في الوقائع الموضوعية، أن الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين الأول 2019، كانت شبه عفوية: بدون قيادة، وبدون برنامج، وبدون أولويات. وهي استمرت كذلك بسبب ما اتسمت به من عفوية، من جهة، وبسبب تدخل مبكر من قبل قوى محلية وخارجية، كانت ترصدها وتترصّدها، سعياً وراء توظفيها لمصلحة أجندة خاصة ذات بعدين، على الأقل، خارجي وداخلي، يتصلان بالصراع الإقليمي، بالدرجة الأولى.في الوقائع أيضاً، أن قوى التغيير، ذات التاريخ والبرامج والخبرة، لم تتمكن من أن تكون مبادِرة، من جهة، وأن تكون، من جهة ثانية، قادرة على الارتقاء إلى مستوى تحديات الوضع المتدهور سريعاً، والصاخب والمثقَل بالأزمات، ما قاد تباعاً إلى إفلاس البلد وإفقار الناس وهدر ونهب مصادر لقمة عيشهم ومدّخرات عمرهم، فضلاً عن تعطيل كل أنواع الخدمات الأولية والضرورية في الحقول كافة: الحياتية والخدماتية والصحية والتعليمية. أسهم عدم تمكن قوى التغيير اليسارية والديموقراطية من التعاون والتنسيق، ضمن إطار وقيادة وأولويات، في ضبابية الصورة وفي ضياع البوصلة واضطراب المشهد وتراجع الزخم الشعبي والمشاركة الجماهيرية وبروز الفوضى، مكّن ذلك وسواه الفريق الأميركي، عبر السفارة وسيل الموفدين، وبواسطة الضغوط والعقوبات والسيطرة على وسائل الإعلام والعمل المباشر مع العدد الأكبر من المجموعات المدنية، توجيهاً وتمويلاً وتنظيماً، مكّنه من الإمساك بزمام الحراك السياسي العام وتحديد أولوياته وشعاراته التي تركَّزت على تحميل المقاومة وسلاحها مسؤولية الأزمة بكل مراحلها وكوارثها وضحاياها الذين يشكلون ما يفوق الـ 90% من الشعب: في لبنان وحتى في المهجر!
ألقت هذه المحصلة الكئيبة والتعيسة بظلالها على كامل المشهد السياسي الذي تجري الانتخابات في ظله. كان من أسوأ ثمار ذلك تضييع الأسباب الأساسية والجوهرية للأزمة ولسبل معالجتها. هذا يعني أيضاً تضييع المسؤوليات وعدم المحاسبة، وبالتالي عدم تمكين البديل من أن يأخذ دوره وموقعه في المعركة الانتخابية بشكل واضح وحازم وفعَّال ومنتصِر. من المفارقات، في هذا السياق، أن أولويات الخطة الأميركية المذكورة قد أدّت، فعلياً، إلى إعفاء المنظومة الحاكمة ونظامها السياسي العاجز والفاشل من المسؤولية عن الأزمة الطاحنة والمتمادية الراهنة، والتي أدّت إلى إفلاس البلاد ونهب وإفقار العباد. حصل ذلك عن سابق تصور وتصميم من قبل الطرف الأميركي وحلفائه خدمة للعدو الصهيوني، بالدرجة الأولى، ولتنفيذ أهداف واشنطن وتل أبيب في المنطقة، اللتين فشلتا في تحقيقها، في لبنان، من خلال عدوان عام تموز 2006.
حكمت معادلة واشنطن تلك المشهد العام. ذلك مكّن قوى المنظومة من أن تستعيد، إلى حدٍّ كبير، زمام المبادرة. هي تبدو الآن صاحبة أرجحية شبه كاملة رغم جرائمها وارتكاباتها. لذلك هي تراوح في فئوياتها وسياساتها وعلاقاتها وارتباطاتها الخارجية. تجسد ذلك أيضاً توجهات حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في الشأنين الداخلي والخارجي. هكذا، على سبيل المثال، يؤكد التيار الوطني الحر أنه مستمر في معركة «استعادة الحقوق» الطائفية. أمّا الدولة المدنية التي يتحدّث عنها، أحياناً، فهو يصر على المناصفة الطائفية فيها! وتتنافس بقايا فريق 14 آذار في رفع الصوت ضد المقاومة و«السلاح» دون أي اعتراف بمسؤولية النظام السياسي عن بلوغ الهاوية الراهنة التي يجري تحميل المسؤولية عنها لمنافسين سياسيين وعلى قاعدة تغيير الأشخاص دون الأنماط والسياسات والعلاقات في الداخل ومع الخارج.
من جانبه، يرتاح الرئيس نبيه بري إلى متانة تحالفه مع حزب الله مواصلاً جني فوائد ذلك على كل صعيد، متشبّثاً بالمنظومة التي توطّدت وتوسّعت، على حساب إصلاحات «الطائف» المعطّلة، وراعياً وحارساً لتوازناتها ولاستمرارها. أمّا حزب الله، المستهدف الأول، فما زال يراوح في محاولة إنقاذ الصيغة القائمة، مطَمئِناً بدعم حكومة «وحدة وطنية» وكأن الصيغة السابقة لم تُلحق أضراراً وآلاماً لا تُحتمل بالأكثرية الساحقة من اللبنانيين! هذا فضلاً عن أن عدم التوصل إلى معالجة لوقف الانحدار سيولِّد انفجارات قد تكون مدمِّرة وستكون نتائجها، بالتالي، بالغة السوء على كامل الوضع اللبناني.
إذا كانت الدولة العميقة في البلد، أي المنظومة ونظامها وأدواتها في السياسة والاقتصاد والأمن، متمسّكة بقديمها، فالمعارضة، بالجملة، لم تضع أولوية واضحة وحاسمة: تحرير النظام من القيد الطائفي والانطلاق نحو عقد اجتماعي جديد يمنع استمرار العبث واللامسؤولية واللامحاسبة، ويؤسس لدولة مدنية قوامها المواطنة المتساوية لا صيغة ممثلي الطوائف المتحاصصة والمتنافسة والتابعة.
تخوض المعارضة الراهنة معركتها، هي الأخرى، غير موحَّدة انتخابياً، وأحياناً سياسياً. الطرف الأبرز إعلامياً فيها، وفق موزّعي حصص الظهور الإعلامي، يتبنى نفس الخيار الأميركي. عبَّر عن ذلك، أخيراً وتكراراً، رئيس حزب الكتائب سامي الجميل. جوهر المشكلة حسب ممثل الجيل الثالث في الوراثة الكتائبية، هو سلاح حزب الله، ونزع هذا السلاح يوفر، كما قال، الثلاثاء الماضي، لـ«الجديد»، معالجة الأزمة في «السياسة والاقتصاد». هو في الواقع، يكرر سياسات تقليدية لحزبه الذي كان يسمى «حزب رئيس الجمهورية» حتى تمكن، بفضل الغزو الإسرائيلي عام 1982، من الاستيلاء على كرسي الرئاسة. الجميل يصر على القول إنه ركن في فريق يخوض المعركة في «كل الدوائر». ومعروف أن ذلك يحصل بالتعاون مع فريق مؤثر من المجتمع المدني فيما يعارضه فريق آخر. لكن ليس بين المعارضين للتعاون مع «الكتائب»، أو الموافقين على ذلك التعاون، من تمكّن من صياغة أولوية إسقاط نظام ومنظومة المحاصصة والنهب والفساد والتبعية، والتي من دون إسقاطها تصبح كل معارضة امتداداً للنظام الحالي باسم جديد. أمّا اليسار الذي لم يتمكّن، كما أسلفنا، من التوحّد وإطلاق تيار وطني واسع على قاعدتي التغيير والتحرير (وهو وحده الذي كان يستطيع ذلك)، فبعضه مقاطع ومعتكف، فيما الحزب الشيوعي يخوض مشاركة شبه شاملة في لوائح بعضها هجين، وصوته ودوره فيها ليسا هما الأقوى والأبرز. هذا فضلاً عن التشتت والتعدد التنافسي حتى بين مكوّنات المعارضات الناشطة انتخابياً والخاضعة لتأثيرات وتجاذبات متناقضة.
في ظروف أزمة هائلة، طاحنة وغير مسبوقة، لم تتمكن قوى التغيير الجذرية من أن تحجز مكاناً مناسباً لها. الشروط الموضوعية ملائمة كلياً. الشروط الذاتية ليست كذلك. عليه، هي، للأسف، لن تتمكن من لعب دورها الوطني الإنقاذي المنشود. ذلك ما ينبغي أن يطلق مراجعة شاملة وذات طابع ونتائج تأسيسية بعد الانتخابات.

* كاتب وسياسي لبناني