قد يكون من المفيد - بل من الضروري حتى - مقاربة الحرب الروسية الأوكرانية بطريقة هادئة ومتأنية في هذا التوقيت بالذات، وذلك في محاولة لإجراء قراءة أو مطالعة سياسية واستراتيجية لهذا الحدث العالمي التاريخي بصورة مختلفة ومغايرة، تعكس الحقائق والوقائع في قالب بانورامي، بعيداً من التضليل للناس والرأي العام، والذي يمارسه الإعلام الغربي والإعلام العالمي والعربي الموالي للغرب، من حيث كيفية توصيف الواقع وتقييم النتيجة وتقدير الموقف واستشراف المستقبل.- الملاحظة الأولى تتعلّق بتوصيف العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا وتحديد نطاقها المكاني ومداها الزماني. فروسيا ليست بصدد احتلال أوكرانيا؛ وهي ليست بوارد اجتياح كل أوكرانيا في الأساس. يعود ذلك لأسباب منطقية وواقعية، أي عقلانية وبراغماتية، من وجهة نظر الجيوبوليتيك والاستراتيجية والحسابات ذات الصلة. كما أن روسيا قد لا تمانع ــــ وقد لا تتردد حتى ـــــ في إطالة أمد هذه الحرب على المدى المتوسط، وليس المدى الطويل بطبيعة الحال، بحيث لا تتحوّل هذه العملية العسكرية إلى حرب استنزاف لها من قبل الغرب وحرب عبثية لا جدوى منها في مواجهة حلف شمالي الأطلسي من جهة، على أن تتمكّن بالمقابل من فرض شروط سياسية على أرضية فرض وقائع وحقائق ومعطيات ميدانية وعسكرية واستراتيجية لحسابها وفي مصلحتها من جهة أخرى؛ مع الإشارة إلى أنها، حين اتخذت قرار الحرب، يُفترض أنها وضعت في حساباتها الفرضيات والاحتمالات والخيارات كافة. وهذا ما قد أكده مرات عدة العديد من المسؤولين الروس، وعلى رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين.
- الملاحظة الثانية تتعلّق بتكييف هذه العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا في إطار مسار التطور التاريخي والسياق الإستراتيجي لظاهرة تنامي وتصاعد القوة الروسية وصعود الدولة الروسية وعودتها من جديد إلى مسرح السياسة العالمية وحلبة القوى العالمية. والمقصود هنا هو فريق القوى الدولية التغييرية، الصاعدة أو الناشئة، ونادي القوى الدولية العظمى والكبرى. فبالعودة إلى الوراء بقصد التلمّس للجذور التاريخية والتأمّل والتفكر والتبصّر في الخلفيات السياسية، ربما تجدر الإشارة إلى عدد من الأحداث التاريخية أو الأحداث التي طبعت التاريخ الحديث والمعاصر في الحقبة الراهنة. فقد سبق كل ذلك إقدام روسيا على اجتياح جورجيا سنة 2008 كخطوة أولى على هذه الطريق. ثم عمدت موسكو إلى إعلان ضم شبه جزيرة القرم سنة 2014 للاتحاد الروسي الفدرالي في معرض الرد الإستراتيجي على «الانقلاب السياسي» في كييف والتنكيل الأوكراني والتصعيد الغربي ضدها. كما اتخذت روسيا، بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، القرار بالمبادرة إلى مساعدة ومساندة سوريا، بقيادة الرئيس بشار الأسد، في حربها سنة 2015، ومنعت سقوط الأخيرة بيد الأميركيين والصهاينة والإرهابيين وإسقاط الدولة السورية ذات السيادة، كما الشرعية القائمة فيها، منذ سنة 2015. كذلك، قامت روسيا مؤخراً بضرب المؤامرة في كازاخستان والحسم السريع هناك مطلع سنة 2022، ومن ثم الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس مع بداية نفس سنة 2022 رفضاً للسياسة الأوكرانية، الفاشية والنازية، بالتنكيل بحق سكان هذا الإقليم ومنطقة شرقي أوكرانيا الموالين لروسيا على الدوام وطوال التاريخ وارتكاب الجرائم والمجازر التي تقع في خانة اقتراف الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم التمييز العنصري والتطهير العرقي بلغة القانون الدولي والمحكمة الجنائية الدولية. بعدها أطلقت روسيا عملية عسكرية خاصة، إذ قامت على الفور بضرب أوكرانيا، وهي تستمر بذلك حتى تاريخه أو حتى حينه، بقصد تفكيك البنية التحتية العسكرية والأمنية للدولة الأوكرانية وتدمير قدراتها العسكرية والقتالية والإستراتيجية. كما أن روسيا استطاعت مؤخراً وراهناً ــــــ وذلك في خضم مخاض العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا وفي غمار الحرب الروسية الأوكرانية ــــــ تحصين بيلاروسيا وتعزيز حضورها ونفوذها هي فيها ولديها وإلى جانبها بمواجهة خصومهما وأعدائهما في تلك البقعة أو الرقعة الجيوسياسية من العالم، حتى بات يمكننا القول إن بيلاروسيا صارت واقعاً أشبه بقاعدة عسكرية ومنصة سياسية لروسيا في قلب منطقة أوروبا الشرقية أو شرقي أوروبا وعلى تخوم دول بحر البلطيق ودولة بولندا وسواها من بلدان معسكر حلف شمالي الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وعليه، قد يبدو أن الاتحاد الروسي يستعيد ـــــ أو لنقل إنه يحاول على الأقل أن يستعيد ـــــ مكانة الاتحاد السوفياتي ونفوذه وأمجاده الإمبراطورية في سابقة تاريخية مشهدية، تقودنا إلى استنتاج أو استخلاص نتيجة أو خلاصة علمية مفادها أن هذا الاتحاد الروسي هو ليس الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي فحسب، بل إنه النواة الصلبة والعمود الفقري له؛ وهو الأمر الذي يفترض البناء عليه، وربما يمكن الرهان عليه أيضاً، حيث تندرج العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا من حيث المترتبات المباشرة وغير المباشرة والمفاعيل والتداعيات في إطار هذا المسار وضمن هذا السياق.
- الملاحظة الثالثة تتعلق أيضاً بتكييف هذه العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا في هذه اللحظة السياسية والتاريخية والزمنية ومقاربة جوانبها وأبعادها، بما فيها محاذيرها ومخاطرها الممكنة أو المحتملة أو المفترضة أو المتوقعة. فقد شكلت هذه الحرب الروسية الأوكرانية ــــ أو بالأحرى هذه العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا ـــــ علامة فارقة في العلاقات الدولية؛ ومثّلت هذه المحطة منعطفاً مهمّاً أو انعطافة مهمة في مسار تطور النظام الدولي؛ كما أنها أحدثت صدمة أو مفاجأة لدى الرأي العام الغربي وعواصم القرار ومراكز ومواقع القوة والنفوذ هناك بالتحديد والتخصيص، ولدى الرأي العام العالمي بالتعميم، ومن ضمنه الرأي العام العربي والرأي العام الإسلامي، حيث أقدمت روسيا بكل جرأة وشجاعة على اتخاذ هذا القرار وخوض غمار هذه الحرب، على الرغم من سلسلة الضغوطات والتهديدات والعقوبات الأميركية والأوروبية، السابقة واللاحقة على السواء، في حين اكتفت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ـــــ مقابل هذه الخطوة الروسية البارزة واللافتة ـــــ بالتنديد والإدانة والاستنكار وغير ذلك من التصريحات والمواقف والتصرفات السياسية والديبلوماسية، وعمدت إلى تقديم الدعم المادي والمالي واللوجستي والعسكري لكييف في حربها هذه بالنيابة والوكالة عنها مع موسكو، من دون الانحراف أو الانزلاق من قبل دول وحكومات وجيوش منظمة معاهدة شمالي الأطلسي بهذه المعركة إلى غياهب المواجهة العسكرية المباشرة أو أتون التصادم العسكري المباشر مع موسكو؛ وهو الأمر الذي يجب التوقف عنده مليّاً أمام هذا التطور النوعي الملحوظ ـــــ بل التغيّر، وربما التبدّل ــــ في قواعد الاشتباك العالمي بين القوى التقليدية، المجهدة والمنهكة، من جهة الغرب، والقوى التغييرية، المتنامية والمتصاعدة، من جهة الشرق، من روسيا إلى الصين مروراً بإيران، حيث بات ثابتاً بكل وضوح وصراحة أن القوى الغربية ليس لديها القرار الاستراتيجي، ولا الإرادة السياسية، وهي لا تملك القدرة العسكرية وغير العسكرية، في إشارة إلى كل من القدرة المالية والقدرة الاقتصادية أيضاً، للرد بالمثل على الروس، بمعنى مبادرة أو إقدام الأميركيين منفردين والأوروبيين مجتمعين على شن الحرب ضد الروس، بعد أن خاض سابقاً جميع الغربيين، سواء كان بالنسبة للأميركيين بالدرجة الأولى أو بالنسبة لحلفائهم الأوروبيين بالدرجة الثانية، العديد من الحروب العسكرية، الوقائية والاستباقية والعقابية، بصورة فظة وفاضحة، وبطريقة جانحة وجائرة، وهي كانت منفردة وأحادية، وتبقى غير شرعية وغير مشروعة، ذلك أنها تقع خارج إطار القانون الدولي والشرعية الدولية وإرادة بقية المجتمع الدولي!
- الملاحظة الرابعة تحيلنا على بنك الأهداف أو المقاصد المفترضة بصورة عامة، وكذلك مجموعة الأهداف أو المقاصد المحققة أو المنجزة على أرض الواقع وفي الميدان بصورة خاصة، وذلك من وجهة النظر الروسية ولدى الجانب الروسي في هذه المحطة بالتحديد من محطات الاشتباك الدولي، بل العالمي، السياسي وغير السياسي، مع الجانب الغربي على وجه العموم والجانب الأميركي على وجه الخصوص، قبل الانتقال إلى الضفة الأخرى والمقلب الآخر في هذه المنازلة. فقد تمكّنت روسيا ــــ بحسب إعلان وزارة الدفاع الروسية مؤخراً ـــــ من تدمير سلاح الدفاع الجوي الأوكراني والقضاء على سلاح البحرية الأوكراني أولاً، وبالتالي استطاعت روسيا ضرب القوة العسكرية الأوكرانية، ثانياً، ذلك أن ميزان القوة العسكرية يصب في خانة روسيا بالتأكيد، وليس في خانة أوكرانيا على الإطلاق، ومن خلفها كل من الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية بطبيعة الحال. كما تمكّنت روسيا من إسقاط المؤامرة الأطلسية ضدها في أوكرانيا، ثالثاً، والتي استهدفت أمنها القومي في مجالها الحيوي، في إشارة إلى منطقة أوراسيا وقلب العالم القديم، بحسب تعبير كل من عالم الجيوبوليتيك البريطاني هالفورد ماكندر والمفكر والمنظر الإستراتيجي الروسي ألكسندر دوغين، بل في عمقها الإستراتيجي أيضاً. وقد قامت روسيا، في الواقع والحقيقة، بتفكيك دعائم وركائز ومقومات مشروع المؤامرة الغربية ضدها في أوكرانيا، رابعاً، وأسقطت روسيا احتمال أو فرضية توسع وتمدد «الناتو» شرقاً في المستقبل، وتسلله إلى داخل أوكرانيا، ووجوده وحضوره فيها مباشرة على تخوم وعلى تماس حدودها، خامساً، لتفرض عاجلاً أم آجلاً نزع سلاح أوكرانيا وتحييدها، سادساً، بمعنى جعلها بلداً محايداً ومنطقة منزوعة السلاح تحت وطأة التهديد الحقيقي والجدي باللجوء الفعلي والعملي إلى استخدام واستعمال القوة المادية والعسكرية، في إشارة إلى كل من الإرادة السياسية التي انعقدت والقرار الإستراتيجي الذي اتُخذ على أعلى المستويات في موسكو من جانب روسيا، وكذلك القدرة العسكرية التي تجسدت في ميدان القتال وفي ساحة المعركة، في مقابل حالات الإرباك والتخبط والتخاذل والتقاعس والتراجع من جانب أميركا وبقية الغرب.
- الملاحظة الخامسة تتصل بأفق الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا والمستقبل السياسي للأخيرة ـــــ ومن ورائها فلول القوى الدولية الاستعمارية في الغرب بجناحيه الأميركي والأوروبي، في إشارة إلى القوى التقليدية القديمة، المتمسكة بالوضع القائم أو «الستاتوكو» عشية اندلاع هذه الحرب الروسية الأوكرانية، والمتشبثة بما تبقى من امتيازاتها ومكاسبها أو مكتسباتها من النظام الدولي القديم أو السابق ـــــ قبل الخوض في جردة الحساب للأرباح والخسائر بالنسبة للغربيين عموماً والأطلسيين خصوصاً. عند هذا الموضع أو المقام بالضبط، لا بد من القول إن روسيا هي الآن بصدد تحصين منطقة شرقي أوكرانيا حاليّاً، بما فيها إقليم دونباس وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وهي منطقة الحضور أو النفوذ الروسي التقليدي، السياسي والتاريخي والاجتماعي والثقافي والحضاري، والمعروفة أيضاً بموالاة معظم سكانها لروسيا، وليس أميركا، ولا حتى أوروبا. وعليه، يمكن الدفع بأن أوكرانيا قد تتجه نحو احتمال التقسيم إلى منطقتين: منطقة شرقية، تكون موالية لروسيا، أو تدور في فلكها، وفي المقابل، منطقة غربية، تكون موالية للغرب، أو تدور في فلكه. بهذا المعنى، ربما تدفع أوكرانيا بذلك مؤخراً وراهناً ــــ ولاحقاً أيضاً ـــــ ثمن المغامرة بمستقبلها والمقامرة بمصيرها من قبل من يمكن تسميتهم اصطلاحاً بطغمة النازيين الجدد، في إشارة إلى جماعة القوميين المتعصبين والمتطرفين الأوكرانيين، ذلك أنها ــــ على ما يبدو ــــ لن تكون، أو بالأحرى لن تبقى، كما هي بنفس الشكل والصورة والحجم على الخارطة السياسية للعالم والمنطقة في المستقبل القريب غير البعيد من حيث الوحدة الإقليمية. وقد بدأت الإرهاصات أو المؤشرات لهذه الوقائع والحقائق والمصائر الحتمية تلوح في الأفق، وتتجلى للعيان، وتُثار في المجالس والأروقة والكواليس السياسية والدبلوماسية، وتطلق من على المنصات أو المنابر الإعلامية والصحافية.
- الملاحظة السادسة والأخيرة تتناول ما يمكن أن نرصده في المنظار ونكيله في الميزان من الأرباح والخسائر لدى الغرب عموماً وأميركا وأوروبا خصوصاً من جراء قيام حالة الحرب العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، وهي الحرب بالواسطة أو بالوكالة بين روسيا و«الناتو». وفي هذا المضمار، ربما يمكننا تسجيل وتدوين ملاحظة فرعية حول ظاهرة التضخم الملحوظ في كل من أوروبا وأميركا، وحتى غيرهما من المناطق والبلدان، على خلفية الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات ومصادر الطاقة والمواد الأولية والسلع الاستهلاكية وغيرها من المواد والسلع والمنتجات والبضائع من جراء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك في أعقاب الأزمة الصحة العالمية بفعل انتشار الجائحة أو الوباء وتفشي فيروس «كوفيد-19». وهو الأمر الذي أدى إلى انكماش الاقتصاد العالمي عامة والاقتصادات الغربية خاصة، وقد يؤدي أيضاً إلى دخول النظام الاقتصادي العالمي في طور خطير من الركود والكساد، وربما تحقق فرضية أو نظرية انهيار الإقتصادات الغربية، وهو مجرد احتمال قائم نظريّاً، وليس بالضرورة أن يتحوّل إلى واقع فعليّاً وعمليّاً. كذلك، نشير، عند هذه النقطة، إلى ملاحظة فرعية أخرى، ألا وهي مفاعيل وتداعيات مسألة أزمة اللجوء من أوكرانيا وأعداد اللاجئين الأوكرانيين إلى العديد من البلدان الأوروبية، ولا سيما دول الجوار في أوروبا الشرقية، كما بقية بلدان القارة العجوز في كل من أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية، مما قد يتسبب بالمزيد من الأعباء والخسائر والأضرار في الاقتصادات الأوروبية. كما نحيلكم أيضاً، عند هذه النقطة، إلى ملاحظة فرعية ثالثة، حيث أفضت الحرب الروسية الأوكرانية ــــ أو أنها سوف تفضي في المستقبل ــــ إلى إعادة ترسيم الحدود السياسية وإعادة خلط الأوراق الدولية وإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية والإقليمية والقارية للبيت الأوروبي، كما أنها أفضت ــــ أو أنها سوف تفضي في المستقبل ــــ إلى إعادة تشكيل أو تركيب التوازن الدولي وميزان القوى الدولية وإعادة بناء النظام الدولي بطريقة أو بصورة مغايرة، حيث يفترض أن يصبح أكثر توازناً وأكثر استقراراً، لكونه أو بوصفه نظاماً دوليّاً متعدد الأقطاب ومتعدد الأطراف، بعد تراجع وانحسار الهيمنة الغربية عموماً وتقهقر وانكسار الهيمنة الأحادية الأميركية خصوصاً. لقد أثبتت هذه الحرب بالذات إمكانية تحدّي الأميركيين والأوروبيين، وقد جعلت مسألة كسر الهيبة العالمية والصورة الكونية للولايات المتحدة وحلفائها من القوى الأوروبية وتجاوز وتخطي الإرادة الأميركية، كما الإرادة الأوروبية بالتبعية، بمعنى التملص والتحرر منهما، حقيقة ملموسة ومحسوسة، إذ لم يعد لدى الأميركيين والأوروبيين سوى ما تبقى فقط بين أيديهم من امتيازات متآكلة وحصانات متهالكة ومكاسب أو مكتسبات متناقصة، كانوا قد حصلوا عليها سابقاً بعد الحرب العالمية الثانية، لكونهم أو بوصفهم كانوا وقتذاك المنتصرين والفائزين والمحظيين في عملية كيفية توزيع القوة العالمية. هذه المعادلة سقطت وانتهت إلى غير رجعة تحت وطأة ضربات القوى المناوئة والمناهضة لهم في العالم والمنطقة ـــــ وليس آخرها هذه الحرب المفصلية والمصيرية ــــــ وفي مقدمتها كل من روسيا والصين، وفي طليعتها أيضاً محور قوى المقاومة، وعلى رأسه إيران في عصر الثورة الإسلامية وفي زمن الجمهورية الإسلامية، والذي كان سباقاً في منازلة ومقارعة السياسات والمشاريع والمصالح الأميركية والغربية والإسرائيلية وتسجيل النقاط والنجاحات والانتصارات المتكررة والمتواصلة.
في الختام، لا بد من التأكيد والتشديد على أن ما بعد هذه العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا ــــ أو لنقل هذه الحرب الروسية الأوكرانية ـــــ ليس كما قبلها البتة. قد تكون هذه المحطة من محطات التاريخ الحديث والمعاصر موضع الكثير من النقد والنقض والتأويل في التفسير والتحليل للخلفيات والأبعاد والجوانب والمضامين كافة في ميزان التفكير والتخطيط السياسيين ومن زاوية التقدير والتقييم الإستراتيجيين، وهو الأمر الذي يعكس أهمية هذا الحدث العالمي التاريخي وخطورة النتائج التي ستنبثق عنه، سواء كان على المدى القريب والأمد القصير، أو كان على المدى البعيد والأمد الطويل، ناهيك عن ضراوة العمليات العسكرية والأعمال الحربية والمعارك الميدانية وشراستها وجسامة الخسائر وفظاعة الأضرار، كدليل على أننا في طور لحظة سياسية في غاية الدقة والحساسية من تاريخ العلاقات الدولية.

* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية