بات من الصعب في عالم اليوم تقبّل سياسة خارجية لبلد ما من دون أن تكون مؤطرة بسردية نظرية أو فكرية تجمع بين ثناياها روح الدولة وهويتها الحضارية والثقافية وجغرافيتها ورؤيتها التي تشبه العدسة الدولية التي ترى العالم من خلالها. وعادة ما تكون من صنع ثنائية الأكاديمي - الديبلوماسي، التي تنطلق من أدمغة حدائق الفكر والثقافة، لتترسخ على أرضية صلبة تستمد جذورها وعمقها من أتون القلاع النظرية وسوق المعرفة، بعيداً من ظاهرة الاستدعاء الأيديولوجي. بل باتت تشكّل المسافةُ بين الطرح النظري والممارسة العملية القياسَ الذي بمقداره يتم تصور درجة النجاح الديبلوماسي في المسرح الدولي. قاطرة الأفكار لا تبدأ عند «صدام الحضارات» لصموئيل هنتنغتون، أو معالم «الفوضى الخلاقة» لكوندليزا رايس، و«سياسة الخطوة - خطوة» لهنري كيسنجر، أو «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما، أو عند «تصفير المشكلات» لأحمد داود أوغلو، أو «القوة الناعمة» لجوزيف ناي، ومقتربات فكرة «أم القرى» للدكتور محمد جواد لاريجاني، ولا تنتهي عند بريجسنكي ونظرية «الماكندرية الجديدة»، وغيرها من النظريات، التي مزجت بين طاولة البحث الأكاديمي ومنصة التفاوض الديبلوماسي، لكي تمثّل بوصلة الخروج من متاهات السياسة الدولية عبر سياسة خارجية خطها قلم أكاديمي ورسم خياراتها، واقتنع بها سياسي، لينفذها جندي أو ديبلوماسي على أرض الواقع. على الرغم من التهمة الجاهزة بوجود فجوة بين قارب النظرية وشاطئ التطبيق في عالم العلاقات الدولية، فإن المحاولات المستمرة تبقى لإيصال هذا القارب إلى ميناء السلوك السياسي عبر جسور مجتمعات بنوك البحث والتفكير، في محاولة لعدم فصل ثنائية الأكاديمي – الديبلوماسي. لكن هذا الفصل يزداد في عالمنا العربي بشكل أكبر، خصوصاً عندما يبتعد رجالات المعرفة عن قصور صناع القرار، ومراكز الاهتمام، وتصبح هناك متلازمة للضمور الاستراتيجي وفقدان الدور. وعندما تفقد ملامح هذه العلاقة يصاب مخيال صناع السياسة أمام نظريات المعرفة بقصر النظر وقلة الاهتمام، بالمقابل يتهم السياسي صندوق الأفكار النظري بأنه لا يمثّل رؤى استراتيجية بل مجرد بلاغة كلامية، وإن كان هناك تأثير للنظرية فهو نسبي وضئيل، فيما يعتقد الأكاديمي أن رجال السياسة غير قادرين على التفاعل معه لأنهم يبحثون عن مصالحهم أكثر من مصالح الدولة التي يمثّلونها، فتصبح نظرية غرامشي حول المثقف العضوي صعبة التنفيذ. لكن، رغم ذلك، بات احترام النظرية مقياساً لنجاح السياسات الخارجية، كما يقول المنظّر الواقعي ستيفن والت: «النظرية أمر أساسي لتشكيل وصفات سياسية، لأن الأفعال السياسية تعتمد على بعض من المفاهيم السببية الخام، كما تلعب النظرية أيضاً دوراً نقدياً وذلك لتفعيل التطور السياسي».
وهنا نسأل هل يمكن أن يكون هناك عمل مسرحي بلا نص مكتوب؟ أو قيادة باخرة في وسط المحيطات بلا بوصلة تحدد مسارات الوصول؟ وإن كان هناك وصول لقارة معينة، فستكون صدفة أو مجرد ضرب لقراءة كف سياسي! وهكذا فإن مهمة رجال السياسة الخارجية، بلا خريطة فكرية، تصبح أشبه بمطاردة فراشة بمطرقة حديدية ضخمة، وتؤدي بالنتيجة إلى جمود الإبداع في إنتاج موضوعات متجددة تفسّر نماذج الحركة السياسية، بل ترسيخاً لقطيعة أبستمولوجية ومنهجية بين المثقف وسوق الأفكار والسياسة الخارجية.
من هنا، أعادت الأزمة الروسية – الأوكرانية إلى الأذهان التنافس الفكري بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وروسيا حالياً، الأنموذج الأبرز لتفاعلات صندوق الأفكار ومحاولة وضعه في مسارات التطبيق.

المستر أكس
كان يوم 22 شباط عام 1946 يوماً بارزاً في تاريخ العلاقات الدولية، حينما كتب القائم بأعمال السفارة الأميركية في موسكو جورج كينان مذكرة إلى بلاده عرفت باسم «البرقية الطويلة»، باسم مستعار هو «السيد أكس»، محاولاً تحليل مصادر السلوك السوفياتي، نشرت لاحقاً في مجلة «فورين أفيرز» عام 1947 الذي وضع فيه صندوق أفكاره عبر ما يعرف بسياسة الاحتواء. كانت الفرضية الأساسية لمصادر السلوك السوفياتي هي أن السياسة الخارجية لهذا الكيان تحددها الأيديولوجية والظروف الدولية، وهي خلاف الرؤية السائدة آنذاك، مثل مبدأ ترومان الذي يرى أن الشيوعية جسم أيديولوجي ومتماسك، ولذلك حاول اللعب على وتر التمييز بين الروس والسوفيات، متوقعاً حدوث انشقاقات بين الاتحاد السوفياتي مع الصين والدول الشيوعية الأخرى، ناهيك عن اختلافات قواعدها الفكرية.
تبرز عبقرية كينان في أهمية دراسة العلاقات الدولية من الزاوية الأنثروبولوجية عبر دراسة ظاهرة القيادة عند السوفيات بروح الهندسة الاجتماعية، ناهيك عن رؤيته للقصور الاقتصادي الذي سيعاني منه السوفيات. وظل يعتقد بتحوّل الاتحاد السوفياتي إلى مجتمع ديموقراطي ليبرالي رأسمالي بمؤسسات تشبه إلى حد بعيد الولايات المتحدة. وحتى ما بعد سقوط جدار برلين يقول في مذكراته: «أعتقد أنها بداية حرب باردة جديدة، إن الروس سيردّون تدريجياً بشكل عكسي وسيؤثر ذلك في سياساتهم». كما يرى أن توسع «الناتو» قد صنع وضعاً جديداً يتعيّن فيه على «الناتو» إمّا التوسع على طول الطريق إلى حدود روسيا، وإثارة حرب باردة جديدة، أو التوقّف عن التوسع وإنشاء خط فاصل جديد عبر أوروبا.
تبرز عبقرية كينان في أهمية دراسة العلاقات الدولية من الزاوية الأنثروبولوجية عبر دراسة ظاهرة القيادة عند السوفيات بروح الهندسة الاجتماعية


ورغم أنه ظل سنوات طويلة مفتاحاً لسياسة الولايات المتحدة خارجياً، فإنه يقول: «الحقيقة أحياناً منافس ضعيف في سوق الأفكار المعقدة وغير مرضية ومليئة بالمعضلات، دائماً عرضة لسوء التفسير وإساءة الاستخدام». لطالما أكد كينان أنه لا يمكن التعامل مع الروس على أنهم خصوم أبديين، وأن إذلال الروس سيؤدى إلى تعزيز صعود التيارات القومية المؤيدة للعسكرة في الصراع، إلا أن التيار الأميركي الحاكم والمؤثر رفض هذا الصوت، واصفاً صندوقه بالضعف وعدم القدرة على تفسير طبيعة الصراع، وبأن هناك فارقاً كبيراً بين النظرية والتطبيق. ولهذا واصل البيت الأبيض سياسة العقوبات المستمرة تجاه روسيا الاتحادية، فضلاً عن بناء قواعد الصواريخ في البلدان التي كانت يوماً جزءاً من الإرث السوفياتي، فأعادت تلك السياسات الأميركية صعود قيصر روسيا الذي ركّز على إعادة بناء روسيا من الداخل واستعادة مكانة روسيا الخارجية، وثم ممارسة حرب جديدة بطرق مختلفة، نتيجة لأن الصوت الأكاديمي لم يسمع، لتركن نظريات كينان في رفوف متحف الديبلوماسية الأميركية.
رغم وجود دعوات تطلق اليوم لاعتماد سياسة الاحتواء بدلاً من الحرب المباشرة، فإن معارضي تلك السياسة يرون أن الاحتواء استغرق 40 عاماً لينجح، لكنه شمل على الكثير من الأخطاء التي لا داعي لها بما في ذلك شن حرب فييتنام ودعم الإطاحة بالعنف لعدد من الحكومات، حيث بقي الهدف الأساسي هو نفسه السياسة القديمة، مواجهة التوسّع الروسي، وفرض تكاليف حقيقية على النظام الروسي، رغم أن روسيا ليست هي الاتحاد السوفياتي، ورغم أن العودة إلى الاحتواء اليوم لن تؤدي إلى إنهاء فوري للحرب الروسية في أوكرانيا، لكن ربما هي السلاح الأميركي الوحيد.

مهندس الأفكار الروسية
لا يمكن فهم السياسة الخارجية الروسية من دون معرفة أفكار ألكسندر دوغين، صاحب نظرية الأوراسية المتجذرة، يفرش مدى نظريته لتشمل المنطقة الممتدة بين أوروبا وآسيا، والتي وجد أنها تحوي على أربع حضارات، هي: الحضارة الروسية والصينية والهندية والإيرانية. ووفق رؤيته، فإن هذه الحضارات أمام صراع مستمر مع الحضارات البحرية والأطلسية مثل بريطانيا وفرنسا قديماً، والآن تمثّل الولايات المتحدة. ويرى أن الحضارات الأرضية تتعلّق بالأرض، وشعوبها تحافظ على التراث القديم وتتصف بالشمولية والمحافظة، وهي تقاوم بقوة قيم الحضارات البحرية، ولا سيما الأفكار الليبرالية والحداثة الغربية. كما احتوت خزانة أفكار دوغين على مفهوم النظرية الرابعة، التي يراها بديلاً من الأنظمة الشيوعية والنازية والليبرالية، تشغل الفراغ التاريخي في مقاومة القطبية الأميركية كما يعبّر.
فيما كان العالَم النظري لدوغين ينظر لفكرة الأورو-آسيوية، كان خطاب الكرملين المتكرّر في السياسة الخارجية يدعو إلى احترام مخاوف موسكو الأمنية في فضائها السوفياتي السابق، لكن التجاهل الغربي زاد المشكلة تعقيداً، لتبدأ بضم شبه جزيرة القرم والتدخل في دونباس. تعزز فقدان الثقة بين خط موسكو – واشنطن، وقدّمت دعائم صلبة لعقيدة بوتين في السياسة الخارجية القائمة على دفع الغرب للتعامل مع الكرملين كما لو كان هناك الاتحاد السوفياتي، عبر الاحترام والخشية، هذه العقيدة الواقعية التي لا تعيش على أطلال الماضي.
لا يخفى على أحد وجود صراع هوية تعيشه روسيا، مثلاً وجد 12 مليون روسي في الدولة الأوكرانية الجديدة بعد عام 1991 وكأنهم فقدوا صورة وطنهم التاريخية. وقد ذكرت في كتاب «الجيل الثاني للديبلوماسية: تدافع الهويات في السياسة الخارجية» أن الصراع القادم في العالم هو صراع هويات، وتبدو أوكرانيا هي مقدمة لتلك الصراعات، حيث يرى المهندس الفكري دوغين أن أوكرانيا التي تأسست عام 1991 قد نشأت من أقاليم وشعوب غير متجانسة كلياً. حيث يتواجد شرق أوكرانيا نفس سكان جنوب شرقي روسيا، وأن هذه الأراضي أُخذت من الأتراك من قبل الإمبراطورية الروسية، ويعتقد بأن الأمر نفسه ينطبق على شبه جزيرة القرم، فيما كانت المناطق الغربية من أوكرانيا تحت الحكم الكاثوليكي البولندي والنمساوي لعدة قرون. ونظراً لكون الأوكرانيين أرثوذكسيين وفلاحين في الغالب، فقد اعتبرهم الكاثوليكيون أقل مرتبة، إذ حاول جزء من الروس الأوكرانيين تأكيد هويتهم، بشكل مختلف عن ثقافة روسيا القيصرية، حيث بدأت تتشكل القومية الأوكرانية، رغم أن البعض يرى أن في هذه الأفكار خطورة وأنها متطرفة، لكنها بالنتيجة رسمت معالم سياسة روسيا الخارجية.
بل وضع في كتابه المترجم إلى العربية: «أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي» بوابات حقيقية لفهم طبيعة التدخل الروسي في أوكرانيا. يقول: «أوكرانيا كدولة مستقلة ذات مطامع ترابية معينة تمثل خطراً داهماً على الأوراسيا كلها، ومن دون حل المشكلة الأوكرانية يبدو الحديث عن الجيوبوليتيكا القارية أمراً عبثياً على العموم، وهذا لا يعني أنه ينبغي الحد من استقلال أوكرانيا الذاتي أو الثقافي - اللغوي أو الاقتصادي، وأنه يجب أن تصبح مجرد قطاع إداري للدولة المركزية الروسية، إلا أن أوكرانيا من الناحية الاستراتيجية يجب أن تكون إسقاطاً لموسكو في الجنوب والغرب». ويؤكد على «الاستقلال الإتني والمذهبي لروس القرم، وللتتر والكازاك والأبخازيين والجورجيين، على أن يتم ذلك كله إزاء السيطرة المطلقة لموسكو على الوضع العسكري والسياسي، وهذه القطاعات يجب أن تُبعد بصفة جذرية عن النفوذ التالاسوكراتي القادم من الغرب أو من تركيا، إن الشاطئ الشمالي للبحر الأسود يجب أن يكون أوراسياً بصفة استثنائية وأن يخضع لروسيا بصفة مركزية».
رغم أن الصراع الحالي أبعد من أزمة طاقة، بما تمثّله من صراع حضاري جيو سياسي، لكن تبقى خريطة الغاز مهمة. يصف السيناتور السابق جون ماكين روسيا بأنها «محطة وقود تتنكر كبلد»، وخصوصاً لأوروبا التي تعتمد بـ40 في المئة من غازها الطبيعي على روسيا. ويؤكد روبرت كابلان في كتابه «انتقام الجغرافيا، ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد المصير» بأنه عند وقوع أوكرانيا مرة أخرى تحت السيطرة الروسية، فستضيف روسيا 46 مليون نسمة إلى تركيبتها الديموغرافية الموجهة إلى الغرب، ويمكنها أن تتحدى أوروبا، حتى على الرغم من اندماجها فيها، وفي هذه الحالة، ووفقاً لبريجنسكي، فإن بولندا التي تطمع فيها روسيا أيضاً ستصبح محوراً جيوسياسياً يحدد مصير أوروبا الوسطى والشرقية، بالتالي مصير الاتحاد الأوروبي نفسه، وأن الخصومة سوف تستمر بين روسيا وألمانيا وفرنسا، كما هي الحال في الحروب النابليونية، حيث سوف يظل مصير بولندا ورومانيا معلقاً بانتظار الحسم.
عندما لا يتم سماع صوت صناديق الأفكار الأكاديمية سيبقى خطر الحرب قائماً، ولا أعلم هل قرأ بايدن ودول «الناتو» ما كتبه بروفسور العلاقات الدولية جون ميرشايمر الذي يرى في أوكرانيا منطقة عازلة بين روسيا والغرب، وكل ما عدا ذلك هو استمرار للحرب بها، حيث النظرية الثلاثية الأبعاد لبوتين والتي ما زال يعتقد بها؛ أمام توسع حلف «الناتو» وامتداده شرقاً، والركن الثاني عبر توسع وتمدد الاتحاد الأوروبي، والركن الثالث استمرار الغرب بالحديث عن مشاريع الديموقراطية الليبرالية على النسق الغربي، فيما الغرب يبدو يرفض فكرة المنطقة العازلة.
بعيداً من الأحداث الحالية يبقى صندوق الأفكار في السياسات الخارجية مهمة يجب أن تسعى لها الدول المحترمة، فكم من كيسنجر وكينان ودوغين عربي ذبحوا على مقاصل التمييز بين الأكاديمي والسياسي، ومن تزاحم جيوش المستشارين كغنيمة لا كحالة مؤسسية لصنع القرار، لكن كما يقول برتراند راسل: «المشكلة برمّتها مع العالم هي أن الحمقى والمتطرفين على يقين من أنفسهم دائماً، لكن الأشخاص الأكثر حكمة مليئون بالشكوك».
* ديبلوماسي عراقي وباحث أكاديمي