منذ بداية الحرب الروسية- الأوكرانية، حاول العديد من المتخصصين تقدير كلفتها الاقتصادية، ولكن لم يستطيعوا الإجماع على تقدير موحّد لهذه التكلفة. إن مسألة تكاليف الحروب مسألة جوهرية لأي دولة قبل الدخول في أي حرب، لأن اختيار الدخول في الحروب أو الخروج منها يعتمد على قرار الحكومة المبني على تقدير التكاليف والأرباح. فإذا كانت التكاليف المتوقعة أقل من الأرباح، فإن خيار خوض الحرب سيكون الأعلى. و على العكس من ذلك، فإن كانت التكاليف المتوقعة أعلى من الأرباح، فيجب هنا تجنّب الحرب. إضافة إلى ذلك، فإنه في حال اندلاع الحرب، يتوجّب على القادة إعداد تقارير دورية لتقييم الوقائع وحصر الخسائر لكي يتمكنوا من اتخاذ القرار المناسب بشأن الاستمرار أو الانكفاء. وبناء عليه، فإن التقدير الخاطئ لهذه التكاليف يمكن أن يؤدّي إلى اتخاذ قرارات خاطئة وبالتالي إلى تداعيات خطيرة وخسائر فادحة للحكومات.
جوليا ليلارد

المثال الأوضح هنا هو غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003. قبل هذا الغزو، قدّر وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أن تكلفة الحرب ستتراوح ما بين 50 إلى 60 مليار دولار أميركي، في حين قدّر المستشار الاقتصادي للرئيس جورج بوش تكاليف الحرب بحوالي 200 مليار دولار. وبعد الحرب، ارتفعت هذه التقديرات من 2279 الى 4995 مليار دولار أميركي. وفي الآونة الأخيرة، بلغت إعادة حساب الغزو الأميركي للعراق من أربعة تريليونات إلى ستة تريليونات دولار من قِبل جوزيف ستيغلز وليندا بايلمز.
ولذلك، فإن الهدف من هذا المقال هو تسليط الضوء على مختلف التكاليف المحتملة للحروب من أجل تقييم عواقبها بشكل أفضل. وأهمية توضيح تكاليف الحروب مزدوجة:
أوّلاً، لتحسين عملية تقييم الأضرار عند الأطراف المتحاربة، أو التي تفكّر في الحرب والخسائر التي ستتسبب بها هذه الحروب. ثانياً، تسليط الضوء على عامل تكاليف إعادة الإعمار ما بعد الحرب. يمكن تصنيف تكاليف الحروب وفقاً لعدة معايير. فعلى سبيل المثال، يمكننا اعتماد معيار «المرحلة»، وبناء عليه ستقسم هذه التكاليف إلى تكاليف ما قبل الحرب (تكاليف تعبئة القوات)، تكاليف أثناء الحرب (الخسائر البشرية والدمار) وتكاليف ما بعد الحرب (تكاليف الانسحاب، وتكاليف إعادة الإعمار). ويمكن أيضاً تقسيمها بناء على معيار تحمّل التكاليف، فإمّا أن تكون على عاتق ميزانية الدولة أو أن تكون على عاتق المواطنين كافة ولا سيما الشركات.
في إطار هذا المقال، سنقترح تقسيماً أكثر شمولاً يساعد على تقييم أدق لحجم تكاليف الحروب، وتلك التكاليف المختلفة التي يتعيّن تلخيصها للحصول على تقييم أشمل وصورة أوضح. سنقسم التكاليف إلى خمسة أقسام أساسية: تكلفة التدمير، التكلفة «البديلة»، تكلفة التبعات الاقتصادية، تكلفة عدم الادّخار في البنوك، وأخيراً التأثير على البلدان المجاورة.
- القسم الأوّل: تكلفة التدمير التي تشمل جميع الخسائر المباشرة الناجمة عن الحرب. وهي تتضمن أربعة أنواع من التكاليف. أوّلاً، الخسائر البشرية (المدنية أو العسكرية)، بغض النظر عن الجانب الأخلاقي والإنساني، حيث تواجه عملية تقييم الحياة البشرية مشكلة في إعطاء قيمة مادية لحياة الإنسان، وحصر هذه القيمة بمبلغ مالي يعطى لعائلة الميت. ففي الواقع لا يوجد طريقة موحدة لحساب قيمة حياة الإنسان، فهي تختلف من بلد لآخر. على سبيل المثال، تُقَدَّر هذه القيمة في فرنسا بمبلغ ثلاثة ملايين يورو، بينما تصل قيمة الحياة البشرية في الولايات المتحدة إلى 7.2 مليون دولار أميركي. من جهة أخرى، تقدّر الإصابات الخطيرة في فرنسا بمبلغ 450 ألف يورو والإصابات الطفيفة بقيمة 60 ألف يورو. ومن الجدير بالذكر ما يترتب على ذلك من آثار على نفسية المدنيين والعسكريين (على سبيل المثال، بعد الحرب الإسرائيلية ضد المقاومة في لبنان، تموز عام 2006، إضافةً إلى عمليات الطعن الفلسطينية التي تسبّبت في تدهور الصحة النفسية لدى الإسرائيليين، أنشأت حكومة الاحتلال في هذا الصدد مؤسسة إسرائيل للصدمات «Israel Trauma Coalition (ITC)» المتخصصة في تقديم العلاجات النفسية الناتجة من الحروب). ثانياً، الخسائر الحيوانية والنباتية الناتجة من الحرب التي لا يمكن تجاهلها. يجب أن نأخذ في الاعتبار الأشكال الأخرى للحياة، فهي لا تقتصر على الإنسان فحسب، بل هناك خسارات لأنواع أخرى من الكائنات الحية غير الإنسان كالحيوانات والنباتات والموارد البحرية التي ينبغي أيضاً تقديرها كإضافات للتعويضات. ثالثاً، التكاليف الناتجة من الدمار الحاصل بعد الحرب، فعلى سبيل المثال يجب تقييم الأضرار الحاصلة في المراكز الإدارية والبنى التحتية والمدارس والمستشفيات والشركات. ولا ننسى، أخيراً، الخسائر غير المادية كتلك التي تتعلق بالبيانات العامة والخاصة والبيانات المخزنة حيث تُعد إعادة بناء هذه الأسس مكلفة جداً.
في الآونة الأخيرة، بلغت إعادة حساب الغزو الأميركي للعراق من أربعة تريليونات إلى ستة تريليونات


- القسم الثاني: التكلفة «البديلة» التي تشمل عدّة أصعدة. من الممكن إنشاء أنشطة إنتاجية من الموارد المتاحة، مثلاً في مجال التعليم والصحة، لو لم يتم إنفاق تلك الأموال على الحرب. تمويل الحرب يعني زيادة العجز في التمويل العام. أضف إلى ذلك، يجب أن لا نغفل عن حساب التكلفة التي تترتب على الحكومة تجاه المحاربين المقعدين في الرعاية والمعاشات التعويضية. وفي ما يتعلّق بالمدنيين، فإن الصراع كثيراً ما يحَوِّل بعض المواطنين الذين كانوا أصحاب مهن وحرف في بلدهم إلى لاجئين معتمدين على المساعدات الدولية في بلدان أخرى. وأخيراً، يجب الأخذ في الاعتبار تكاليف الانسحاب من الحرب.
- القسم الثالث: تكلفة التبعات الاقتصادية الناتجة من الحرب، والتي يمكن أن تؤثر سلباً في النشاط الاقتصادي. وهذا النوع من التكاليف يؤثر سلباً في الاقتصاد من عدة نواحٍ. أوّلاً، إن أي صراع مسلح من المرجح أن يلغي الفرص التجارية بين أطراف النزاع (على سبيل المثال: اليابان والولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية). ومن المرجح أيضاً حصول المشكلة نفسها بين أي بلدين في حالة حرب وبلدان أخرى حتى ولو لم تكن تلك البلدان طرفاً في الحرب وذلك لأسباب ديبلوماسية، كما يحصل الآن في الحرب الروسية- الأوكرانية. وقد تكون هذه التبعات مصحوبة في بعض الحالات بعقوبات دولية. كما وتؤثر الحرب بشكل مباشر في ارتفاع أسعار السلع الأساسية كما يحصل الآن في ارتفاع أسعار القمح والنفط عالمياً. وللحروب تأثير في إضعاف قدرة الحكومة في دورها كحامٍ للسيادة والسلامة الوطنية، ومن المرجح أن يترتب على هذا الوضع خسارة اقتصادية لأن الحكومة «غير الشرعية» تواجه عقبات أكبر في إعادة إعمار وبناء البلد.
- القسم الرابع: تكلفة عدم الادّخار في البنوك. ويمكن شرح أسباب هذه التكلفة بأن المواطنين سيستهلكون دخلهم في تأمين حاجاتهم، وربما استعمال بعض مدخراتهم بدلاً من زيادتها. ونتيجة هذه الظاهرة هي انخفاض القدرة الاستثمارية لجميع المواطنين، ممّا يعرقل عملية تحسين الاقتصاد. وغالباً فإن البلدان المعرّضة للحروب أو للهجمات الإرهابية المتكررة على مدى طويل هي الأكثر تأثراً بهذه الظاهرة.
- القسم الخامس: الحروب تؤثّر في البلدان المجاورة وأنشطتها الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، أثّرت الحرب الأهلية السورية إلى حد كبير في القطاع الاقتصادي اللبناني. وفي بعض الحالات، من المحتمل أن تتوسع الحرب من بلد إلى آخر في ظل وجود جماعات تحمل أيديولوجية مشتركة على الحدود بين البلدين.
إن حساب تكاليف الحرب وآثارها الاقتصادية عملية صعبة للغاية، ومن بين الأمثلة الواضحة هنا عملية إحصاء عدد الوفيات والجرحى؛ فمن المسلّم به أن البيانات المتعلقة بعدد الوفيات والجرحى ليست دائماً دقيقة، وذلك لأنها غالباً ما تستغل من قِبَل السلطات لعدة أسباب. غير أن هناك عدة طرق لتقدير تكاليف الحرب، استناداً إلى توافر البيانات وهدف الدراسة. وتعتمد هذه الدراسات بمعظمها على تقنيات ونماذج حسابية معقدة لتمكننا في النهاية من حساب أكثر دقة لتكاليف الحروب وتأثير أنشطة الجماعات المسلحة.
* باحث في اقتصاديات الحروب - جامعة بوردو، فرنسا