انتخابات هنغاريا كانت صادمة (ومعبّرة) أكثر حتى من الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة الفرنسيّة. المسألة في فرنسا ليست في أنّ ما يقارب ثلث الناخبين قد صوّتوا لصالح «اليمين المتطرّف» (الساحة السياسية الفرنسية معروفة بأنها من الأكثر انقساماً في العالم، وبشكلٍ «مرتّب»: ثلث الناخبين تقريباً هم مع اليمين، والثلث مع اليسار، وثلثٌ في الوسط)، بل في أنّ البنية العمريّة لداعمي لوبان وزيمور تزداد شباباً وانتشاراً جغرافياً. يقول نموذجٌ إحصائي بأنّه، لولا فئة الناخبين ما فوق الستين عاماً، لفازت لوبان على ماكرون؛ ولولا المدن الكبيرة ومحيطها المباشر، لكان السباق محسوماً أيضاً لصالح مرشح اليمين المتطرّف - بمعنى أنّ ناخب لوبان اليوم ليس ناخب «الجبهة الوطنية» الذي كنت أعرفه في طفولتي: العجوز النزق الذي يقيم في الريف، وقد قاتل في شبابه مع حكومة فيشي ولا يزال حاقداً على ديغول وعلى «ضياع» الجزائر، بل أصبح لشخصيات مثل لوبان وزيمور شعبية كبيرة في أوساط الشباب الفرنسي والأجيال الجديدة.في المجر، كانت المواجهة أكثر وضوحاً وشدّةً. توحّدت كل أحزاب المعارضة ضدّ فيكتور أوربان (أي كل القوى السياسية في البلد تقريباً باستثناء أوربان وحزبه «فيدس»)، وكان الاتحاد الأوروبي واضحاً في موقفه بضرورة إزاحة أوربان، مثلما كان أوربان واضحاً في رفضه للّيبرالية ولأغلب سياسات الاتحاد. كان شعار المعارضة الرئيسي في الانتخابات هو «أوروبا أو أوربان»، ففاز أوربان، وبغالبية ساحقة ستعطي حزبه - منفرداً - القدرة على تعديل الدستور (تخيّل أن يصوّت أكثر من نصف المواطنين في بلدٍ لصالح حزبٍ واحد، والطريف هو أنّ قسماً مهمّاً من الأصوات التي لم تذهب لأوربان لم تنلها معارضته «الأوروفيلية»، بل نالها حزبٌ يميني انشقّ عن أوربان لأنّه أكثر تطرّفاً منه؛ فيكون ما يقارب ثلثي الناخبين قد صوّت لصالح خياراتٍ تعادي الليبرالية علناً).
(إنجل بوليغان - المكسيك)

الفكرة هنا هي أنّ الأيديولوجيا التي أمّنت، على مدى ما يقارب القرنين، نظاماً «ناجحاً» لإدارة المجتمع الرأسمالي وتحرير طاقاته، وتداول السلطة واحتواء الاختلافات والتناقضات، لم تعد جاذبةً حتى في أوساط الناخبين الأوروبيين، وبخاصة في الدول التي عبرت من الاشتراكية في التسعينيات. هذه «الانتكاسة الليبرالية» في دولٍ مثل بولندا وهنغاريا وروسيا وغيرها، وصولاً إلى جماهير واسعة في أوروبا الغربيّة، ليست في الحقيقة «لغزاً» أو «تراجعاً» يحتاج إلى تفسير إلّا إذا اعتمدنا النظريّة الحتميّة، الخطّيّة (teleology)، التي كانت تنبىء بانتصار الليبرالية النهائي منذ ثلاثة عقود؛ وأنّ أيّ مجتمعٍ سينفتح على الديموقراطية سوف يتّجه تلقائياً صوب النظام الليبرالي - الذي أثبت أنه الوصفة الوحيدة للنجاح والرخاء في عالم العولمة الرأسمالية. ولكن إن نحن تخلينا عن هذا المنظور، وفهمنا أن التاريخ ليس مكتوباً سلفاً ولا له نهاية، وأن كل مرحلةٍ تاريخية سوف تنتج مفاهيم جديدة عن الأيديولوجيا والسياسة والحقوق، عندها قد نتمكّن من تفسير الأمور ببساطةٍ كما تحصل، وليس باعتبارها «ضدّ حركة التاريخ» أو تسير في اتجاهه.
يجب أن نتذكّر هنا أنّ المثال «الإيجابي» عن الدولة الليبرالية الغربية - ثريّة وصناعية ومنفتحة - لم يكن يوماً هو «المشكلة» بالنسبة الى أغلب خصومها. حتى ماو كان يقول ما معناه إننا لسنا نمانع بأن نصبح مثل بلجيكا أو الدنمارك، بل المشكلة هي أنّ هذا الطريق ليس متاحاً لدولٍ مثل الصّين ولا يمكن لنا، ببساطة، أن نستنسخ تجربة أوروبا في سياق القرن العشرين. هذا القول لا يزال صحيحاً، وإن لأسبابٍ مختلفة، في عصر العولمة والاندماج الكوني الكبير. هناك دولٌ قليلة «محظوظة»، مثل كوريا الجنوبية وتايوان، ستحقّق تراكماً يسمح بنشوء ديموقراطية برجوازية تشبه النمط الليبرالي الغربي، ولكن أكثر الباقين، حتى بعض الدول التي تمّ ضمّها إلى الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا والمجر وغيرها، سوف تنحو صوب «شيءٍ آخر». السؤال هنا، تلقائياً، هو عن طبيعة هذا الشيء.
حتّى نحدّد النقاش هنا، يجب أن نبدأ بالقول إنّه في وسعنا أن نفهم تعبير «الليبرالية»، أساساً، بثلاثة أشكال: أوّلاً، بطريقةٍ «لا تاريخيّة» و»مجرّدة». أي أن نعتبر الليبرالية عبارة عن «حزمة» من الأفكار والمبادىء والقيم، حول الحقوق والحريات ومكانة الفرد واستقلاليته، ثابتة ولا تتغيّر في الجوهر وغير مرتبطة بسياق: النسخة الديموقراطية الرأسمالية للحداثة. النظرة الثانية هي تلك «التاريخية»: أي أن الليبرالية كانت بمثابة أيديولوجيا لبرجوازية صاعدة، منذ أواسط القرن الثامن عشر، قادت مجتمعاتها نحو التحديث، ثم مرّت بأطوارٍ وتحوّلات عدّة، وتاريخ استعمار واستيطان وثورة صناعية. وهي اليوم في طورها الإمبراطوري المتأخّر الذي لا يشبه، لا في محتواه ولا في وظيفته، ليبرالية القرن التاسع عشر - نحن في عالمٍ مختلفٍ تماماً. أما المنظور الثالث فهو أن لا تعتبر الليبرالية أيديولوجيا أساساً، بل تأخذها بمسلّماتها وبشكلها الحالي باعتبارها «حقائق» و»حقوق» بديهية، تبرّر نفسها بنفسها ولا ينقدها إلّا من يروم بديلاً فاشياً أو شيوعياً أو ماضوياً (كأنّ الحقوق الفردية والديموقراطية التمثيلية، وغيرها، لا يمكن أن تتحقّق إلا ضمن الإطار النيوليبرالي السائد اليوم). في هذه الحالة، أنت هنا تتكلّم «من داخل الأيديولوجيا» إلى درجة أنك لا تراها كذلك؛ بل قد تعتبر نفسك إنساناً «غير مؤدلجٍ»، حرٍّ وفرديٍّ ومستقل التفكير (ومفاهيم مثل «الحرية» و»الفرد» و»الاستقلالية»، بالطبع، هي أساس الأيديولوجيا ولبناتها الأساسية، حين تحسمها يصبح الباقي بسيطاً).
الإشكاليّة هي أنّه، في زمن انحسار الأحاديّة، تعبّر طبقات شعبية كثيرة (من مختلف المشارب وبطرقٍ مختلفة) عن قناعةٍ بأنّ الليبرالية و»أوروبا» لم تعد المثال والمستقبل، بل قد تكون هي الماضي؛ وها هي تعود برجليها إلى زمن الحرب العالمية الأولى والصراع القارّيّ المدمّر. فيكتور أوربان يقول فعلياً لناخبيه إنّه، بدلاً من الرهان على ذاك الموكب الآفل والقارّة العجوز، من الأفضل اجتراح بديلٍ قوميٍّ معادٍ للنيوليبرالية، يزعم حماية الشعب والأمّة والهويّة من آثارها وكلفتها (هو يسمّي النظام الذي يريد تأسيسه ويستفتي المواطنين عليه، بوضوح، «ديموقراطية غير ليبرالية»). الفارق هو أنّه، في أيّام الحرب الباردة، كان الخيار واضحاً ثنائياً بين قطبين (سواء كان هذا الخيار زائفاً أم حقيقياً). يسقط نظامٌ فيعلن الثاني تفوّقه وانتصاره. أمّا اليوم، فإنّ انحسار الليبراليّة لا يأتي لصالح بديلٍ واضح، بل إنّ عصر الهيمنة الليبرالية نفسه، للمفارقة، قد سحق البدائل وغيّر المجتمعات وأنماط إنتاجها إلى درجة أنّه قد «صفّى» السياسة بمعناها العميق، حيث اختفت الأيديولوجيا ونزاعاتها، أو كادت، ومعها المساحة اللازمة لتوليد بدائل تتحدى الهيمنة في السياسة والاقتصاد والتنظير للمستقبل.

حالة الليبرالية المتأخرة / النيوليبرالية
يقول الاقتصادي الألماني وولفغانغ ستريك، في تحليله للرفض المتزايد شعبياً للاتحاد الأوروبي وفكرته، إنّ هذه الطبقات الشعبيّة لا تعادي الاتحاد أساساً لأنها ضدّ «الليبرالية» أو «النخب» أو يتمسّكها هوسٌ قوميّ أو انغلاقٌ ثقافي. ما يجعل كلّ هذه النزعات تأخذ طابعاً سياسياً قوياً هو أنّ الاتحاد الأوروبي قد تحوّل، بالنسبة إلى الشعوب، بمثابة «الآلية» أو «الحارس» على النيوليبرالية في دول القارة. في الماضي، يقول ستريك، أُنشئت مؤسسات الاتحاد التعاونية في مجالاتٍ محددة (الطاقة، الفحم، التكنولوجيا، إلخ)، وذلك بغية رفد وتقوية نماذج التنمية «الوطنية» في كلّ بلدٍ أوروبي، وليس من أجل دمجها واستبدالها. اليوم، أصبحت وظيفة الاتحاد الأساسية، بالمعنى التنظيمي، هي في حراسة «الحريات الثلاث» (حرية انتقال البشر، السلع، والرساميل) ومنع أيّ بلدٍ من انتهاكها أو تقديم امتيازاتٍ لشركات بلده، أو صناعة نظامٍ نقديٍّ مستقلّ، أو كبح اندماج البلد في السوق المعولمة. ضمن هذا السياق، يقول ستريك، لا يعود هناك من مجال لـ»نموذج وطني» للتنمية، فالنيوليبرالية هنا أصبحت بمثابة «سقفٍ» على أيّ محاولة للمجتمع السياسي، في فرنسا مثلاً أو هنغاريا، للتحكم بمصيره الاقتصادي. طالما أنك ملزمٌ بـ»الحريات الثلاث»، ولا يسعك التحكم بقيمة عملتك، أو حتى بمعدلات الفائدة في قطاعات الاقتصاد، ففي وسعك أن تسنّ العديد من القوانين في مجالاتٍ كثيرة، ولكن ليس في «الأساسيات». الغضبة الشعبية ضدّ الاتحاد، يحاجج ستريك، هي عليه بصفته هذا «السقف» الذي يفرض النيوليبرالية على الجميع ويقيّد - بذلك - قدرتك على تقرير مصيرك. غنيّ عن القول هنا إنّ محاولة الفصل بين الليبرالية - كفلسفة سياسية - وبين النيوليبرالية كمنظومة عولمة اقتصادية / سياسية (أي الليبرالية «كما هي موجودة حقّاً» اليوم) هو كأن تزعم - في ستينيات القرن العشرين - أنّ مفهوم الماركسية والاشتراكية يمكن فصله عن تجربة الاتحاد السوفياتي والصّين.
اخترق بلادنا «رأس المال العابر للدول» بدرجةٍ لا تقلّ عمّا حصل في شرق أوروبا، ولكنّ دوره كان مختلفاً بشكلٍ جذري


كنت استمع مؤخّراً إلى اقتصادي فرنسي يتحدّث بتفاؤل عن عودة الكلام عن «التخطيط» ودور القطاع العام في الإنتاج في فرنسا، كما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية، من أجل تحديث الاقتصاد وتحقيق النمو. ولكنّ المشكلة هي أنّه، حتى لو كانت النيّة موجودة، والأموال موجودة، فإنّ أدوات «الخطّة» («الخطة» ترمز إلى الإدارة والآلية التي قادت عملية التصنيع والتنمية في فرنسا بعد الحرب العالمية، وكانت لها وزارة وسلطة كبيرة في التخطيط والتنفيذ، قبل أن تضمحلّ وتهمّش في الثمانينيات) لم تعد متاحة وفي متناول الدولة الفرنسية. أغلب حوافز «الخطة» وأدوات توجيه السوق كانت تدور حول تقديم معدّلات فائدة تفضيلية في قطاعاتٍ بعينها، أو امتيازات في الضرائب وفي الاستيراد والتصدير (أو حتى أن تدخل الدولة مباشرة في عملية الإنتاج). هذا كلّه «ممنوعٌ» اليوم وفق قوانين الاتحاد الأوروبي والمنافسة الحرّة. الفكرة التي أودّ سوقها هنا هي أنّ حالة أكثر شعوب الجنوب مع العولمة الليبرالية اليوم تشابه - بمعنى ما - هذا الضيق الشعبي الأوروبي من «السترة النيوليبرالية الخانقة» التي يفرضها عليه الاتحاد، ولكن بشكلٍ أكثر حدّةً وعمقاً بكثير. النيوليبرالية هنا ليست مجرّد رمزٍ لكيانٍ سياسي يحرمك من بعض حرياتك وامتيازاتك، ولنخبةٍ حاكمةٍ فوقيّةٍ مكروهة؛ بل هي أيضاً تجسيدٌ للقوة والإمبراطورية والعنف، وتسلّط الشمال على بلاد الجنوب وتحويل أغلب أهله إلى مواطنين من درجة دنيا في هذا العالم - حياتهم قصيرة وصعبة ورخيصة الثمن.
يكتب باحثٌ مجريّ في العلوم السياسية اسمه غابور شيرينغ عن أسباب انزلاق بلده، هنغاريا، من توافق ليبرالي ديموقراطي في الظاهر إلى نظامٍ انتخابيّ ولكنّه يعادي الليبرالية وقيمها (راجع كتاب شيرينغ، «تراجع الديموقراطية الليبرالية: الرأسمالية السلطوية ودولة التراكم في هنغاريا»، دار بلغرايف، 2020). أزمة الليبرالية السياسية في عصر الرأسمالية المعولمة، يقول شيرينغ باختصار، هو أنها فقدت «الأساس المادي» الذي قام عليه التوافق الليبرالي تاريخياً بين البرجوازية والعمال. عوضاً عن التقسيمة القديمة «السهلة» في كلّ بلد بين أناسٍ يملكون الثروة والريع ومصادر الإنتاج (فلنسمّه «رأسمالاً وطنياً») وبين غالبية لا تملكه، دخل عنصرٌ أساسي جديد إلى اللعبة، هو رأس المال العابر للدول، الذي أصبح الفاعل الأهم في بلادٍ مثل هنغاريا بعد خروجها من الاشتراكية، وغيّر التركيبة الطبقية والسياسية فيها بشكلٍ عميق، كما حصل مع كلّ الدول التي تم دمجها في الاقتصاد المعولم من موقع التابع والهامش. ظروف هنغاريا مختلفة، ودور رأس المال الدولي فيها لا يشبه دوره في بلادنا، ولكن دروس هنغاريا تصلح، مع بعض التعديل، لتفسير الكثير من الظواهر والمعضلات في مجتمعنا.
ما يفعله «رأس المال الدولي»، يكتب شيرينغ، هو أنه يفكّك العلاقة التقليدية، أو «العقد الاجتماعي»، بين «البرجوازية» و»العمال» في الدولة الرأسمالية الحديثة. مفهوم الطبقة، كما يؤكّد شيرينغ، هو ليس مجرّد فئات دخل. أن تقول إنّ «الطبقة الوسطى» هي من ينال شهرياً كذا من الدولارات هو مفهومٌ «غير طبقي» للمجتمع، يراه على شكل تصنيفاتٍ إحصائية. مفهوم الطبقة، سواء عند فيبير أو عند ماركس، يحاجج شيرينغ، هو مفهوم سياسي «علائقي»، بمعنى أن الطبقة هي موجودة فقط عبر علاقتها بباقي الفئات ضمن سياق مجتمعها، والترتيب الذي ينتج عن ذلك ليس له شكلٌ واحد أو قالب مسبق، ولا هو تصنيفٌ مادّي «موضوعي» (بمعنى آخر، أن تقول «أنا لست صاحب امتيازات لأنّ راتبي ينفد قبل آخر الشهر، وأتمكّن بالكاد من دفع أقساط المنزل والسيارة وتعليم الأولاد والإجازة، ودخلي لا يزيد أصلاً على الخمسة آلاف دولار»، هو قولٌ قد يصحّ في نيويورك، ولكنّه يصبح وقاحةً برجوازية في لبنان، حيث لا يحلم أكثر الناس - بمن فيهم الأطباء وأصحاب المهارات العالية - بمثل هذه الحياة التي تشتكي منها).
حين يدخل رأس المال العابر للدول إلى المجتمعات، تتغيّر التقسيمة الطبقية في داخلها. هناك قطاعٌ من الاقتصاد سيتواصل مع رأس المال هذا، وينهل من استثماراته وعلاقاته الدولية، فيما سيظلّ جزءٌ آخر من الاقتصاد خارج هذه الدورة. في دولٍ نصف - طرفيّة مثل هنغاريا، لن تصبح الشركات الوطنية عضواً في نادي الشركات الكبرى المعولمة، كآبل أو سامسونغ، ولكنّ بعضاً من المنتجين المحليين سيصبح مورّداً لهذه الشركات (مثلاً، تقيم شركة «رينو» مصنعاً للسيارات في شرق أوروبا، فينشأ قطاع كامل من الصناعيين المحليين الذين يزوّدونها بقطعٍ وخدمات). إضافةً إلى هؤلاء، سيكون هناك تكنوقراط عالي المهارة في هذه الدول، مهندسين وخبراء ومدراء، سيدخلون هم أيضاً في شبكات الإنتاج العالمية عبر وظائف مثل البرمجة أو التصميم، إلخ.
هذه الطبقة، التي تتّصل برأس المال الدولي، ستكون في علاقة توتّرٍ دائمة مع باقي فئات المجتمع: هي تريد المزيد من الانفتاح والتواصل مع السوق الدولي فيما رأس المال «الوطني» يفضّل الحمائية؛ أمّا من ينتج لشركات عالمية عبر العمالة المحليّة الرخيصة، فهو يرى أجور عمّاله باعتبارها مجرّد «كلفة»، يكتب شيرينغ، فيما العمّال يريدون حمايةً من النيوليبرالية والتقشّف والتنافس «نحو الأسفل» على تخفيض الأجور (حين تكون دورة الإنتاج محصورةً ضمن المجتمع الوطني، أي أنّنا «ننتج لبعض» - كما في سياسات إحلال الواردات - تكون أجور العمّال «كلفة» ولكنها أيضاً «استهلاك» وطلب، فالناس ستشتري بدخلها الإضافي منتجات من يوظّفها؛ ولكنّك حين تنتج لسلاسل توريد معولمة، وتتنافس في مشغلك مع العمالة في إندونيسيا والهند، لا تعود هذه الصّلة موجودة).
فوق ذلك، يشرح غابور شيرينغ، فإنّ النخبة التي تُفتح لها موارد «رأس المال الدولي» ستنشىء ثقافة وأسلوب حياةٍ خاصٍّ بها، يقلّد أيديولوجيا النخب الكوزموبوليتية وطريقة عيشها. هؤلاء الناس، يضيف شيرينغ، يراكمون النفوذ في المجتمع عبر علاقتهم برأس المال الدولي ويقدّمون أنفسهم على أنّهم «القلب» الديموقراطي في البلد (لهذا السبب، سواء في أوكرانيا أو في العراق، حين يريد الإعلام الغربي إعطاء صفة «ديموقراطية» لحدثٍ ما، فإنّ هؤلاء الناس يكونون دوماً في الواجهة، يقابلون الصحافيين ويقفون للكاميرات ويخاطبون الخارج باسم الناس، وإن كانوا أقلية شعبية). لهذه الأسباب كلّها، وبخاصّة حين تقع الأزمات الاقتصادية، يستنتج شيرينغ، سيكون من السهل أن تتّحد الطبقات الشعبيّة مع البرجوازية «المحليّة» في بلدٍ مثل هنغاريا، ومع السياسيين القوميين، وأن يشكّلوا جميعاً أغلبيّةً تتوحّد على كراهيّة هؤلاء الناس وما يرمزون إليه ويمثّلونه.

«الليبرالية» في دول الأطراف
اخترق بلادنا «رأس المال العابر للدول» بدرجةٍ لا تقلّ عمّا حصل في شرق أوروبا، ولكنّ دوره كان مختلفاً بشكلٍ جذريّ. في لبنان والعراق والأردن، رأس المال الدولي لا يتمظهر عبر مصانع سياراتٍ وشركات برمجة وصناعات وسيطة، ولكنّه يستثمر في السياسة، ويمسك بالإعلام، ويقوم مقام الدولة في الكثير من الحالات. أي لبناني اليوم يفهم، تلقائياً، ما يعنيه شيرينغ عن الفارق بين أن تكون على اتصال برأس المال الدولي (من المنح إلى التمويل إلى الوظائف والرواتب «الأجنبية») وبين أن تكون خارجه، بغض النظر عن مؤهلاتك وموقعك في «الاقتصاد الوطني» - بمعنى آخر، من الأفضل على كلّ المستويات أن تكون مترجماً للأمم المتّحدة (أو ما يماثلها) في بيروت على أن تكون جنرالاً - نزيهاً - في الجيش اللبناني أو استاذاً خبيراً في الجامعة الوطنيّة، أو أفضل حرفيٍّ في المدينة. لهذا السبب، مثلما أنّ مفاهيم «الطبقة» قد أصبحت غائمة في عالم «ما بعد الأيديولوجيا»، فإنّ مفهوم «السلطة» أيضاً لم يعد واضحاً، ولا يقتصر على جهاز الدولة ورجالها. الكثير من الصراعات السياسية في البلد هي، في عمقها، صراعاتٌ على هذا المحور، وليس على «الاحتلال الإيراني» أو «سلاح المقاومة» أو غيرها من الشعارات.

الإشكاليّة هي أنّه، في زمن انحسار الأحاديّة، تعبّر طبقات شعبية كثيرة عن قناعةٍ بأنّ الليبرالية و«أوروبا» لم تعد المثال والمستقبل

الاصطفاف هنا واضح، ولهذا يقف رأس المال الغربي والخليجي في لبنان في الموقع نفسه على الدوام، ويحارب المعارك ذاتها، ولديه - وإن بتعابير مختلفة - الهدف نفسه (البعض، مثلاً، يريد نزع سلاح المقاومة بالقوّة والمواجهة، والبعض يريد نزعه باللين والإقناع؛ الجميع يتّفق على المسلّمة الأساسية والمقدّمات ويختلفون على الأسلوب والتكتيك). هذا أيضاً، على الهامش، من أسباب زوال التفريق بين «يمين» و»يسار» على الطريقة القديمة. هناك اليوم «يسارٌ» يعتمد على رأس المال الدولي ويعمل لصالحه «خلف صفوف العدوّ». كتب لينين مرّةً عن الانتهازية بين الاشتراكيين باعتبارها «تجلّي نفوذ البرجوازية في صفوف البروليتاريا». وحين تنظر إلى الكثير من «اليسار» في بلادنا اليوم، وعلاقاته ومصالحه وارتباطاته، تراهم يمثّلون - عن قصدٍ أو غير قصد - مقولة لينين.
المسألة هنا ليست في تتبّع التمويل وتصيّده أو أنّ المال في ذاته «قذر»، كما في النقاش أعلاه عن الطبقية، سؤال التمويل هو عن طبيعة هذا «الصنف» من المال تحديداً، واثره بين النخب، ودوره في الصراع الاجتماعي داخل البلد. «رأس المال الدولي» هذا قد أنشأ قطاعاً كاملاً في بلدٍ كلبنان، وجمعيات ومخططين وإعلاماً وفئة كبيرةً من الناشطين والنخب لا «تتلقى دعماً» منه، بل هي موجودةٌ بفضله ومن غيره هي، ببساطة، ستختفي وتزول. هذا القطاع، لأننا في بلادٍ بلا سيادة، لا يراقبه قانون ومن الطبيعي أن يميل الناس إلى حيث المال الوفير والوظائف الجيّدة؛ ما هو غير طبيعي هو أن ينطق هؤلاء في المسائل الوطنية باعتبارهم «مستقلّين»، أو أنّ موقفهم في القضايا الأيديولوجية الأساسية ليس ملوّثاً (compromised) بسبب طبيعتهم وارتباطاتهم. أصبح للمال الدولي في لبنان، حرفيّاً، مرشّحون للانتخابات، وأغلبهم يبدو في حملاته كأنه لا يتوجه إلى الناس الذين يفترض بهم أن ينتخبوه، بل إلى من يرعاه ويمدّه بالتمويل والسلطة (وهو هنا ليس الشعب «المحلي»). تخيّلوا أن يتقدّم «مرشّح» إلى أناسٍ، هو وقف طول مسيرته ضدّهم، حاربهم - حرفياً - عند كلّ فرصة ووقف مع أعدائهم أيّاً كانوا، وحين تعرّضوا إلى حملات عنصريّة وتهديدٍ جماعيّ لم يعرفوا له مثيلاً، كان من بين المحرّضين عليهم - وهو اليوم يأتي بثقة لكي طلب أن يمثّلهم سياسياً. هذا الإنسان لا يمكن أن يكون جدّيّاً، هو إمّا يراكم رصيداً عند المموّلين، أو هو لا يعرف أنّ لكلٍّ منّا تاريخاً ومسيرةً ومواقف تشهد عليك، لا يمكنك أن تخفيها أو تمحيها، وعلى أساسها يتمّ تقييمك - وليس بحسب تعريفك أنت لنفسك، والخطابات الانتخابية، وتاريخ العائلة والأسلاف. الوقاحة الفعليّة، بعد أن تبني حياةً مهنيّة على احتقار أهل «منطقتك» والارتزاق من معاداتهم، هو ليس أن تطرح نفسك عليهم ممثّلاً فحسب، بل أن تقدّم نفسك باعتبارك «البديل» عن السياسي التقليدي، كأنّ الخيار بينك وبينه هو ليس المعنى العميق لفكرة «الخيار الزائف».
في نهاية الأمر، حين تنفجر تناقضات النيوليبراليّة، ستكون تلك تجربة مشتركة لأغلب سكان الكوكب، وسوف تخرج من رحم الهيمنة الكثير من الحروب والتشوهات، وحركاتٌ تقاوم الهيمنة لأسبابٍ وبأشكالٍ شتّى. بعضها سيكون متطرّفاً أو قمعياً أو استغلالياً لا يقلّ سوءاً عن الليبرالية المتأخرة نفسها (وسيتمّ استخدامها لتشويه وشيطنة كلّ من يخرج عن الامبراطوري، بالفعل أو بالفكر). ولكن، من جهةٍ أخرى، فإنّ التاريخ حين يسير، فهو لا يفعل ذلك بحسب خطةٍ أخلاقية أو في اتّجاهٍ محسوم، التاريخ والأحداث «تحصل» فحسب، وتفتح لنا احتمالات وتحديات جديدة، واجبنا هو أن نتفاعل معه. الأمر الوحيد الذي بين أيدينا، في هذه الحالة، هو أن نتمكّن من التفكير «خارج الهيمنة» لا لكي نواجهها وندفعها فحسب، بل لكي نفهمها ونتجاوزها، ونصنع بدائل عنها نتحكّم نحن بمسارها، تكون أفضل منها وأكثر عدالةً وإنسانيّة.

* كاتب من أسرة «الأخبار»