عكس مبدأ مونرو، الذي تبنته حكومة الولايات المتحدة عام 1823، شعور المرارة وإدارة الظهر من المهاجر للقارة الأميركية تجاه العالم الأوروبي القديم الذي غادره هو أو أجداده. وقد كان المبدأ، الذي يقول بعزلة أميركا عن العالم القديم وتحصينها للعالم الجديد في وجه الأوروبيين، تعبيراً عن حيادية ما تجاه القارة العجوز واضطراباتها وحروبها. عملياً، استمر مبدأ مونرو في التطبيق حتى يوم 6 نيسان 1917 عندما أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ألمانيا ومن ثم انخرطت في أتون الحرب العالمية الأولى.بين يومي 13 كانون الثاني و28 آذار 1917 أقام ليون تروتسكي في الولايات المتحدة قبل أن يعود لروسيا ويقود ثورة أكتوبر مع لينين. كتب تروتسكي الانطباع التالي عن أميركا: «محل الحدادة الذي سيهيأ فيه مستقبل البشرية... ثمة واقع يتمثل في أن حياة أوروبا الاقتصادية قد اهتزت حتى الأعماق بينما تثري أميركا. في الوقت الذي أتأمل فيه نيويورك بغيرة، أتساءل أنا الذي ما انفككت أحس بنفسي أوروبياً، أتساءل بقلق شديد: هل ستتمكن أوروبا من الوقوف على قدميها؟ هل هذا هو انحطاطها وهل ستغدو شيئاً آخر غير مقبرة جميلة؟ هل سيغدو مركز الثقل الاقتصادي والثقافي في العالم أميركياً؟» (إسحق دويتشر: «النبي المسلح»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981). بعد قليل من ذلك، دخلت واشنطن الحرب في القارة الأوروبية ووضعت مبدأ مونرو جانباً، ليس فقط من أجل أن تكون «المنقذ» و«المصلح» وفق ما كان يأمل الرئيس وودرو ويلسون، بل إن في عمق ذلك كان الإحساس بضرورة أن تقود واشنطن العالم، بما فيها أرض الأجداد الأوروبية، وقد كان دور الرئيس الأميركي في مؤتمر الصلح بفرساي ثم في إنشاء «عصبة الأمم» محكوماً بذلك، ولو أن ألغام رئيسي الوزراء الفرنسي والبريطاني كليمنصو ولويد جورج قد فجرت مركبة ويلسون، ثم جاء الانعزاليون الأميركيون ليكملوا قطع الطريق على ساكن البيت الأبيض من خلال رفض مجلس الشيوخ مبدأ العضوية الأميركية في عصبة الأمم عام 1920 معتبراً العضوية خرقاً للسيادة الأميركية، وليعلن انتصار مبدأ مونرو من جديد.
هنا، من يقرأ «مذكرات تشرشل» يمكن أن يلمس المحاولات المحمومة لرئيس الوزراء البريطاني، بين توليه منصبه في 1940 والهجوم الياباني على الأسطول الأميركي في ميناء بيرل هاربر في 1941، لتوريط واشنطن في الحرب العالمية الثانية ضد هتلر واليابانيين، وكيف كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، الراغب في ذلك، مكبوحاً وخائفاً من الانعزاليين الأميركيين الذين كانوا يحتلون حيزاً كبيراً من المشهد السياسي الأميركي ومن الرأي العام وفي الصحافة، وقد كان الانعزاليون ضد روزفلت، كما كانوا ضد ويلسون، بمعظمهم من الحزب الجمهوري، وقد لعبت برلين كثيراً لمدة عامين في الداخل الأميركي من أجل أن تبقى واشنطن خارج الصراع، ولولا ما حصل في بيرل هاربر ما كان ليتم انخراط الأميركان في الحرب العالمية الثانية. كان يوم الهجوم هو يوم وفاة مبدأ مونرو وبداية تمييل الولايات المتحدة، ومعها الاتحاد السوفياتي، للموازين ضد هتلر واليابانيين، ثم منذ 1947 بداية قيادة واشنطن للأوروبيين الغربيين في الحرب الباردة ضد موسكو حتى انتصارها على الكرملين مع نهاية تلك الحرب في 1989 مع سقوط جدار برلين ومن ثم بداية عصر القطب الأميركي الواحد للعالم.
في فترة ما بعد الحرب الباردة كان الأوروبيون أكثر طواعية وراء الأميركان


لم تواجه واشنطن منغصات في عملية قيادة الأوروبيين الغربيين ضد السوفيات سوى من الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي أراد الاستقلالية الفرنسية عن الهيمنة الأميركية، وكذلك من مستشار ألمانيا الغربية ويلي براندت الذي خشي مستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر كثيراً من أن سياساته بفترة 1970-1973 نحو الاعتراف بحدود ما بعد الحرب العالمية الثانية الألمانية مع بولندا وتشيكوسلوفاكيا ومن ثم اعترافه بألمانيا الشرقية وتقاربه مع موسكو، وهي السياسة التي فاجأت فيها بون البيت الأبيض منذ عام 1970، يمكن أن يستفيد منها الكرملين في المحادثات الثنائية مع الأميركان من أجل «معاهدة تحديد الأسلحة الاستراتيجية- سالت 1»، التي وقعت في 1972، ومن أجل رسم سياسة الوفاق الدولي بين القوتين العظميين الأميركية والسوفياتية. غير هاتين الحالتين، كان الأوروبيون الغربيون مطواعين تحت قيادة واشنطن.
في فترة ما بعد الحرب الباردة، كان الأوروبيون أكثر طواعية وراء الأميركان، وقد رأينا كيف مارس باراك أوباما ما وصفه هو نفسه بـ«القيادة من الخلف» في عملية حلف الأطلسي في ليبيا عام 2011 والتي كان رأس حربتها الرئيس الفرنسي ساركوزي، وفي الأزمة السورية كان الأوروبيون وراء واشنطن من دون نشاز، وفي عملية الفرنسيين العسكرية في مالي بداية عام 2013 ضد المسلحين الإسلاميين كانت باريس وكيلة عن واشنطن، ولكن عندما فكّر الرئيس الفرنسي ماكرون، بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، بسياسة فرنسية مستقلة أو خاصة تجاه لبنان أفشله الأميركان. في 15 أيلول 2021، عندما قام تحالف «أوكوس» بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، ليكون تحالفاً عسكرياً – أمنياً في ما سمّاه ميثاق التحالف «منطقة المحيط الهادئ- الهندي»، وقامت أستراليا بإلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لتستبدلها بغواصات تعمل بالوقود النووي بتعاون من واشنطن ولندن، شعر الرئيس الفرنسي بمدى التهميش الذي أصبح ينظر من خلاله الأميركيون للأوروبيين في ضوء انتقال الثقل الاقتصاد العالمي إلى شرق آسيا، فيما كان هذا الثقل في الشاطئ الأوروبي الغربي للأطلسي منذ هزيمة العثمانيين أمام الإسبان ومعهم جمهورية البندقية في معركة ليبانتو عام 1571 ومن ثم هزيمة الإسبان أمام الإنكليز في معركة الأرمادا عام 1588 حتى انتقلت الزعامة الاقتصادية للعالم الغربي الأوروبي من لندن إلى نيويورك في عام 1944 مع اتفاقية «بريتون وودز». ربما، في هذا الإطار، زادت النظرة الأميركية التهميشية للأوروبيين بعد أن بان مدى هشاشة الأمن الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب الروسية - الأوكرانية منذ يوم 24 شباط 2022 ومدى هشاشة القارة العجوز في موضوع الطاقة الغازية - النفطية حيث كانت موسكو تؤمن 40 في المئة من الغاز و25 في المئة من النفط لدول الاتحاد الأوروبي، وعلى الأرجح أن هذه النظرة التهميشية الأميركية للقارة العجوز ستزداد مع الذعر الأوروبي المستجد من «الخطر الروسي» في مرحلة ما بعد الحرب، وهو ما أدى كذعر إلى شرخ أوروبي - روسي ستكون واشنطن أكبر المستفيدين منه، وهو شرخ غير مسبوق منذ أيام بطرس الأكبر 1682-1725 الذي قاد اتجاه انفتاح روسيا على الغرب الأوروبي.
* كاتب سوري