يذكر الاقتصادي المصري عادل حسين، في الجزء الثاني من كتابه «الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية» واقعة حدثت عام 1975، حين فوجئ الرئيس المصري، محمد أنور السادات، أنّ الوضع الاقتصادي المصري خطير وقد بلغ الدرجة الصفر. «المفاجأة»، بادعاء السادات المضحك، ليس اكتشافه عجز البلاد عن الوفاء بدفع القروض قصيرة الأجل، بل إن أحداً لم يخبره من قبل بخطورة الأمر! استشهد حسين حينذاك بذلك الموقف المؤسس للإشارة إلى مدى الرعونة التي وصل إليها الوضع السياسي والاقتصادي، وما ترتّب عليها من فقدان مصر لاستقلالها الاقتصادي، وصل إلى ذروته في ما يسمّى بسياسة «الانفتاح». كما كانت سياسة الاقتراض غير المدروسة تبريراً لأخذ مصر إلى تقديم أكبر تنازل في تاريخها: توقيع اتفاقية السلام المخزية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، والرضوخ للمطالب الإسرائيلية الغربية لعقد صلح منفرد لا تشترك فيه سوريا والأردن ويستبعد الفلسطينيين، حتى يقبل الغرب والمؤسسات المالية والمقرضون بإنقاذ الاقتصاد المصري ونظام السادات.
«أزمة مصر الكبيرة»
ما إن تلبث مصر تخرج من عنق أزمة إلا وتقحم في أخرى أشرس وأعمق سياسياً واقتصادياً، تدفع ثمنها من حاضرها ومستقبلها. ولا ضيم في القول بأن حكام مصر على مدى التاريخ تسبّبوا في تآكل قيمتها ومكانتها، فصارت كأسد أصابه الوهن. ذلك الوهن الذي أصاب مصر على فترات متقطعة طوال تاريخها، ما هو إلا مرض الاقتراض والديون، أو «أزمة مصر الكبيرة» كما يسمّيها المفكر الاقتصادي سمير أمين، لصعوبة التحرّر منها بغير الاعتداءات الخارجية. ولطول تاريخ صراع مصر مع التحرّر من الديون، نكاد نكون عاجزين عن تحديد إن كان ضعف الحكام سبباً في الديون، أو كانت الديون سبباً في ضعف الحكّام! ولا يمكن لأحد يعيش الآن في مصر، إذا شرع في الاطلاع على تجربة مصر في سبعينيات القرن العشرين، وكيفية التورّط في الديون، وما صحبها من فقدان للاستقلالية وتحوّل مصر إلى دولة تابعة في عهد السادات، أن يغضّ النظر عن التشابه الفاضح بين التجربتين.
تشير الأرقام الواردة من البنك المركزي المصري، إلى أنّ نهاية العام المالي 2020-2021 شَهِدَت ارتفاعاً ضخماً في إجمالي الدين المصري وصل إلى 392 مليار دولار بعدما كان 116 ملياراً في عام 2014، لتقترب نسبة الدين العام إلى الناتج القومي من مشارف 94 في المئة، الأمر الذي يعدّ خطيراً جدّاً، كونها نسبة أعلى بكثير من الحدود الآمنة وهي 60 في المئة. كما وصل الإنفاق العام في ميزانية 2020-2021 إلى 93 مليار دولار. أكلت فوائد الديون ومُرتّبات القطاع العام نصفها، وُجّه مبلغ 30.7 مليار دولار إلى دفع فوائد الديون، أي ثلث الميزانية يذهب فقط لسداد فوائد الديون، ووُجّه 18.2 مليار دولار إلى رواتب موظفي القطاع العام. وتبقّى نصف الموازنة لتغطية قطاعات الصحة والتعليم والخدمات الأخرى والتنمية.

الهروب إلى القروض
يشير تضاعف الديون في مصر، منذ 2014، إلى اندفاع النظام، في ظل عدم وجود خطة اقتصادية تنموية شاملة، وكحل سريع، نحو الاعتماد على الاقتراض لمواجهة أي أزمة تستجد. ومع ذلك، فمن الخطأ التقليل من شأن ما حصل من تنمية للبنية الأساسية في مصر، فعادة ما يرتبط النقد للرئيس عبد الفتاح السيسي ببناء القصور، والمتاحف، وتجميل القاهرة، ومشاريع مشكوك في جدواها كالعاصمة الإدارية الجديدة بقيمة 58 مليار دولار، ومفاعل نووي لإنتاج الطاقة بقيمة 25 مليار دولار في ظل فائض كهرباء، وتوسعة قناة السويس بقيمة 8 مليارات دولار، لم تحقق زيادة في الإيرادات. لكن في الحقيقة أضاف الرجل كثيراً من العمران: 7 مدن جديدة قلّلت من التكدّس السكاني، ومشروع تبطين الترع وشق قنوات ري جديدة، فزادت الرقعة الزراعية وقلّت نسبة المياه المفقودة، كما أضاف مليوناً ونصف مليون فدان من الأراضي الزراعية المستصلحة، وتطوير منظومة السكك الحديدية والنقل، من توسيع الطرق إلى بناء كباري، وتوسيع الموانئ، وتطوير قطاع الغاز والتعدين، والتوسع في الاستفادة من الطاقة المتجددة. لكن، يظهر من المشاريع أن جل اهتمام النظام ينصب على مشروعات البنية التحتية الأساسية، دون إحداث أي تغيير في هيكل الاقتصاد المصري لمصلحة التصنيع، وتكاد تقتصر مساهمة النظام في بناء المنطقة الصناعية بقناة السويس وبعض المشاريع الصغيرة الوسيطة.
اندفاع النظام في الاقتراض عاماً بعد عام جعل من الصعب حتى مستقبلاً تدارك الكارثة


تراكم الديون المتنامية، التي لم تقابلها تنمية إنتاجية، جعلت الاقتصاد المصري في حالة من الهشاشة، تتأثر بأيّ اضطرابات في الاقتصاد بشكل أكبر من غيرها. فمثلاً، بحسب تقرير الحكومة المصرية عن الفترة التي أعقبت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، قفز معدّل التضخّم السنوي في مصر إلى 12.1 في المئة في شهر آذار 2022، بعدما كان 4.8 في المئة في الشهر ذاته من العام الماضي، ما يعني تغيّراً في شكل الحياة في مصر في ظل ارتفاع أسعار الأغذية، والمواصلات، وفي المواد كافة.
ببساطة، ستتغيّر أولويات صرف المصريين لأموالهم، سيشطب الكثير من الضروريات من قائمة احتياجاتهم، وسيستغنى عن أي شكل من أشكال الرفاهية، ما سينعكس بالسلب على قطاعات اقتصادية واسعة، ستظهره نسب النمو. ولهذا، أي محاولة لتقليل الضغط على المواطنين ستكون عن طريق زيادة كمّية السلع الأساسية المعروضة، وفرض ضوابط على السوق وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية للفقراء، الأمر الذي يتطلّب زيادة في المال، وبالتالي اللجوء إلى الاقتراض أكثر وأكثر، وهو الأمر الذي أعلنته الحكومة بالفعل.
ومن المتوقّع أن يتواصل الدين المصري الخارجي والمحلي في الزيادة خلال السنوات القادمة لعدة أسباب: التعافي من أزمة الوباء والحرب في أوكرانيا حرما مصر من مورد مهم للدخل القومي، وتحديداً السياحة، نظراً إلى قلة نشاط السياحة بسبب الوباء. كما أنّ حوالي أكثر من ثلث السياح الذين يتدفقون إلى مصر يأتون من روسيا وأوكرانيا. كذلك، أزمة الإمداد والتوريد تجبر مصر على إنفاق أموال أكثر على الواردات والسلع الأساسية، وأهمّها القمح والحبوب. وستكون ضريبة الصمود أمام تلك الأزمات باهظة جداً مستقبلاً، فمعدّل الزيادة المتوقعة في الديون الداخلية والخارجية قد يدفع نسبة الدين العام إلى الناتج القومي لتخطي نسبة 100 في المئة، ما قد يتسبب في عدم قدرة الدولة على الوفاء بدفع ديونها إذا طالت الأزمات أكثر (ومعيار الحكم إن كان الاقتراض مبرراً أو غير مبرر، وإن كانت درجة الاستدانة خطيرة أو لا، هي قدرة البلد على الوفاء بالدين في فترة زمنية معقولة).

بين موت قريب محتمل... وبعيد محقّق!
وضع النظام نفسه في موقف صعب؛ إمّا أن يفرض تقشّفاً شديداً على الاستهلاك والواردات لتفادي الفجوة الشديدة التي ستحدث، أو يستمر في الاستدانة حتى يخفف من وطأة الأزمة على الشعب. وفي كلتا الحالتين سيكون الاختيار صعباً، لكن يظهر من قرار الحكومة طلب قروض جديدة أنها عزمت أمرها على إنقاذ نفسها بدل إنقاذ المستقبل.
فالدولة تدرك أنّ زيادة إرهاق المجتمع لن تكون في مصلحتها. يصف الكاتب والمفكر المصري عباس العقاد تلك العلاقة بين الشعب والحاكم قائلاً: «هذه أمّة ذات أرزاق مطردة ومعيشة مستقلة، لا يعنيها صلاح الحاكم كما يعنيها صلاح الأرض والسماء والعوارض والأجواء، فإذا دعاها الحاكم إلى حرب لا تعنيها، فذلك شأنه وليس بشأنها، وتلك خسارته وليست بخسارتها، أمّا إذا أُصيبت في عقائدها وموروثاتها أو ظهر لها من الجور على أرزاقها ومرافقها، فهنا يستعصي قيادتها كأشد ما يستعصي قيادة أمّة». كانت تجليات ذلك الوصف في ثورة 25 يناير 2011. فالثورة لم تكن سعياً مجتمعياً مجرّداً للديموقراطية، إذ ساهم المناخ السيئ في روسيا في الإطاحة بالنظام من دون قصد، ففي صيف عام 2010 سجّلت درجات الحرارة في روسيا الاتحادية ارتفاعاً كبيراً، تبعته حرائق غابات، واختناقات المدن بالضباب الدخاني، والجفاف، ففسدت المحاصيل. ولتجنب ارتفاع كبير في أسعار الخبز، فرضت الحكومة الروسية حظراً على صادرات القمح، ما أرهق المجتمع المصري المُتأزِّم بالأساس.
لكن، رغم كل ذلك، كان يمكن تدارك الموقف منذ وقت طويل، كوضع خطة تنموية حقيقية (كالتي بدأها مثلاً عبد الناصر في منتصف الخمسينيات). لكن اندفاع النظام في الاقتراض عاماً بعد عام جعل من الصعب حتى مستقبلاً تدارك الكارثة. لا يمكن تحقيق أهداف اقتصادية متعارضة في آن واحد؛ لا يمكن تحقيق توزيع أفضل للدخل واجتذاب أكبر حجماً من الاستثمارات الخاصة، ولا يمكن حماية كيانات صناعية تابعة للدولة وفي الوقت ذاته تشجيع الاستثمارات الأجنبية، أو توفير الضروريات الغذائية بأسعار متدنّية وفي الوقت نفسه تشجيع الصادرات الزراعية.
لا يمكن أن لا نحمّل النظام نتيجة هذا التخبّط، كما لا يمكن أن نحمّله نتيجة الأزمة بأكملها وحده. فالذي يتحكّم في درجة اعتمادك على الاقتراض، ليس مدى حاجتك إلى الاقتراض أو مدى رعونتك أو حكمتك في إدارة شؤونك فقط، وإنما هو أيضاً مدى استعداد غيرك لإقراضك، ومدى تلهفه إلى توريطك في الديون. بدأت تلك المظاهر في التجلّي سريعاً منذ اندلاع الأزمة الحالية، إذ لم يمنع قرار مصر برفع أسعار الفائدة وخفض قيمة العملة، رأسَ المال الأجنبي من الهروب إلى أسواق أخرى ــــ كالأميركي بعدما رفع أسعار الفائدة لديه. ولئن دعا النظام المصري، لما له من علاقات مع دول الخليج الثرية، إلى إنقاذه، عبر ضخ مليارات الدولارات في البنك المركزي لرفع الاحتياطات الدولية، وضخ الاستثمارات في السوق المصري، إلا أن الحلفاء العرب لم يحاولوا إنقاذ القاهرة؛ فلم يطلقوا مشروعات جديدة يمكنها زيادة الإنتاج المحلي، بل شرعوا في الاستحواذ على أصول ثابتة موجودة بالفعل تعمل بصورة جيّدة وتحقق أرباحاً، في ما يشبه ما فعله «شيلوك» في رواية تاجر البندقية حين أقرض «أنطونيو» وطلب مقابله رطلاً من لحمه لوفاء الدين!
«ليس هناك في مصر من لا يتكلم عن «الأزمة» أو «المحنة»، سواء كان الموضوع هو الاقتصاد أو المجتمع أو السياسة أو الثقافة، ما أسرع من أن تردد عبارات مثل محنة الاقتصاد المصري، أو تدهور الأخلاق والقيم، أو مأزق السياسة في مصر»، بتلك الكلمات استهل الاقتصادي المصري جلال أمين، في كتابه البديع «ماذا حدث للمصريين بين 1945-1995» رحلته في فتح بطن المجتمع المصري. ولولا أن أميناً استخدمه عام 1997، لصلُح الآن. فلا صوت يعلو فوق صوت الأزمة في القاهرة، ومع اشتدادها سيطلّ سؤال مهم وهو: إذا كان قد بُرّر أكبر رضوخ لمصر سياسياً واقتصادياً في عهد السادات بسبب القروض، فما التنازلات التي سيقدّمها النظام لإنقاذ الاقتصاد هذه المرة؟
* من أسرة «الأخبار»