ينظر البعض إلى التقليص المتمادي لمادة الفلسفة في المنهاج التعليمي على أنّه استجابة لمحاولات وزارة التربية إيجاد حلول عملية للعثرات التي تعترض إتمام العام الدراسي واجتياز الامتحانات الرسمية. الاجتزاء من المادة طال مواد دراسية أخرى، وهو ليس تربوياً البتة، ويعكس تأزّم قطاع التربية وفشل القيّمين عليه في اجتراح حلول يحيّد فيه التعليم عن السقوط الشامل والبنيوي، الذي لا قيامة منه إلا بالنهوض بهذا القطاع. وهذا ما يتنافى مع سلوك النظام السياسي الحاكم الذي ينقضّ على ما تبقّى من النظام التعليمي، وخصوصاً القطاع الرسمي. الإجراء المُتّخذ منذ العام الماضي، بقصد تخفيف محتويات المنهج الدراسي نتيجة تعطيل متكرر لأيام التدريس، ذهب إلى جعل مادة «الفلسفة العامة» في صفّي علوم الحياة والعلوم العامّة اختيارية، على أن يكون هذا الطرح مؤقتاً ولسنة واحدة فقط. لكن يبدو أن الإجراء سيُمدّد لهذا العام أيضاً، وسيُعمل به للمرة الثانية، وسيصير عرفاً معتمداً بصورة دائمة.
(ميترا شدفار)

ليس هذا الاستنتاج من باب التكهّن الافتراضي، بل هو مرتكز على تاريخ مديد من كيفية تعاطي النظام الطائفي السياسي مع مادّة الفلسفة التي كان تدريسها إشكالياً منذ الانتداب الفرنسي. واستعادة التاريخ هنا مجدية وملحّة لكشف نيات أيديولوجيا الطوائف المتمفصلة في بنية الكيان اللبناني تجاه الفلسفة ووضعيتها في المنهاج. هذا التعاطي الذي وظّف الفلسفة واستعملها على الدّوام وفق توجّهاته ومحطّاته السياسية التاريخية المتتالية، منذ الميثاق الوطني واتّفاق الطائف، وصولاً إلى راهن النظام الحالي المتأزّم والمهترئ. خلال كل هذه المراحل، عمدت السياسة التربوية، الخفيّة القابعة وراء تحديد وجهة محتويات منهج الفلسفة، إلى التحكّم بها بقصد إعادة إنتاج الأيديولوجية الطائفية وضمانة استمرارها. وجاء هذا على حساب مزايا هويّة الفلسفة وخصوصية موضوعاتها، وطبيعة تفكيرها المتقوّم بالنقد والحرية والاستقلال، وتمرّده على منطق الحدّ من أي سلطة كانت.

تقليص الساعات والمضامين
طال التقليص أبعاداً متعددة في المادة؛ فهو مرّة يظهر من خلال تخفيف عدد الساعات، وتارة يتطاول على المضامين. فإذا قارنّا بين منهاج الفلسفة 1968 وآخر تحديث له في 1997، نلحظ ضمور حضور حصص الفلسفة في المنهاج الأخير. في الأوّل، خُصّص لفرع ما كان يُسمّى «الفلسفة»، أو «الآداب والإنسانيات» حالياً، 17حصّة أسبوعياً، ولفرعَي «العلوم الاختبارية والرياضيات» 4 حصص، اثنتان مخصّصتان للفلسفة واثنتان لمادة «تاريخ العلوم عند العرب». بينما في منهاج 1997، الذي وُضع تلبية لما سُمّي «خطة النهوض التربوي»، والذي لا يزال سارياً حتى اليوم، حضرت الفلسفة بمعدّل 12حصّة توزّعت على صفّي «الإنسانيات» الثاني والثالث الثانوي، و4 حصص لفروع «العلوم» في قسمَيه الثاني والثالث أيضاً، و3 حصص لصف «الاجتماع والاقتصاد».
وما يلفت النظر هو الضآلة التي آلت إليها الفلسفة العربية في المنهاج الأخير، والتي يبدو أنّ التخفيف منها إلى حدّ إلغائها فيه شيء من القصدية والتعمّد. فالفلسفة العربية وُجدت في منهاج 1946 وكانت تُعطى على مدى 7 ساعات أسبوعياً في فرع «الفلسفة»، و3 ساعات أسبوعياً في فرع «الرياضيات». وفي منهاج 1968، تقرّر لها 6 ساعات للأوّل، وساعتان للثاني في مقرّر جديد هو «تاريخ العلوم عند العرب»، أي أن التقليص طال عدد الحصص والمضمون في آن معاً، وأخيراً صار حضورها إلى 4 حصص في الصف الثالث إنسانيات، و3 حصص للصف الثاني تحت مسمّى جديد هو «الفلسفة والحضارات»، بينما في فروع «العلوم والاقتصاد» تخثّرت الفلسفة العربية إلى معالم حضارة مختزلة في صف البكالوريا القسم الأوّل، وغابت أو غُيّبت تماماً في الصفوف العلمية النهائية.
وفي هذه الحال، لا يتيسّر لطالب «العلوم» و«الاقتصاد» الاطّلاع على الفلسفة العربية إلا ضمن حدود ضيّقة جداً، فلا يتسنّى له التعرّف إلى الأعلام العرب الفلاسفة، وإلى كيفية مقاربتهم للموضوعات الفلسفية. وحتّى الفلسفة العربية في صفّ «الإنسانيات» يقف بها الزمن عند العصر العبّاسي، مع تخصيص محور للفلسفة الحديثة إبّان عصر النهضة، وكأنّ الفكر العربي لم يدلِ بدلوه في موضوعات معاصرة، وكأنّه لم ينتج مفكّرين معاصرين مواكبين لإشكاليات مجتمعاتهم ومتفاعلين مع انشغالات الفلسفة الكونية المعاصرة! تجدر الإشارة إلى أنّ أعداد المنتسبين من الطلاب إلى صف «الإنسانيات»، في قسمه الثاني، يتناقص، وهو الصف الوحيد الذي تُدرّس فيه الفلسفة العربية الكلاسيكية بأعلامها وموضوعاتها.
«الفلسفة والحضارات»، وهو الاسم الذي انتهت إليه الفلسفة في صفوف البكالوريا بقسمها الأوّل، هي استمرار لما كان يُسمّى في منهاج 1968 «تاريخ العلوم عند العرب». وتاريخ الفكر على أهمّيته لا يمكنه أن يوازي الفكر الفلسفي نفسه، من حيث طبيعته، فالأوّل تاريخي، سردي، تقريري، لا ترقى وظيفته إلى ما هو أكثر من التبليغ وإطلاع الطالب على مرحلة حضارية في حقبة تاريخية ما، في حين أن الفكر الفلسفي إشكالي يتضمّن ملامح ومعاني، ويحوز مفاهيم إنسانية ذات طابع نقدي، فيحرّض على إعمال العقل وإشغاله بقضايا قادرة على أن تبرح لحظة ولادتها لتحلّق خارجها، فتمتلك قدرة على أن تكون راهنة لكل زمان ومكان.
إذا قارنّا بين منهاج 1968 وآخر تحديث في 1997، نلحظ ضمور حضور حصص الفلسفة في الأخير. تقاسمت القوى الأيديولوجية منهاج المادة وضبطت مضامينها وفق إيقاع توازناتها


إنّ ميدان تدريس الحضارة هو غيره المخصّص للفلسفة وإن تقاطعا. وما مزاحمة الحضارات للفلسفة في منهاج معدّ أصلاً لتدريس الفلسفة سوى تقليص وتهميش لدور الأخيرة. وهذا ما عبّر عنه ناصيف نصّار في كتابه «التربية والسياسة»، مبدياً رأيه في وضعية تدريس الفلسفة وفق اقتراح «الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان»، وبحسب توجهّات «خطة النهوض التربوي»، قائلاً: «إنّها، بكل بساطة، تقترح إلغاءها من بين المواد التعليمية الرئيسة في التعليم الثانوي، والاحتفاظ بقسم ضئيل منها، في إطار مادة جديدة يُطلق عليها اسم حضارات... هذا الاتجاه الذي سارت فيه "الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان" في شأن استخدام تعليم الفلسفة... سلبي تقليصي وتهميشي». وهذا ما حدا بنصّار حينها إلى توجيه رسالة مفتوحة إلى وزير التربية، نُشرت في جريدة النهار بتاريخ 28/2/1996 تحت عنوان «تهميش تدريس الفلسفة خطأ جسيم». وفي الوجهة نفسها، كتب أدونيس العكرة، أيضاً في «النهار»، مقالاً يُختصر بعنوانه «من أسقط الفلسفة أسقط العقل»، وذلك في 24/2/1996.
وصولاً إلى التقليص أو القص (لن يكون الأخير) الذي تعرّضت له مادة الفلسفة عام 2016 في عهد وزير التربية السابق إلياس بوصعب. فأُلغيت دروس في المحاور، وحُذفت نظريات من ضمن الدروس بهدف الترشيق والتخفيف من ثقل المادة على الطلاب! فألغي مثلاً درسا الذاكرة والذكاء من محور الإنسان، مع بتر النظريات من الدروس المتبقية من دون أيّ مسوّغات معرفية، وخُصّص درس العلوم الاجتماعية لطلاب «الاجتماع والاقتصاد» حصراً دون صفوف «العلوم»، في حين اقتصر درس المعرفة في الرياضيات على فروع «العلوم» وحُجب عن صف «الاجتماع والاقتصاد»! وصولاً إلى تعليق العمل بمزيد من الدروس في السنة الماضية، ليبلغ مسخ المُقرّر مداه في اجتهاد ينمّ عن جهل بطبيعة كلّ من الفلسفة والعلم على حدّ سواء، و هو تخيير الطالب في فرعَي «العلوم» بين الفلسفة وموادّ دراسية أخرى ليُمتحن فيها في الامتحانات الرسمية.
هكذا يستمرّ العبث بتعليم الفلسفة، بعدما تعرّضت للانحسار التدريجي وخصوصاً في فروع «العلوم»، إذ أُلغيت منها سابقاً الفلسفة العربية، وما تبقّى من الفلسفة العامّة سيكون عرضة للمصير نفسه. إنّ هذه القطيعة بين العلوم والفلسفة التي يكرّسها جاهلو إبعاد تعليم الفلسفة عن صفوف الأقسام العلمية، ترسّخ لدى الطالب فهم وجود قطيعة بين المجالين العلمي والفلسفي. وهذا ينمّ عن عدم إلمام ومتابعة للحوار الدائم والمفتوح بين العلوم والفلسفة، وعن حضور هذه الأخيرة في كل التخصصات العلمية في جامعات الغرب، وعن تداخل الاختصاصات البينية في الميادين المعرفية على أنواعها.

غلبة الأيديولوجيا على الفلسفة
هل ما تتعرّض له الفلسفة في تاريخ تدريسها، من تقليم واجتزاء وتقطيع أوصال وتخفيف في مضامينها وتسطيح لها، وصولاً إلى الإلغاء الخبيث الذي يُوحي بأنه اختيار الطالب، ومروراً بإقصاء الفلسفة العربية وحدّها في فرع وحيد، هو فعلاً إجراء نتج من أسباب ظرفية واضطرارية؟ وهل كان محتوى المادة في المناهج اللبنانية مثالياً من ناحية التزامه بمعايير الفلسفة ومتطلّبات تفكيرها؟
في الواقع، كانت الغلبة دائماً في ثنايا منهاج تدريس الفلسفة للأيديولوجيا التي يفرضها النظام الطائفي اللبناني. هذا النظام هو الحقل الملك الذي يسود كل الحقول الاجتماعية الأخرى ويجعلها تابعة له وملحقة به، إذا نحن اتّبعنا مقاربة بيير بورديو في نظريته عن الحقول. ففي هذا الحقل يتشابك السياسي ــــ الطائفي ــــ السلطوي، حيث تتمفصل هذه المستويات الثلاثة باستحكام ويُتبع بها حقل التربية وتستأثر بمفاصله، فتنسلّ أيديولوجيتها في كل جوانب نظامه التعليمي، وخصوصاً في المنهج، ولا سيما في مواد العلوم الإنسانية. وإن كانت تأثيرات الأيديولوجية الطائفية جليّة الوضوح في منهاج تعليم الفلسفة، وخصوصاً في الثنائيات التي تجاذبتها بين اللغة والمادّة ــــــ إذ كانت الفلسفة العامّة قبل منهاج 1997 تُعلّم باللغة الأجنبية، فيما الفلسفة العربية بطبيعة الحال تُدرّس بلغتها ــــــ فهذه الثنائية «هي السمة البنيوية الأساسية التي تدلّ على مدى ارتباط منهج تعليم الفلسفة في المرحلة الثانوية في لبنان بالصراع الأيديولوجي»، بحسب نصّار.
هدف مقرّرو السياسات التربوية، حماة النظام الطائفي، أو من يسمّيهم بورديو «الفاعلين والمعدّين إلى تأمين آلية الترسيخ ومعاودة الإنتاج»، بتوجيه مضامين منهج مادة الفلسفة، لتكون توفيقية بين التيارات الطائفية السياسية الأبرز في لبنان بحسب ما اقتضى الميثاق الوطني. فأعلن كلّ منها وجهته الثقافية المغايرة للأخرى، فانفتح أحدها على الغرب وتبنّى ثقافته ولغته، بينما التيار الثاني بقي مشدوداً إلى بعده العربي ثقافة ولغة وانتماء، فجاء المنهاج ليحقق التوازن بينهما وليعكس التعايش بصيغته اللبنانية، فأُقصي الوعي الفلسفي وفقد تعليم الفلسفة وظيفته الأساسية. إذاً، تقاسمت القوى الأيديولوجية نفسها منهاج مادة الفلسفة ووضعت يدها عليها وضبطت مضامينها وفق إيقاع توازناتها، فعيّنت الموضوعات وانتقت المذاهب، فسكتت عمّا لا يناسبها وطمسته وحيّدته وقلّصته أو طردته، وأبقت على ما لا يمسّ جوهر معتقداتها أو يعوق ضمانة إعادة استيلاد نفسها.
والسؤال: ماذا يبغي النظام الأيديولوجي الطائفي اليوم من التهشيم الذي يلحقه بتعليم الفلسفة في لبنان؟ ولماذا لا يُبقي عليها كما هندسها وشكّلها، طالما أنها لا تُلحق ضرراً ببنيته الراسخة ولا تهدّد وجوده المتين والمكين؟
النظام في لحظته الراهنة أبعد ما يكون عن الرسوخ والمتانة، وهو يستشعر زعزعة لوضعيته واهتزازاً لركائزه لم يشهدهما من قبل. ومن الطبيعي أن يسعى إلى تحصين نفسه من داخل حقوله الاجتماعية ذاتها التي لمّا يزل يُطبق عليها بإحكام، ومنها حقل التربية والتعليم. ولكن استراتيجيته في هذه المرحلة لإعادة إنتاج نفسه لا تكون بتوليد الصيغ التقليدية، مثل التعايش والتوافق والتحاصص والاقتسام والتوزيع التي آلت كلّها إلى الخواء والإفلاس ففقدت صلاحيتها وجدواها وفعاليتها، بل هو يلجأ إلى إغراق المجتمع بالعجز والجهل والتضليل، ويضرب بيده السوداء ليهدم ما تبقّى من مؤسسات عاث فيها خراباً وإفساداً، وهذا ما يفعله حيال التعليم الرسمي المدرسي والجامعي.
هذا الحقد الظلامي يخنق كل ما يمكن أن يكون مبعثاً للتفكير الحر والنقدي والمواجه والمحاجج والمعترض بعقلانية، لذا فهو سيقضي على ما تبقّى من فلسفة في الثانويات، وربّما لاحقاً في الجامعات. سيقتات هذا النظام على الظلامية والسّواد وعدوّهما المعرفة والعقل والوعي، فيلهث لمنعها عن جيل الشباب لأنها الفئة الوحيدة القادرة على اجتثاثه بعد ما أبدته من حركة اعتراض واعدة ومبشّرة. لذا فإنّ شياطين هذا النظام سيسدّون أمام الجيل الشاب منافذ النّور في مدارسه وجامعاته ومستقبله وفرصة عمله، فلا عجب أن يندسّوا في مناهج تدريسه ليعطّلوا كل ممكنات امتلاك الوعي والنقد.

لماذ يجب أن ندافع عن وجود الفلسفة في مناهجنا؟
إن اعتراضنا على ما يتعرّض له تدريس الفلسفة يجب ألا ينشط فقط عند استشعار نقصان ساعات التعليم، فيما نسكت ونوافق على تقليص المضامين ومسخها وتسطيحها. فالتقليص يجرّ التقليص، والدفاع يجب أن يكون انطلاقاً من قناعة صلبة بجدوى الفلسفة وضرورة أن تحتلّ مكانة وازنة في مناهجنا الدراسية، لأنّ التفكير فلسفياً هو ما سيعصم الشباب اللبناني أثناء سيره في طريق التغيير القادم حتماً من الانزلاق نحو الغوغائية والشعبوية، بما هو تفكير نقدي وازن وفاحص ومعاين، يسأل ويشكّك ولا يتلقّف. والفلسفة هي التي ستتيح، للشباب المنادي بالديموقراطية والحرية والعلمانية كبدائل، أن يمتلك معرفة عميقة بمدلولاتها ومحمولاتها، فيدرك عن حق كم هي ضرورية، فلا يردّدها كشعارات فحسب، كون الفلسفة هي مجال صناعة المفاهيم.
والفلسفة، أخيراً، هي التي ستعصم الشباب عند عدم وجود البدائل الجديرة بأحلامهم من أن ينكفئوا إلى خنادق النظام الطائفي الذي يستميت لبثّ التجهيل والحمق والتزييف والضلال ليبقي ممسكاً بزمام مصير النّشء الجديد وقوداً في عجلة آلته التي تطحن كل شيء وتسحقه. لذا يجب أن نكون مدافعين أكفياء وشجعان وجذريين حين نطالب بعودة رونق الفلسفة إلى مناهجنا.

* أستاذة فلسفة في التعليم الثانوي