الانعطافة التي أحدثتها العقوبات الغربية في مسار الحرب، لجهة إضعاف الموقف الروسي، سواء في الميدان أو في التفاوض، بدأت تأخذ، تدريجاً، منحىً معاكساً. الموقف الجيوسياسي الغربي الموحّد، الذي ازداد تماسكاً بفعل الحرب، لا يعكس بدقّة واقع الحال داخل هذه الدول، وتحديداً في أوروبا حيث الانعكاس المباشر لأزمة الإمدادت النفطية والغازية من روسيا. لا يقتصر الأمر على ارتفاع أسعار البنزين، لأنّ الأزمة الحالية هي امتداد للاضطرابات المتزايدة في سوق الطاقة، منذ الانهيار التاريخي للأسعار في العام 2014، مروراً بحقبة خفض الإنتاج عبر مجموعة «أوبك+»، وليس انتهاءً بأزمة الوباء التي فاقمت من تأثير عامل الطلب على نطاق عالمي. الطابع الدولي للأزمة الاقتصادية الجديدة تضع أوروبا، ليس فقط في عين العاصفة، بل أيضاً في قلب مشهد قد يكون أصعب من ذاك الذي مرّت به طوال عامين إبّان أزمة الوباء. التطمينات الحالية من جانب الحكومات المركزية فيها، لجهة إيجاد بدائل عن الإمدادات من روسيا، لا تزال تغفل، عن عمد، النقطة المركزية في النقاش الدائر هناك حول البدائل، وهي الكلفة.
سياق الأزمة
التعافي من الركود الذي تسبَّب به الوباء، لجهة انهيار الطلب على سلع وخدمات محدّدة (النقل والسياحة والخدمات والترفيه)، كان يفترِض عدم العودة إلى المواجهات العسكرية في المناطق التي تبدأ انطلاقاً منها سلاسل الإمداد أو التوريد. سعر برميل النفط، خام برنت القياسي العالمي، كان قد سجّل، قبيل الحرب، منحىً وسطياً، حيث استقرّ لفترة عند الـ 75 دولاراً للبرميل، وهو وضع يعكس حالة التوازن التي وصلت إليها السوق بعد سنتين من أزمة الطلب، بفعل الزيادة التدريجية في الإنتاج التي أقرّتها «أوبك+». وهذا كان مناسباً حينها لوضعٍ ينتقل فيه الاقتصاد العالمي من الركود إلى التضّخم، المحكوم بسقف سياسة أسعار الفائدة، حيث كانت البنوك المركزية الكبرى في العالم تستعدّ، قبيل الحرب، لرفع أسعار الفائدة، بعد تجاوز التضخّم الحاصل على ضوء سياسات التيسير الكمّي السقف المحدّد لها. الانتعاش هنا كان يتطلّب استمرارية معيّنة في سلاسل الإمداد، وخصوصاً لجهة الحفاظ على تدفّق المواد الأولية، لأنّ أيّ اضطراب فيها على ضوء أزمة جيوسياسية، أو حرب كما يحدث حالياً، كان سيقود حُكماً إلى محو آثار السياسات الاقتصادية التي أخرجت العالم من أزمة الركود. وقوع الحرب بحدّ ذاته ليس هو العامل الذي قاد العالم إلى أزمة التضخّم المفرط الحالية، بل انتهاج الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، رداً على التدخّل الروسي، سياسة محاصَرة البقعة من العالم التي تبدأ انطلاقاً منها جلّ سلاسل التوريد العالمية.

قرار الحرب
حين يحصل ذلك، أي حين يعطي الاقتصاد الأكبر في العالم الإشارة لحظر واردات الطاقة من روسيا، فهو يعرف، ليس فقط حدود تأثير هذه الخطوة عليه، بل أيضاً حجم انعكاسها، بالإضافة إلى سوق الطاقة، على أسواق الغذاء والمعادن والأخشاب والأسمدة في العالم. خلق أزمة بهذا الحجم، بذريعة جيوسياسية، في مواجهة روسيا، لا يعني أنّ ثمة قراراً بإنهاء حقبة التدخّلات العسكرية المباشرة بقدر ما يشير إلى أنّ القرار ذاته في الغرب هو بمثابة مقايضة بين الانتعاش ونقيضه، أو كما تقول الدعاية الغربية بين الغذاء و«الحرّية». فإمّا أن تستمرّ المواجهة على نحو منخفض الحدّة، ويعيش العالم في بحبوحة نسبية، أو أن ينفجر الصراع على أشدّه، وننتقل من الركود التضخّمي إلى انقطاع المواد الأولية نهائياً، بما في ذلك الغذاء، بالتالي تحصل المجاعة على نطاق واسع، لا سيّما في الدول النامية، وحتى داخل أوروبا نفسها.
اختُبرت هذه المعادلة مراراً، إبّان الحرب الباردة وبعدها، وآخر حلقاتها التعاون الذي تمثّل بالإنتاج المتزامن للقاحات «كورونا»، والذي وفّر للعالم خروجاً آمناً من أزمة الوباء ومعها الركود الاقتصادي العالمي. والحال أنّ هذه المرحلة كانت نموذجاً لتغليب الاعتبارات الاقتصادية على نظيرتها الجيوسياسية أو العسكرية، بدليل اقتصار الصراع حينها على سباق اللقاحات، أي على القوّة الناعمة التي تُستعمَل عادةً، حتى أثناء المواجهات الجيوسياسية، لتفادي الانزلاق، ليس إلى الحروب بحدّ ذاتها، بل إلى آثارها الاقتصادية المدمّرة. عدم استمرار التعاون في هذا النطاق أظهر محدودية القدرة، خصوصاً لدى الغرب، على كبح جماح نزعة التراكم عبر الحرب، المتأصلّة لديه. فالأرباح التي تحقّقت، بفعل إنتاج اللقاحات والتي عوّضت عن خروج أجزاء كبيرة من الناتج الإجمالي العالمي بتأثير قيود التنقّل، كانت كفيلة، ليس فقط بتأجيل قرار الحرب إلى حين تعافي الاقتصاد العالمي على نحو كامل، بل أيضاً بتغليب الوجهة من الرأسمالية التي كانت قد بدأت بالصعود، والتي تعتبر العالم حقلاً للتنافس على الموارد والصناعات الجديدة، ابتداءً بالتكنولوجيا العالية وليس انتهاءً بالطاقة الخضراء. النكوص باتجاه الحرب، مجدداً، وعلى نطاق عالمي هذه المرّة، مثّل قطيعة مع هذه الوجهة، إلى درجة بدا فيها أنّ الرأسمالية الجديدة قد تجنّدت بدورها لخدمة التراكم عبر الحرب، مع أنها على المدى البعيد أكثر المتضرّرين من معاودة إمساكه مؤقّتاً بزمام الأمور.
الفوضى التي تسبّبَ بها نظام العقوبات هذه المرّة على الصعيد العالمي ستكون أوسع وأكثر إيلاماً بكثير من فوضى «كوفيد»


ملامح انتقال الأزمة إلى أوروبا
ظهور هذه التباينات في الولايات المتحدة على خلفية الحرب في أوكرانيا، لا يقارَن بنظيرتها في أوروبا. فهناك يبدو الأمر، ليس فقط أكثر تعقيداً، بل أكثر ارتباطاً، أيضاً، بعملية التنمية نفسها. حيث الرهان على التراكم عبر الاستثمار في الطاقة الخضراء يصطدم بعقبة المواجهة الجيوسياسية التقليدية، التي أظهرت في الحالة الأوكرانية محدودية التخلّي عن التنمية المعتمدة على الطاقة الأحفورية لمصلحة نظيرتها النظيفة. المشهد السياسي الذي أُعيد إنتاجه هناك على ضوء هذا الرهان المستقبلي يبدو حائراً حالياً إزاء هذا الانفجار الكبير لمسألة الطاقة، إذ لا تبدو الوعود بإيجاد بدائل عن الطاقة الروسية مقنعة لأكثرية المواطنين هناك، في ظلّ ازدياد معدلات التضخّم على نحو قياسي، حتى بالنسبة لأسعار الغذاء. أحزاب الخضر التي صَعدَت مع بروز المسألة البيئية هي الأكثر تضرّراً من الحرب، ومعها بقايا الاشتراكية الديموقراطية من أحزاب يسار الوسط. فالطرفان حالياً لا يستطيعان تبرير اصطفافهما إلى جانب الولايات المتحدة، على نحو يجعل منه مفهوماً، خارج إطار الموقف المُعلَن والدعائي من الحرب. أي بالنسبة لأكثرية داخلية، من الطبقتين الوسطى والعاملة، حتى ضمن قواعدهما الحزبية، لم تعد تنطلي عليها السردية الغربية التقليدية حول وحدة الموقف الجيوسياسي تجاه روسيا. ومن الواضح أنّ مردّ هذا الاستياء، ليس الشعور بوطأة الأزمة فحسب، بل أيضاً انكشاف آثارها بعيدة المدى على أنماط الحياة والإنتاج والاستهلاك. هذا يضع ضغطاً كبيراً على المستوى السياسي الذي يفترض به تمثيل تلك الشرائح والفئات، فالتوفيق بين الأمرين ليس سهلاً في ظلّ الانتظام الذي تريد له الولايات المتحدة أن يكون كاملاً في مواجهة روسيا. وهو ما يزيد من «تصدّع الوضع الداخلي»، مع انتفاء الهوامش التي كانت مُتاحة في مسألة التعاون مع روسيا اقتصادياً، وحتى سياسياً، بالنسبة إلى دول مثل ألمانيا أو فرنسا.
الحالة الألمانية، تحديداً، تبدو مثالية في تظهير هذا السياق من «التصدّعات الداخلية»، إذ تدرّج الوضع، على ضفّة المواجهة مع روسيا، من التنصّل من مشروع «السيل الشمالي 2»، إلى المساهمة في العقوبات ضدّها، وصولاً إلى التلويح من بعيد بإمكانية التخلّي عن الغاز الروسي نهائياً. انعكاس هذه الخطوات على الداخل كان سلبياً، وهو ما يزيد من كلفة هذا الخيار بالنسبة إلى ائتلاف يسار الوسط، الحاكم هناك، إلى درجة يبدو معها وكأنه مُتخَذ لمعاقبة هذه الأحزاب نفسها ـــــ بما في ذلك حزب الخضر الذي ينظر إلى العلاقة مع موسكو بشكل مختلف ــــــ على تعاونها السابق مع روسيا. إذ لا يقتصر الأمر على ارتفاع أسعار الغذاء والبنزين وزيادة تكلفة الكهرباء والتدفئة، بل يتعدّاه إلى تضرُّر الصناعات نفسها، المعتمِدة بشكل كبير على الغاز الروسي، ومعها بالطبع مصير آلاف الوظائف التي تعود إلى الطبقة العاملة هناك. بهذا المعنى، تبدو إمكانية الحفاظ على التوازن، بين الالتزام بالعقوبات ومراعاة الوضع الداخلي، صعبة، إن لم تكن مستحيلة. وهذا ينسحب على دول مركزية أخرى في أوروبا لا تزال تجد صعوبة في تبرير انسياقها وراء نظام العقوبات الأميركي كما لو كان ثمّة فعلاً مصلحة فيه لاقتصادها أو لنمط التنمية الذي تقوده.

خاتمة
الفوضى التي تسبّبَ بها نظام العقوبات هذه المرّة على الصعيد العالمي، بذريعة معاقبة روسيا وحدها، على انتهاكها سيادة أوكرانيا، ستكون أوسع وأكثر إيلاماً بكثير من فوضى «كوفيد». فعامل التعاون الذي جَعَل روسيا والصين تقفان على الجانب نفسه من التاريخ، مع الغرب، لم يعد قائماً. وحتى دول الجنوب نفسها التي أبدَت استعداداً، سابقاً، للتعاون مع الغرب، على احتواء الوباء، سواء في البرازيل أو في الهند وجنوب أفريقيا و... إلخ، تَظهَر الآن، لا نقول أقرب إلى روسيا، ولكن على مسافة مع المقاربة الغربية التي تريد انتظاماً كاملاً، ومن دون هوامش حتى تراعي المصالح الوطنية لكلّ دولة، في مواجهة روسيا. هي تعتبر نظام العقوبات الذي يحظر موارد الطاقة والغذاء وبقية المواد الأوّلية والخام، انطلاقاً من موسكو، موجّهاً ضدّها، بقدر ما هو موجّه إلى روسيا، إن لم يكن أكثر أيضاً. فالتضخّم المفرط الذي تعاني منه أوروبا حالياً، وبدرجة أقلّ الولايات المتحدة، يأخذ لديها أبعاداً أخرى أكثر خطورة بكثير. في الغرب، حتى الآن، ليس ثمّة فقدان للسلع الأساسية، لا سيّما الغذاء، ولكن في الدول النامية، وبسبب صعوبة تأمين بدائل عن الإمدادات الكبيرة بالطاقة والغذاء، من روسيا، فإنّ مشكلة انقطاع الإمدادات تتقدّم على مشكلة التضخّم، التي تبدو، بالمقارنة مع ما هو قائم من نظم إنتاجية في الجنوب العالمي، مشكلة غربية أكثر، أي ذات طابع رأسمالي مركزي. الافتقار إلى تصنيع السلع الغذائية هناك يجعل من توافر المواد الغذائية الأوليّة، غير المصنّعة، مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى هذه الدول، أي بخلاف ما هو قائم في الغرب.
العقوبات هنا لا تعود مجرّد حرب اقتصادية على روسيا بغية إضعاف اقتصادها وجرّها لاحقاً ضعيفةً إلى التفاوض، بل تتحوّل، مع التفاوت الكبير في أنماط الإنتاج والتنمية في العالم بين الشمال والجنوب، إلى أداةٍ غير مباشرة لمعاقبة تلك البقعة من العالم نفسها على عدم انصياعها الكامل لرغبات واشنطن. مساهمة أوروبا المركزية في العقوبات تجعل منها شريكةً في هذه «الحرب»، مع أنها الأكثر تضرَّراً منها، على الصعيد الاقتصادي، فضلاً عن هامشيّة دورها فيها عسكرياً وأمنياً، وحتى سياسياً، قياساً إلى الولايات المتحدة. هي، بهذا المعنى، ليست حربَ الغرب بمجمله، بل حرب الطرف داخله الأقل تضرّراً من نظام العقوبات ومحاصَرة إمدادات الطاقة والغذاء، باتجاه الجنوب، وبقية دول العالم. وهو ما يجعلها حرباً من دون أفق على المدى البعيد، حتى لو حقّقت مكاسب آنية، على اعتبار أنها تُخاض، ليس من دون حلفاء، ولكن بجبهة مليئة بالانقسامات، وبعمق جغرافي طبقي محدود، يقتصر على الغرب وحده من دون الجنوب. الصّدعان الكبيران هذان، على ضفّتي الاتحاد الأوروبي والدول النامية، هما ما يجعلان من نهايتها، لغير مصلحة الولايات المتحدة، مسألة وقت لا أكثر.
* كاتب سوري