سئمت الكلام عنهم ولو قبل كتابة أوّل حرف. معظم زعماء السياسة (تثاؤب بعد تثاؤب) يرتقون إلى مستوى الممسحة الوطنية. أنواعها كثيرة وموجودة أمام باب كلّ سفارة غربية وخليجية، أو أمام مدخل مديرية ومغارة في وزارة. لا بل يمكن المجادلة أنّ أوسخ ممسحة أشرف من أنظفهم. سواء في الحرب والسلم، يُعرّفون عن أنفسهم كـ«سوبرمان» البلد أو «مُخَلّص» أو «إله» يعمل تحت اسم عادي ومستعار من عامة الشعب كـ وليد، نبيه، سمير، سليمان، نجيب، سعد، فؤاد، أمين، نديم، إلخ. لكن جميعنا يعرفهم بإسمهم الحقيقي: الممسحة. يمكن لأي مِنّا قيادة سيارة داخل كل أقوالهم دون الاصطدام ولو بكلمة صادقة واحدة. كلّما سمعت خطاب أحدهم أتذكّر سوق «جسر الواطي»: مقارنةً بوطاوة الساسة، كل البضاعة مصفوفة في مكانها ولا شيء بقيمة تتخطى الألف ليرة. كلامهم منظّم، لكنه رخيص بلا قيمة.كفانا الكلام عنهم والتصويت لهم! لننتقل إذاً إلى من هم أعلى شأناً على معيار العار الوطني. أمسكوا أنوفكم، وتفضلوا روبوتات المال والجشع، فخر النفاق والإنفاق اللبناني منذ الاستقلال: رؤساء المصارف ومجالس إداراتها، على رأسهم ذلك الرياض «بِتاع» ضروب الاحتيال. خذوا أياً من أصحاب المصارف كعَيّنة عشوائية لتجدوه عبارة عن حبة مقانق مقلية تسبح وتفور وتفرقع في سمنتها السميكة. كولسترول أخلاقي وانحطاط مواطني وأنانية في العقد الاجتماعي مجتمعون معاً في حساب واحد من الفساد المالي وماكْرو-اقتصاد فاشل. بصحتكم.
المؤتمنون قانونياً على مدخراتنا تشاطروها بأكملها علناً مع المؤتمنين قانونياً على سياساتنا. والمؤتمنون على «إيماننا» في الكنيسة والجامع أعطوهم الأمان. جميعهم خذلونا. فرضوا علينا الكفر بطوائفهم وأديانهم. فرضوا علينا الإلحاد الأشرف من كل ممارستهم للدين. أصبحنا تحت الأرض بلا نفس فيما جميعهم من أعلى كراسيهم يتربصون بذلك الكنز الافتراضي القادم: غازنا الطبيعي، ولكن ليس قبل استحقاق المحطة الفاصلة: التربص بصوتنا الانتخابي وإعادة تدوير الطبقة السياسية نفسها.
لا يعايرنا أحد أنّ مجتمعنا لا ينتفض ولا يصنع أبطالاً. لولا إنكلترا في ظهره لما حرّر وتبوأ ديغول الحكم؛ لولا أميركا لما انتصر تشرشل؛ لولا روسيا لما نجت أوروبا من ألمانيا النازية؛ لولا أوروبا لما كان الكيان الصهيوني؛ ولولا حلف «الناتو» لما تحوّل أمثال زيلينسكي إلى فأر يزمجر اليوم.
وكأنّ زمن الانتفاضات الأصيلة والعفوية ولّى. سواء في الشرق أو الغرب، وحدها الثورات الملونة حلال شرعي على الشعوب المنقسمة، فقط لإنتاج ديموقراطية فورية سريعة التحضير بإضافة ليترات الدولار في كواليس السفارات. غالباً ما تكون النتيجة ديموقراطية هشة مسَيّرة ومرفقة بمعارضة شكلية غير فعّالة، تنهار عند أول نكزة خارجية. المتاح أمامنا فقط أفق ضيق من التغريدات والمراقبة الإلكترونية وتطبيقات «بيغاسيس» التجسسية علينا. حتى النبي موسى كان أوّل من استعمل لوحة «تابلِت» للتواصل «أونلاين» ما وراء الغيوم، ليبدأ مشوار الجهل السماوي وغسل الأدمغة بتزمّت روحاني زائف، إلى أن أصبح ذلك النوع من التواصل مادة إلغائية للآخر وسلاحاً طائفياً بين الإنسان وأخيه. سردية الديانات السماوية ما زالت مصرّة، غصباً عن المنطق، على أسطورة التفاحة الأولى — آبل كمبيوتر الأول — بطولة شيأين اسمهما آدم وحواء؛ هل تكفي نتشة «بايْتْ» واحدة ليتعطل جهاز البشرية وتغريمنا ثمن خطيئة شخصين لا ولن يوجد أي دليل على وجودهما أصلاً؟ سلامة فهمنا جميعاً.
إنه عصر العقوبات الإمبريالية واستنزاف الكرامة الإنسانية دون التصبّب عرقاً ودماً على الإسفلت. كل عضلة في أجسادنا باتت تنتج بصمات رقمية ملاحقة من الشركات العالمية وقوى الأمن المحلية. واقعياً ربما لا يعَوّل على الشارع في هكذا ظروف.
لكن ليس كلّ الأفراد نماذج من الفئران في مختبرات الساسة والكنيسة والجامع. يا جماعة نحن هنا، إذاً نحن أحياء نرزق ونفكر. شجعان من أمثال الدكتور حسن أحمد خليل والمحامية بشرى الخليل يجازفون بأمنهم الشخصي في خدمة كسر الخناق المحكم على حقوق الناس. كما لدى العديد من المرشحين المستقلين في كل البلد مصداقية عالية ومهنية لا غبار عليها، بما فيهم الكثر على لوائح التيار الوطني الحر. المقاومة حرّرت الأرض وما زالت تحمي الحدود، لكن من قال إنّ بإمكانها تحرير الإنسان من سياسات الغبن الداخلية؟ واقعياً هي نجحت ونجح الشعب (كل الشعب مهما نكر البعض) في المهمة الأولى، لكنها فشلت أي فشل في المهمة الثانية، أقلّه بسبب إصرارها على مسايرة الفاسدين منذ الـ 2005. المقاومة غير المخروقة حاجة أساسية طالما الجيش الوطني مخروق وتسليحه ممنوع، ولكن إطاحة الطرف الآخر في تركيبة ما يُسمّى بـ«الثنائي الشيعي» إلى غير رجعة ضرورة في الانتخابات القادمة. نعلم تماماً لماذا فخامات نبيه بري ووليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع وفؤاد السنيورة (إلخ) بحاجة إلى حاكمية رياض سلامة كما صائب سلام كان بحاجة إلى قرنفلته. ولكن لا أحد يدري لماذا السيد حسن نصرالله بحاجة إلى الأساتذة بري وميقاتي والحريري ومن يشبههم. جميعهم سقطوا في نظر المواطن ولو نجحوا في الانتخابات القادمة، وحزب الله سقط وسيسقط معنوياً بإصراره على الاقتران بأولئك. تفكيك هرمية الفساد، حجراً حجر، من الضروريات بدءاً من الرؤوس المدبرة حتى قاعدتها العريضة داخل المؤسسات البرلمانية، القضائية، الحكومية، المصرفية، والاقتصادية. وإلا أية نهضة مشلولة نرجوها، وأي انتعاش وإصلاح نسعى إليهما على أيدي من خططوا ونفذوا أكبر سرقة ثروة وطنية في تاريخ الشعوب؟
في بلادنا، عندما ينقم ابن طائفة على جاره من طائفة أخرى، ينقم على الطائفة برمتها، فيزرع تلك النقمة في سطل، يسقيها يومياً، يشذّبها، يشمسها، يغذيها بالزبل، ويربيها بين يديه إلى أن تكبر بحجم شجرة خروب أو صنوبر. وبعدين معكم؟ كفانا طائفية، وكفانا حباً أعمى أو كراهية عمياء.
في البدء كانت الكلمة،‏ والكلمة كانت عند الإنسان الشريف وليس غيره،‏ وكانت الكلمة أفعالاً شريفة شفافة وواضحة كعين الشمس، على أساسها تتم المحاسبة: هذا هو أساس انتداب المواطن للنائب في المهمة السياسية. إنه توكيل يُعطى ويُسحب حسب النتائج، وليس تكليفاً دينياً أبدياً للتصويت على أساس فتاوى السيد والبطرك والغرام الطائفي المطلق. صدق أبو الطيب المتنبي بقوله: «فإن قليل الحب بالعقل صالح، وإن كثير الحب بالجهل فاسد». بعد ثلاثين سنة (كي لا نعود أجيالاً من التخلف السياسي إلى الوراء منذ الـ 1943)، أنظروا إلى النتائج، واسألوا آباءكم وفسروا لأولادكم عن روائع الكهرباء والماء والزراعة والصناعة والسياحة والطرقات والبيئة والطبابة والأمن والاقتصاد والمصارف وضحايا الحروب السابقة وربما القادمة... واسألوا عن خربان بيوتكم أنتم. اسألوا عن كرامتكم وسعادتكم. هل حرّرتم الأرض من الإسرائيلي وأنهيتم الاحتلال السوري كي يهاجر أولادكم بحثاً عن لقمة عيش وربع كيلو كرامة في دول العالم؟ لا تنتخبوا من أدار اللعبة داخل منطقتكم على مدى العمر، أينما كانت منطقتكم في بلد الوعود المؤجلة دائماً وأبداً.

* ناشر لبناني ومحرر سابق لمجلات أدبية وفنية