قواعد اللعبة الفرنسية تكاد تتقوّض، النخب السياسية مأزومة إلى حدّ الاحتضار، والتوازنات اختلّت إلى حدّ بات وصول اليمين المتطرف إلى قصر الإيليزيه مسألة وقت، إن لم يكن هذه المرة في جولة الإعادة بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان، ففي مرة مقبلة. الأسباب التي استدعت إحداث تغييرات جوهرية في طبيعة نظام الحكم عام 1958، في ما يعرف بـ«الجمهورية الخامسة»، تكاد تقارب من حيث الأجواء العامة ما يحدث الآن من فوضى وارتباك وغياب أيّ قواعد تضمن سلامة الأداء العام.في ذلك الزمن البعيد، قبل 64 عاماً، قاد الجنرال شارل ديغول، بوزنه الذي اكتسبه من دوره الاستثنائي في مقاومة الاحتلال النازي لبلاده، انتقالاً دستورياً باستفتاء شعبي تغيّر بمقتضاه نظام الحكم من «جمهورية برلمانية» إلى «جمهورية شبه رئاسية». كانت تلك خطوة سياسية جراحية لوقف الفوضى التي ضربت «الجمهورية الرابعة»، التي كانت بصورة أو أخرى امتداداً لـ«الجمهورية الثالثة» التي حكمت فرنسا قبل الحرب. في مدى 12 عاماً بين 1946 و1958 شهدت فرنسا 21 حكومة! طلبت «الجمهورية الخامسة» رفع مستوى كفاءة الإدارة السياسية أمام تحديات ضاغطة في أزمان جديدة. كما كانت استجابة لحقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، خسرت فرنسا قوتها الإمبراطورية، والمصير نفسه طال بريطانيا التي لم تكن تغرب الشمس عن إمبراطوريتها. تكفلت حرب السويس عام 1956 بإعلان ذلك التطور الجوهري في بنية النظام الدولي. في الوقت نفسه، وجدت فرنسا نفسها أمام استحقاقات إرثها الاستعماري في الجزائر، التي أخذت تنتفض وتتصاعد ثورتها المسلحة، طالبةً حقها في التحرر الوطني والاستقلال. أمام حقائق النظام الدولي الجديد، كما الأزمة الداخلية، نحت فرنسا الديغولية إلى تأسيس نظام سياسي جديد.
على أعتاب جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يطرح السؤال نفسه: هل استنزفت الجمهورية الخامسة أسباب وجودها بالقرب من تأسيس نظام دولي جديد تلوح ضروراته ومقدماته في الحرب الأوكرانية؟ القضية في الأحوال الجديدة ليست في طبيعة نظام الحكم بقدر ما هي في البيئة العامة وأزماتها الاجتماعية والثقافية والسياسية وتدهور مكانة الحزبين الرئيسيين، «الجمهوريون» و«الاشتراكي»، اللذين قدما لفرنسا رئاساتها باختلاف أوزانها وتبادلا السلطة طوال سنوات الجمهورية الخامسة، بصورة وصلت في الانتخابات الأخيرة إلى حدّ التحلل. كان نصيب فاليري بيكريس، مرشحة حزب «الجمهوريون» الذي قدم لفرنسا الرؤساء: الجنرال شارل ديغول، جورج بومبيدو، فاليري جيسكار ديستان، جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، 4.8% من أصوات المقترعين في الجولة الأولى! وكان ما حازته مرشحة «الاشتراكي» آن هيدالغو، والذي قدّم لفرنسا الرئيسين: فرنسوا ميتران وفرنسوا أولاند، مهيناً لتاريخ الحزب ودوره في الحياة السياسية، حيث قبعت في المركز العاشر بين 12 مرشحاً بـ 1.8%!
بدا ذلك زلزالاً في قلب الحياة السياسية أفضت تداعياته إلى التساؤل عن مستقبل فرنسا، ومستقبل أوروبا كلها بأحوال اضطراب في بنية النظام الدولي. لم تنكسر المؤسسة الفرنسية مرة واحدة، ولا دخلت «الجمهورية الخامسة» في أخطر أزماتها بغير توقّع وانتظار. لقد تفشى الفساد في الرؤوس الكبيرة، وبدت المنازعات في بعض الحالات أقرب إلى حروب المافيات.
كان صعود ساركوزي نقطة فاصلة في تاريخ الجمهورية الخامسة سحبت منها أي رصيد سياسي وأخلاقي. حسب رواية الصحافي الفرنسي الشهير الراحل إريك رولو، كما استمعت إليها قبل انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2007، فإن وزير الداخلية ساركوزي أخذ يتعمّد إهانة الرئيس شيراك والتقليل من شأنه كلما أتيحت الفرصة أمامه. في 14 تموز/ يوليو، عيد الثورة الفرنسية، استدعى إلى مقر الوزارة عدداً من الصحافيين المقربين في ذات التوقيت الذي كان شيراك يستقبل فيه كبار الصحافيين الفرنسيين في قصر الإيليزيه. عندما أخذ الرئيس يوجّه للأمة كلمة متلفزة بدا أن وزير داخليته، المتوثب للجلوس على مقعده في الإيليزيه، ضجراً إلى حد عدم احتمال الاستماع إليها. قال بصوت مرتفع وهو ينتفض من على كرسيه: «ما هذا الكلام الفارغ الذي يقوله؟!»، ثم أمسك بـ«الريموت كونترول» مغلقاً جهاز التلفزيون. في مشهد استعراضي أراد أن يقول لضيوفه: «أنا الرجل القوي الآن، شيراك لا يعني شيئاً». أخذت القصة تنتشر، بدلالاتها السياسية، التي تتجاوز ما هو متعارف عليه في العلاقات بين الرؤساء ووزرائهم.
في ما بعد دفع العالم العربي أثماناً باهظة لصعود رجل بمواصفات ساركوزي إلى قصر الإيليزيه، كان أخطر ما أقدم عليه قيادة عمليات «الناتو» في ليبيا، التي أجهضت ذلك البلد العربي لسنوات طويلة وهددت وحدته الترابية، لتصفية حسابات قديمة مع العقيد معمر القذافي، وربما لإخفاء معالم جريمة تلقّيه رشى ليبية لتمويل حملته الانتخابية بحسب تحقيقات فرنسية رسمية. ساركوزي نقطة تصدّع خطيرة في مؤسسة «الجمهورية الخامسة»، لكنها ليست النقطة الوحيدة، فقد تآكلت المؤسسة من داخلها، صدقيتها واحترامها ومستقبلها.
من حيث الشكل العام لنتائج الانتخابات الأخيرة، فلا جديد تحت شمس باريس. المرشحان للإعادة هما نفساهما اللذان دخلا جولة حسم مماثلة قبل خمس سنوات عام 2017، حسب استطلاعات الرأي العام فإن ماكرون مرشح للفوز بفارق أقل مما حصده في المرة السابقة.
اللافت في ظاهرتَي ماكرون ولوبان أن الأول صعد إلى الرئاسة من خارج الحزبين الكبيرين، قريباً من اليمين ومتمرداً على اليسار الذي زكاه لمقعد وزير اقتصاد في عهد الرئيس الاشتراكي أولاند. والثانية طرحت نفسها بديلاً لوالدها جان ماري لوبان، مؤسس أقوى الأحزاب اليمينية المتطرفة، غيّرت اسم الحزب من «الجبهة الوطنية» إلى «التجمع الوطني» وخففت من لهجته دون أن تفقده هويته حتى يتسنّى اجتذاب أعداد أكبر للتصويت لمصلحتها من اليمين التقليدي.
كلاهما جاءا من خارج مؤسسة الجمهورية الخامسة، أحدهما بالقفز خارجها، والثانية بكراهية قيمها.
في المواجهات الانتخابية السابقة، بدت مارين لوبان، ووالدها قبلها، خطراً كامناً يستحيل تماماً أن يصل إلى الإيليزيه، أو أن يفرض على بلد ممعن في اعتزازه بما يسميه «قيم الجمهورية» المستمدة من إرث الثورة الفرنسية التخلّي عنها والتنكّر لها. هذه المرة، الخطر ماثل، إن لم يكن اليوم فغداً. بحقائق الأرقام، هناك زحف إلى الأمام خطوة بعد أخرى. لم يكن الفارق كبيراً في الجولة الأولى، حيث حصد ماكرون 27.85% من الأصوات، فيما تلته لوبان بـ 23.15%، الفارق أقل مما حدث في الانتخابات السابقة، استطلاعات الرأي العام ترجّح فوزه بفارق ضئيل عكس المرة السابقة بجولة الحسم حيث وصل الفارق إلى 32%. لم يعد ذلك ممكناً.
في أولى المواجهات الانتخابية عام 2002 مع مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبان، جرى استدعاء خطاب الاصطفاف لمنع وصوله إلى الإيليزيه قبل أن يتكرر السيناريو نفسه مع ابنته مرتين على التوالي. مشكلة فرنسا أن خطاب التفزيع من اليمين المتطرف، على أهميته، لم يعد كافياً. في الأحوال الجديدة، فإن هناك صعوداً للتشدد على ناحية اليمين واليسار معاً، تآكل اليمين واليسار التقليديين، لم يعد يصدّقهما أحد. كان حصول المرشح اليساري الراديكالي جان لوك ميلنشون على 21.95% دليلاً جديداً على إفلاس المؤسسة، فهو من خارجها تماماً، ويحصد ثقة واسعة بأوساط الشباب. لو تمكن ميلنشون من حصد 500 ألف صوت من بين أصوات اليسار المبعثرة لكان هو من يخوض جولة الإعادة مع ماكرون، وربما كسبه بفائض تراجع شعبية الأخير.
هكذا تتبدى أزمة النخبة السياسية المتحكمة في المصير الفرنسي لأكثر من ستة عقود. وأزمة مؤسسة «الجمهورية الخامسة» نفسها! إنها مسألة قيم وصدقية وسياسات تستجيب لحقائق العصور المتغيّرة على أبواب نظام دولي جديد يوشك أن يطلّ على العالم.

* كاتب وصحافي مصري