نشرت «الأخبار» مقالاً للكاتب يوسف سعاده بعنوان «ردّاً على مهدي عساف: عن «ممفد» والنخب والانتخابات»، يواصل، من خلاله، مشكوراً، مناقشة فكرة كنت قد قدّمتها في مقالة مقتضبة نشرتها «الأخبار» بعنوان «ما لشربل نحّاس وما عليه». وعلى أنّني أعذره على المماهاة بيني وبين نحّاس، حيث كان من الأجدى به أن يتوجّه ببعض مناقشاته إلى «مواطنون ومواطنات في دولة»، أقول، على الرّغم من أنّني أعذره، إلّا أنّ هذا خلطٌ ينبغي تقويمه. ومن باب الحرص على الحفاظ على أفق المناقشة المعتدلة، خصوصاً أنّني أرى أنّ حركة «ممفد» تُعدّ ظاهرة مستجدّة في واقعنا تستحقّ أن تكون موضوعاً للنّظر، قرّرت أن أفصّل نسبيّاً ما عنيته في المقال الأوّل، بالإضافة إلى إثارة بعض النّقاط التي يمكن للقارئ أن يأخذها في الاعتبار.بداية، في ما يخصّ الإجماع الوطنيّ حول المقاومة، يتوجّب عليّ الإشارة إلى أنّ الإجماع هنا لا يأتي للإحالة على التزام انفعاليّ لدى كلّ لبناني بالعداء تجاه الإمبرياليّة، لأنّ هذا لا قائل له. إنّما على إنجاز مفهوم نظريّ للمقاومة بوصفها مشروعاً يتأسّس لمواجهة المشروع النّقيض، الإمبرياليّة. قيمة هذه النّظريّة تظهر في تأمين الأدوات اللّازمة لإماطة اللّثام عن وجه الاستعمار، خصوصاً أنّه لم يعد يظهر على هيئة واحدة كلاسيكيّة يمكن للشّعوب تجاوزها حصراً من خلال معارك الاستقلال. تستلزم صياغة هذا المفهوم عودة تاريخيّة إلى القرن التّاسع عشر حيث تُرجم التّحوّل البرجوازيّ بعد الثّورة الفرنسيّة على شكل مناطق نفوذ اقتصاديّة نبتت في بلادنا. فيما عمدت الدّول الاستعماريّة إلى الاستفادة من الواقع الملليّ العثمانيّ من أجل رسم حدود للممارسة السّياسيّة مبنيّة على أساسات طائفيّة، بغية تثبيت مصالحها في الشّرق. وبعد ذلك ظهور إسرائيل في سياق التّنافس الاستعماريّ بين بريطانيا وفرنسا (انظر: إيلان بابيه: عشر خرافات عن إسرائيل). وعليه، يظهر أنّنا في مسيس الاحتياج إلى صياغة نظريّة في المقاومة، تقاوم، من جهة، الامتيازات الاقتصاديّة الاستعماريّة، ولا تغفل أيضاً تفتيت الواقع المللي باعتباره عقبة أساسيّة في طريق التحرّر.
مقاومة الاستعمار، في وجه من وجوهها المتعدّدة، هي أيضاً مقاومة الإلزام المعرفيّ الذي يفرضه المستعمر - بالمعنى الحديث - في العلوم الإنسانيّة، لا ردّه بالضّرورة، إنّما في المقام الأوّل استعادة التّفكير فيما يُقدَّم على هيئة ما لا ينبغي التّفكير فيه. أي في ما يُقدّم على شكل إجابة نهائيّة ناجزة لا تقبل إعادة النّظر. وأقول: «العلوم الإنسانيّة»، لأنّ الفحص الإمبريقيّ لا يغطّي سوى مزق يسير منها، وهي لم تجد حتّى الآن ما يحملها على وعي حدودها الكاملة بما يجعلها «علميّة»، أي ممكنة التّخطيء. وحتّى الآن، وفي جزء كبير منها، هي لا تعدو كونها تعميمات استقرائيّة لفهم مقيّد بزمان ومكان. حيث يمكن بالتّالي توظيفها لغايات مصلحيّة تخدم مروّجيها. ولهذا تكون إعادة تبكيت المعارف التي يسهل نسبياً العبث بها، مهمّة ما تفتأ تطرح نفسها على المثقّف بإلحاح، وخصوصاً من يستشهد بغرامشي.
هكذا يصير لزاماً علينا أن نضع المسألة الّتي هي موضوع نقاشنا، موضع المساءلة. هل يحتاج الانتقال إلى الدّيموقراطيّة، بالضّرورة، إلى جمهرة شعبيّة؟ أم لا!
بالطّبع يسهل تقديم إجابة إيديولوجيّة على هذا السّؤال. بل وتزيد السّهولة إذا كانت ترضي أهواء عدد كبير من النّاس. إلّا أنّ هذا لا يقدّم لها حقّ الانتماء إلى الفكر والفلسفة، خصوصاً أنّ الانطلاق من افتراضات، تتمحور حول جماعة تاريخيّة محدّدة ثمّ تنطلق إلى البشريّة ككلّ، يُدخل الخلاصات رأساً إلى حيّز السّياسة الإيديولوجيّة بالمعنى الذي يستخدمه ناصيف نصّار، حيث تنطوي السّوسيولوجيا المستخدمة في السّياسة على انحيازات تليولوجيّة teleological biases. وهذا تماماً ما فعلته الولايات المتّحدة عندما روّجت لضرورة مرور سيرورة «الدمقرطة» بالحشود الشّعبيّة، وضرورة جهوزيّتها لهذا الانتقال، من أجل تسويغ تحالفاتها مع ديكتاتوريّات تحت طلاء تبريريّ يصعب كشطه، وهو «عدم جهوزيّة الشّعب للديموقراطيّة».
يفرض السّياسيّ، إذا نجح نحّاس في استرجاعه، على القوى السّياسيّة اللّجوء إلى خطاب مفتوح، يمكن الانقلاب على جزء منه أو كلّه من داخله


يمكن طرق المسألة هذه من نواحٍ عديدة، أبرزها على ما يبدو لي، فهم السّياسيّ le politique بالمعنى الذي عرفه اليونان. السّياسيّ هو نظر النّاس إلى تجمّعهم كموضوع مشترك، ما يسمح باجتراح إطار تُمارس فيه السّلطة دون أن تكون موضوعاً للامتلاك. بحيث تبقى على الدّوام «وسط الجميع وبينهم». والسّلطة هي إملاء إجابة حقبة زمنيّة عن النّحو الذي ينبغي أن تكون عليه المؤسّسات، كي يعيش الإنسان نمط عيش ما، في البوليس polis. تكمن ميزة السّياسيّ اليوم إذاً ـــــ والذي يحاول نحّاس بنظري استعادته ـــــ في أنّه يعيد تأسيس الفضاء النّقيض للممارسة الإداريّة للجماعات، التي هي صيغة ممارسة الحكم الرّاهنة التي تحكم النّظام اللّبنانيّ (حيث لا تمايز بين السّلطة والفرد).
بل ويفرض السّياسيّ، إذا نجح نحّاس في استرجاعه، على القوى السّياسيّة اللّجوء إلى خطاب مفتوح، يمكن الانقلاب على جزء منه أو كلّه من داخله. فيصبح الانخراط في السّياسيّ بمنزلة الإلزام، لأنّ استئثار الفرد بالسّلطة لا يمكن أن يشكّل أبداً على ترتيب مصلحيّ للنّاس الذين يعون عند استرجاع السّياسيّ ضرورة التّحديث. وعند هذا المنعطف تماماً، تُستعاد إمكانيّة التّحوّل نحو الديموقراطيّة كمشروع يمكن فهمه في هذا السّياق كعَرَضٍ داخليّ للسّياسيّ. لأنّه، التّحوّل نحو الدّيموقراطيّة، يفرض نفسه آليّة للتّوازن بين قوى متعدّدة داخل الدّولة. وعلى التّحديد، من يلتزم الانضمام إلى السّياسيّ من هذه القوى، بما هو الطّريق الأوحد للمحافظة على السّلطة. فيما يُقصى من يصرّ على التّطرّف خارجها، أي خارج السّلطة. وهذا قد يتمّ، على سبيل المثال لا الحصر، عبر التوسيع والتعميق التدريجيّين لصلاحيّات البرلمان. الأمر الذي يمكن عدّه انتزاعاً للإصلاح من أيدي القوى غير الديموقراطيّة. وأقول إنّ سيرورة انتزاع الإصلاح هذه تعطي معنى للتّسلّم السّلمي للسّلطة الذي يطرحه الأستاذ شربل نحّاس مراراً، لأنّه تسلّم لأنفع أدوات السّلطة (الإصلاح)، دون الوقوع في شرك الاحتراب الأهليّ، فيما لا أجد أيّ معنى له إذا كان نحّاس يورده خارج هذا السّياق. كلّ ما سبق، يكشف بجلاء المعنى الذي يشير إليه مصطلح النّخب الذي أوردته في مقالتي الأولى، وهي النّخب السّياسيّة، التي توجّه الإصلاح وفق ما تراه مناسباً لمصالحها المراعية لمصالح النّاس، لا التزاماً بالفضيلة بل من أجل المحافظة على امتيازاتها. ولا يكون إذاً مصطلح النّخب معبّراً عن المثقّفين والأنتلجنسيا فقط كما فهمه سعاده، وأسّس مجمل فكرته على هذا الفهم.
لا يتعلّق إذاً عدم تمرير الخطاب إلى الجماهير بـ«قصر فهم عامّة الشّعب للخطاب الثوري التغييري الأغرّ» كما يقول سعاده، بل بالدّور المناط بكلّ فئة ممارسته. وحرصاً على الإيضاح، ينبغي الإشارة هنا إلى ضرورة التّفريق بين الانتقال نحو الدّيموقراطيّة من حيث هو توليد للظّاهرة، وبين ترسيخ الدّيموقراطيّة democratic consolidation من حيث هو توفير للأفق اللّازم لإعادة إنتاج الظّاهرة لنفسها، وبين تعميق التّجربة الدّيموقراطيّة من حيث هو سعي لتحقيق المبادئ العليا للظّاهرة. حيث تتطلّب المرحلتان الأخيرتان ضرورات عديدة أبرزها توسيع الطّبقة الوسطى، وغيرها ممّا لا فساحة لإدراجه في هذه المقالة.
ختاماً، ينبغي الوقوف عند مسألة محاربة الإسلام السّياسيّ التي كان قد عدّها سعاده خدمة للكيان الصّهيونيّ. لأنّ خطورة هذا الادّعاء تكمن في استبطانه كراهية للديموقراطيّة. تنكشف هذه الكراهية عند فهم دوافع معاداة الإسلام السّياسي، بما هي ليست خصومة مع الإسلام نفسه، بل مع فهمٍ دينيّ ينظّر للدّولة الدينيّة. فيكون بالتّالي مشروعاً مناوِئاً، بالضّرورة، للدّيموقراطية (التي لا يمقتها بالمناسبة إلّا من يفكّر قبل إيمانويل كانط. لأنّ الإقرار بالتّعدّديّة يستلزم إقراراً بمحدوديّة قدرة العقل على المفاضلة بين الرّؤى الجديّة على ما يذهب الفيلسوف الأميركيّ جون رولز. وهذا الإقرار يجد تسويغه الأخير عند كانط). لأنّ كلّ دولة دينيّة هي دولة كلّيّانيّة بالضّرورة (انظر في هذا الصّدد: عادل ضاهر، أوليّة العقل- نقد أطروحات الإسلام السّياسيّ). بالإضافة إلى أنّ تصوير الديموقراطيّة كمشروع مناقض للمصالح والمشاعر الوطنيّة التي تهدف إلى تقويض الاستعمار ومقاومة الكيان الصّهيونّي، يُعدّ خبطاً معرفياً لا ينبغي الوقوف عنده. أمّا في ما يتعلّق بالتّفاوض مع الخارج، فإنّ تلاقي المصالح لا ينطوي على إشكال بذاته، ما لم يقدّم الأدوار السّياسيّة والاستراتيجيّة للوطن، كرهينة في يد الخارج كما يفعل سياسيّو اليوم.
* كاتب لبناني