعوا بأكثرية وازنة (سامي الجميّل يتحدّث عن كتلة من 20 أو 30 نائباً). ماذا هم فاعلون؟ ماذا بقدرتهم أن يفعلوا؟ ننسى أن أميركا وإسرائيل والسعودية خاضوا حرباً وحشيّة ضد لبنان في 2006 من أجل نزع سلاح المقاومة وانتهت الحرب بهزيمة شنيعة لإسرائيل. الهزيمة كانت شنيعة ومُذلّة لإسرائيل إلى درجة أن حليف إسرائيل في الرياض اضطرّ إلى عكس مواقفه والزعم ــــ أمام الرأي العام العربي ــــ أنه لم يعنِ ما قاله في بداية الحرب من اعتناق لموقف إسرائيل.
لا تسمح دول الغرب للدول النامية بإقامة حكم ديموقراطي. هي تفضل النظم الديكتاتورية وتستغل أي مساحة اقتراعية في أي دولة نامية من أجل إمرار مخططاتها والتحكّم بنتائج الانتخاب. هناك أولويات للتغيير في العالم النامي، والديموقراطية (غير المسموح بها) ليست منها. هذه تونس: تفضل أميركا الانقلاب على الديموقراطية، تماماً كما فعلت أميركا في مصر. فلتأتِ الانتخابات: لن يأتي التغيير.

* كاتب عربي ــــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@