في ظلّ الأزمة المتدحرجة منذ قبيل احتجاجات 17 تشرين 2019، ظهرت شريحة الشباب اللبناني في مركز الحدث. فهؤلاء هم الأكثر تضرّراً من الانهيار الحاصل، سواء من ناحية قدرتهم على استكمال الدّراسة أو إيجاد فرص العمل أو الانطلاق في الحياة. وهم أيضاً كانوا زخم الحركة الاحتجاجية ويدور الصراع حول إقناعهم واجتذابهم من كلّ القوى الفاعلة. كما أن أهمية هذه الشريحة تكمن في أنّ وعيها تشكّل بعد الحرب الأهلية وكانت قادرة على معايشة مرحلة ما بعد عام 2005 وإدراكها بكل تعقيداتها. وهذه الشريحة، نظراً إلى دراستها الجامعية وفعّاليتها السياسية، تسهم في تشكيل جزء من الرأي العام الشبابي وينحدر منها قادة رأي قادرون على الوصول إلى الجمهور برسائل محدّدة. وفي الانتخابات النيابية المقبلة من المتوقّع أن تكون هذه الفئة حاضرة بقوة على صعيد التعبئة والتحشيد والإقناع وتؤثر في السلوك الانتخابي بدرجة ما.انطلاقاً مما تقدّم، أنجزتُ دراسة ــــ أصدرها «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» ــــ حول كيف يؤثّر الانتماء السياسي والطائفي على تصوّرات الشباب من خرّيجي الجامعات المنضوين في أحزاب مشاركة في السلطة والمعارضة ومجموعات الحراك تجاه أزمة ما بعد احتجاجات 17 تشرين؟ تبنّت الدراسة منهجاً نوعياً من خلال المقابلات شبه المنظّمة التي شملت 64 خرّيجاً جامعياً من عمر 24 سنة إلى 30 سنة (جيل ما بعد الحرب الأهلية) منتمين إلى أحزاب مشاركة في السلطة وفق معيار المشاركة في البرلمان الحالي باستثناء التنظيم الشعبي الناصري (35 شخصاً من 15 حزباً) والمعارضة والحراك (29 شخصاً من 8 أحزاب و 18 مجموعة).
جرت المقابلات عبر فريق من المساعدين في الفترة بين تموز 2020 وتشرين الثاني 2020 وشملت 16 سؤالاً. بعدها جرى عرض الإجابات وترميزها وفرزها ثم تحليلها بشكل مُقارن داخل كل فئة، وكذلك بين الفئتين بلحاظ الانتماء السياسي والطائفي. نستكشف في هذا المقال تصوّرات المشاركين لخيارات الاحتجاج ورهانات التغيير. وينبغي التأكيد على أن النتائج التي خلصت إليها الدراسة غير قابلة منهجياً للتعميم خارج دائرة المشاركين فيها، ولكن يمكن الانطلاق منها لتحصيل فهم معمّق لتصوّرات جيل ما بعد الحرب الأهلية.

أولاً: جغرافيا التظاهر
1- كان للانتماء السياسي والطائفي لدى المشاركين من الفئتين تأثير واضح في اختيار أماكن الاحتجاج وأهدافه. بالمجمل كانت آراء شباب الأحزاب أكثر اتساقاً والعامل السياسي له تأثير مباشر في تحديد مكان التظاهر، فيما كانت إجابات شباب الحراك مبعثرة ومشتّتة وهو ما يعكس غياب توافقات واسعة بينهم. وبينما يبرز مستوى من التباين يمين/يسار لدى شباب المعارضة والحراك انطلاقاً من موضوع التظاهر، يبدو التباين لدى شريحة شباب الأحزاب وفق ثنائية مع/ضد العهد. وكان المشاركون من حزب الله هم الأكثر تشكيكاً بجدوى الاحتجاج.
2- بين المشاركين من أحزاب في السلطة اختار المعارضون للعهد، من المسيحيين والسنّة، القصر الجمهوري هدفاً للتظاهر، فيما اختار المنتمون لأحزاب صغيرة تمثيلياً مجلس النواب. وركّز المشاركون مما كان يُسمّى قوى 14 آذار على ساحة الشهداء في استرجاع للحظة 2005. أمّا المشاركون من التيّار الوطني الحر ففضّلوا التظاهر أمام المؤسسات القضائية ربطاً بالطرح السياسي للتيّار والإمساك مجدداً بشعار الإصلاح. أمّا بين المشاركين من الحراك والمعارضة، فاختار اليساريون التظاهر أمام مصرف لبنان والمصارف، واختار اثنان من السنّة التظاهر أمام قصر بعبدا، أمّا المنتمون لمجموعات ليبرالية فاختاروا مؤسسات ذات رمزية حقوقية مرتبطة بالقضاء ووزارة الداخلية ومرفأ بيروت والمجالس الدينية.
3- فيما بدا اهتمام شباب الأحزاب بالتظاهر أمام مراكز للخدمات العامة، مثل شركة الكهرباء، كان الأمر غائباً تماماً لدى الشريحة المقابلة التي فضّلت التركيز على المسائل السياسية والحقوقية. وهذا الأمر يجد تفسيره في أن مصالح الفئة الأولى في إزاحة جزء من عبء النقاش العام نحو مسائل تقنية وإدارية على عكس المجموعة الثانية التي تريد إبراز عمق التناقض الثقافي والطبقي مع «قوى السلطة».
4- تشاركت الفئتان في التركيز على الاحتجاج أمام مجلس النواب، إمّا نظراً لطبيعة النظام البرلماني وإمّا لكونه يضمّ القوى السياسية كافة. وفيما كان التمايز بين الفئتين حول التظاهر في العاصمة أو النطاق المحلي، اختارت غالبية من المشاركين من الأحزاب المشاركة في السلطة بيروت للتظاهر، إمّا ربطاً بالحنين لتظاهرات العام 2005، وإمّا لرمزية المكان وقدرته على التأثير في السياسيين. بالمقابل، اختار أغلب المشاركون من الحراك والمعارضة التظاهر على نطاق محلّي (مثل طرابلس وبعلبك والنبطية)، على شاكلة ما حصل في الفترة الأولى من احتجاجات 17 تشرين، بهدف تعبئة المواطنين في الأطراف وجذبهم للاحتجاج وصُنع الوعي لديهم ولتقليل التهميش المفروض عليهم وتوزيع الضغط على قوى السلطة واكتساب «زخم وطني».
5- برز لدى المشاركين من الحراك والمعارضة عاملان إضافيان لتحديد مكان التظاهر لم يردا لدى الفئة الأخرى وهما: المخاوف الأمنية وإثبات وجود بديل. فمن هؤلاء مَن أيّد التظاهر المناطقي أو في نقاط محايدة أو أماكن لها رمزية وآمنة في الوقت عينه أو تجنّب مناطق محدّدة، أو عدم استهداف بيوت القيادات السياسية بهدف عدم التعرّض للأذى سواء من القوى الأمنية أو من المؤيّدين للطرف المقابل. والعامل الثاني هو التظاهر بالشكل والمكان المناسبين لإبراز وجود بديل جدّي ومنظّم بما يدفع الناس إلى الثقة بإمكان الخروج على الوضع القائم ولا سيّما خلال الانتخابات المقبلة.
6- الملاحظة الأخيرة أنه رغم ما تمّ توجيهه من لوم للخارج في الأزمة الحاصلة لدى المشاركين من الأحزاب فقد خلت إجاباتهم من خيارات الاحتجاج أمام السفارات أو مراكز النفوذ الخارجي في لبنان، وشذّ عن ذلك مشارك من حزب الله اختار التظاهر أمام السفارة الأميركية لدور واشنطن في «الحصار الخارجي والتدخّل في الشؤون الداخلية وفرض الأجندات».

ثانياً: وسائل الاحتجاج
1- طبيعة هذا السؤال تفسّر ظهور مستوى من التمايز في الشريحتين، فمسألة الاحتجاج ليست هامشية بين من هم داخل السلطة وخارجها. يميل المشاركون من الأحزاب للتشكيك في جدوى الاحتجاج وتبرير الوضع القائم في مقابل نزعة تغييرية لدى الشريحة المقابلة. وكذلك يظهر التباين في تقييم وسائل الاحتجاج واختيارها. برز الإرباك في إجابات المشاركين من الأحزاب من خلال طول الإجابات والاسترسال في تعداد شكوكهم تجاه ممارسة الاحتجاج في حين كانت إجابات الشريحة الثانية مباشرة ومتماسكة أكثر.
2- كانت خيارات الاحتجاجات لشباب أحزاب مشاركة في السلطة أقلّ «ثورية» من الفئة الثانية مثل الرهان على إجراءات قانونية أو مقاطعة الانتخابات أو مقاطعة التجار المحتكرين. لكنّ خطاب شباب الأحزاب يبقى أكثر طموحاً للتغيير من أحزابهم حيث كان خطاب الدفاع عن ضرورات الوضع القائم محدوداً لدى هذه الشريحة.
3- داخل فئة المشاركين من الأحزاب، يميل الشباب من «قوى 14 آذار» إلى الاحتجاجات الشعبية، فيما يتبنّى معظم المشاركين من حزب الله وحركة أمل خيارات احتجاج غير صدامية مثل الانتخابات ومقاطعة البضائع، بينما برز انسجام كامل لدى المشاركين من التيّار الوطني الحر بحصر الاحتجاج ضمن أُطر قانونية وقضائية. وقد تفرّد مشاركان من القوّات والكتائب بطرح الحاجة إلى تدخّل خارجي لإحداث التغيير الداخلي لأن الاحتجاج الداخلي لا أفق له. أمّا داخل فئة المعارضة والحراك فكان المنتمون لمجموعات يسارية أكثر تأييداً للخيارات الميدانية ولا سيّما الاعتصامات الموجّهة نحو شخصيات وأماكن حسّاسة.
طوّرت الأحزاب المشاركة في السلطة سرديّات تدفع عنها مسؤولية فشل النظام السياسي


4- اتفقت الفئتان على اختيار الاحتجاج من خلال التحرّكات الميدانية ولكنها تمايزت في أمرين: ركّزت فئة الأحزاب على التظاهرات الشعبية مع التركيز على سلميّتها فيما ركّزت فئة المعارضة والحراك على الاعتصامات الموجّهة التي تستهدف مرافق حيوية أو منازل السياسيين. لكن الفارق الأبرز كان حول مسألة قطع الطُرق حيث غابت بالكامل لدى المشاركين من الأحزاب وتعرّضوا لها بالنقد لما تتركه من تداعيات سلبية على عامّة المواطنين، في حين اختارها بعض المشاركين من الشريحة الثانية لنجاحها في استفزاز قوى السلطة.
5- يظهر وجود موقف تشكيكي في جدوى التظاهرات الشعبية لدى بعض المشاركين من الحراك والمعارضة وذلك ربطاً بتجربة 17 تشرين، ويرون أن السلطة تكيّفت مع هذا الخيار، ولذلك كان ميلهم نحو الاعتصامات الموجّهة والعصيان وقطع الطرق التي كانت أشد تأثيراً وفيها هامش كبير من المناورة والمفاجأة للناشطين في الميدان.
6- كان الاهتمام بخيار العصيان متقارباً بين الفئتين وهو ما يعكس موقفاً متقدماً من الإحباط من مؤسسات الدولة عدا عن كونها وسيلة آمنة.
7- هناك تشكيك كبير بإمكانية إحداث تغيير من خلال الانتخابات، وبخاصة لدى شريحة الحراك والمعارضة، ولذا كان شبه غائب عن طروحاتهم. بينما تصر مجموعة صغيرة من المشاركين من أحزاب السلطة على أن الاحتجاج ينبغي أن يكون من ضمن المؤسسات القائمة وتحت سقف الترتيبات الحالية ولذا لا خيار إلا الانتخابات.
8- أبدى عدد من المشاركين من المعارضة والحراك اهتماماً بدور الإعلام في فتح ملفّات الفساد لما لذلك من أثر على المشروعية الشعبية للقوى السياسية المتورّطة. ووافقهم في ذلك عدد قليل من شباب الأحزاب، وهو ما يشير لنجاح الإعلام، ولا سيّما التحقيقات الصحافية والاستقصائية، في إثارة الرأي العام وإحراج المتورّطين.
9- هناك اهتمام لدى بعض المشاركين من الحراك والمعارضة في تأكيد أن يعكس الاحتجاج وجود بديل قادر على إدارة المرحلة الحالية. ولذلك شدّد عدد منهم على ضرورة توظيف الأنشطة الاحتجاجية لإقناع الجمهور من خلال التثقيف وحلقات الحوار والخطاب والتنظيم بأن هناك بديلاً للقوى الموجودة ويمكنه أن يتولّى الإدارة بطريقة مختلفة.

ثالثاً: 17 تشرين... حلم التغيير أم كابوسه؟
عدنا مع المشاركين بالذاكرة إلى ليلة 17 تشرين الأول 2019 والأيام الأولى للاحتجاجات سائلين عن مشاعرهم وآمالهم بالتغيير خلال تلك اللحظات الأولى. يفيد هذا الاستذكار في اكتشاف الحد الأقصى من رهانات التغيير وكيف سلكت مسار التراجع وإعادة التقييم.
1- تلقّى المشاركون من الفئتين اندلاع الاحتجاجات بمشاعر إيجابية وحماسية متأثرين بمشهد الحشود وامتدادها على المحافظات كافة. لكن بعض المشاركين من الأحزاب مزجوا مشاعرهم بشيء من الحذر. والأكثر حذراً في الأيام الأولى كانت الأحزاب الممثلة في مواقع السلطة الأولى (ولا سيّما الأحزاب - التيّار الوطني الحر وحركة أمل وتيّار المستقبل). أمّا المشاركون من المعارضة والحراك، فكانوا بالمجمل تحت وقع الدهشة إذ ظهر «الشعب» الذي لطالما كان موضع تشكيك لصالح فكرة أن اللبنانيين مجرّد رعايا طوائف، لكن ذلك لم يمنع وجود قلّة من المشاركين بقيت متشككة في الساعات الأولى خوفاً من أن يكون الأمر مجرّد هبّة عابرة.
لكنّ مسار الاحتجاجات لاحقاً أدّى إلى ردّ فعل عكسي لدى معظم المشاركين من الأحزاب حيث ترسّخت لديهم فكرة هشاشة الهوية الوطنية وأن الانتماء الطائفي لا يزال عميقاً لدى معظم اللبنانيين وهو ما أدّى إلى تشرذم حركة الاحتجاج واستخدام المشاعر الطائفية إمّا لإخماد الاحتجاج وإمّا لتوظيفه ضد الخصوم.
2- إن كان يمكن فهم الحماسة لدى شباب قوى المعارضة والتغيير لاندلاع الاحتجاجات، فماذا عن شباب أحزاب السلطة؟ طوّرت الأحزاب المشاركة في السلطة سرديّات تدفع عنها مسؤولية فشل النظام السياسي وكذلك تصوغ الأزمة بشكل تضع نفسها فيه في موقع طرفي. فظهرت سرديّات متنافسة بعدّة أشكال تلقي بعبء المسؤولية على جهة ما، قوى الطائف والحريرية/العهد، قوى 14 آذار/8 آذار، الهيمنة الأميركية/سطوة حزب الله، المنظومة/الأكثرية النيابية. كما أن تعدّد خطوط الانقسامات داخل الأحزاب المشاركة في السلطة جعل مؤيّدي كل حزب يطمحون إلى أن تنال الاحتجاجات من خصومهم ومنافسيهم.
في الأيام الأولى بدا المشاركون من حركة أمل وتيّار المستقبل الأكثر حذراً، فيما اندفع سريعاً مشاركون من الحزب التقدمي الاشتراكي والقوّات اللبنانية للمشاركة باعتبارهم ليسوا من الأكثرية النيابية، ثم تشجع مشاركون من المستقبل للمشاركة في الاحتجاجات بعد موقف السيد نصر الله بشأن انسحاب جمهور المقاومة من الساحات. بينما كان تقدير المشاركين من حزب الله أن حزبهم خارج المنظومة التقليدية ولذا قاربوا بداية الاحتجاجات بإيجابية وبخاصة مع الخطاب المرتفع للحزب منذ 2018 حول الإصلاح ومواجهة الفساد.
إن استهداف الحراك في ساعاته الأولى كان موجّهاً نحو الرئاسات الثلاث بشكل أساسي ويصوّب على «المنظومة» السياسية والمالية، وهذا ما كان محدّداً أساسياً في طبيعة استجابة القواعد الشعبية للحراك. وهذا ما جعل مثلاً القاعدة الاجتماعية المؤيّدة لحزب الله تسارع للمشاركة في الاحتجاجات في الأيام الأولى كونها تجد أن الحزب خارج المنظومة، لا سيّما أن خطاب الإصلاح ومكافحة الفساد الذي طرحه الحزب عام 2018 كان لا يزال حاضراً في وجدان مؤيّديه.
3- تشاركت مجموعة صغيرة من الفئتين مشاعر القلق والتوجّس منذ الليلة الأولى للاحتجاجات. المتخوّفون من فئة الأحزاب، وكانوا من المسلمين، انطلقوا من تجربة المحيط العربي بعد 2011 في مصر وسوريا والعراق وليبيا، ولذا كان هاجسهم أن تكون احتجاجات 17 تشرين مقدّمة لفوضى واسعة. في المقابل، كان المشكّكون من فئة المعارضة والحراك متأثرين بتجارب الاحتجاجات السابقة في لبنان التي كانت مجرّد هبّات عابرة وسرعان ما تسيطر عليها الانقسامات.
4- يتشارك الشباب من أحزاب السلطة في تقييم سلبي لمآلات الاحتجاجات حتى من أولئك الذين شاركوا فيها بداية، ويرى هؤلاء جميعاً أن المطالب الشعبية المشروعة تعرّضت للاستغلال والاستثمار ضد أحزابهم، وهو ما ترافق مع تشرذم الحركة الاحتجاجية. فالمشاركون من أحزاب حليفة لحزب الله يركّزون على دخول مجموعات على خط الاحتجاجات لاستهداف سلاح المقاومة، فيما يتهم مشاركون من تيّار المستقبل قوى يسارية باستغلال الاحتجاجات لإخراج الحريري من رئاسة الحكومة، بينما ندد آخرون بأعمال التخريب. ويظهر أن تأليف حكومة جديدة برئاسة حسان دياب كان محبطاً للمشاركين من القوّات والمستقبل.
5- يتشارك عدد من الشباب المسلمين المشاركين من الأحزاب الموجودة في السلطة الإشارة إلى دور للخارج في إثارة الاحتجاجات أو توجيهها وهو أمر يغيب لدى المشاركين المسيحيين. يؤكد هؤلاء المشاركون أن التغيير في لبنان، وبالشواهد التاريخية، لا يحصل إلا بإرادات خارجية بالنظر إلى كون اللبنانيين منقسمين طائفياً وسياسياً.

يميل المشاركون لاعتبار أن أحداث 17 تشرين ستترك أثراً إيجابياً بحدود ما على اتجاهات التصويت


6- سيطرت على تعبيرات المشاركين من الحراك والمعارضة في وصف الأيام الأولى من 17 تشرين عبارات تفيد بأنهم شعروا ببدء زمن جديد وإحساس عميق بأن شيئاً ما انتهى وآخر بدأ يولد، ورغم أنه كان منتظراً لم يكن متوقعاً بهذا الوقت. وقد بدت «المنظومة» مترنّحة والناس تأخذ خيارات جديدة. وكان المشاركون من طرابلس الأكثر اندهاشاً بالحدث حيث وصفوا مدينتهم بأنها انقلبت من حال إلى حال خلال ساعات.
على عكس المشاركين من الأحزاب التي في السلطة، لم يؤد خفوت الاحتجاجات إلى ظهور تقييمات من المشاركين من المعارضة والحراك توحي بأن اللبنانيين محكومون بهوياتهم الطائفية والحزبية، بل وجد أغلبهم في ما حصل دليلاً على أن الناس يراكمون الوعي بشكل متدرّج وأن المسؤولية هي على المجموعات المعارضة لتنفيذ برامج تخدم هذا الهدف (محاضرات، ورش، أنشطة في الأماكن العامة،... إلخ) وأن تحسّن تنظيم بنيتها. وهذا التباين طبيعي بين من هم متموضعون في الوضع القائم وأولئك الراغبين بالتغيير.
7- ركّز المشاركون من أحزاب منخرطة في السلطة على الاستدلال بإخفاق الاحتجاجات لتأكيد نظرتهم لصعوبة التغيير من خلال الشارع وعلى أن التغيير الممكن هو من داخل المؤسسات القائمة فقط. في المقابل، ذهب المشاركون من الحراك والمعارضة إلى التركيز على الدروس التي استخلصوها لاستكمال المسار التغييري وهي التأكيد على أن التغيير هو مسار تدريجي تراكمي وأن عماده بناء الوعي لدى شرائح إضافية من الناس لتنخرط في مواجهة الوضع القائم ثم ضرورة التنظيم السياسي لحركة الاحتجاج.

رابعاً: رهانات 2020 - 2022
هنا كان مطلوباً من المشاركين التعبير عمّا يتأمّلون في أن يتحقق بين 2020 (تاريخ إجراء المقابلات) و2022 التاريخ المفترض لإجراء الانتخابات النيابية ويمكن أن يؤدي إلى تغيير الأمور نحو الأفضل.
1- تباعدت الفئتان إلى الحدود القصوى في التعبير عن رهاناتها في ما يخصّ الفترة من 2020 إلى 2022 الموعد المفترض لإجراء الانتخابات النيابية. ففيما ركّز المشاركون من أحزاب في السلطة على تحوّلات مرتبطة بالقوى الخارجية وعلاقاتها، كان تركيز المشاركين من المعارضة والحراك على كيفية إيجاد بديل وإقناع الناس به وتمكينه من الوصول إلى السلطة. لكن يمكن القول بوجّه عام إن الفئتين عبّرتا عن آمال متواضعة بحصول تغيير كبير خلال هذه الفترة إما لأسباب مرتبطة بمصالح الخارج وإمّا بسبب البطء في المسار التغييري الناتج من قدرة قوى السلطة على الصمود نسبياً فيما تحتاج مجموعات المعارضة والحراك إلى مزيد من الوقت لفرض خياراتها.
2- ركّز المشاركون من أحزاب في السلطة بشكل كبير على ربط رهاناتهم حول تحسّن الأمور بعوامل متعارضة مرتبطة بالخارج من قبيل: إعادة الإعمار في سوريا أو الاتجاه شرقاً أو تسويات إقليمية أو اندلاع مواجهة مع العدو الإسرائيلي تجبر الأميركي على وقف ضغوطه خوفاً من انفلات الأمور أو استدراج تدخّل خارجي في لبنان أو عدم تدخّل الخارج أو حصول تغيير في الإدارة الأميركية، أو تقديم حزب الله تنازلات في ما يخص المقاومة لجذب المساعدات الخارجية. تبنّت مجموعة صغيرة (أربعة مشاركين) من الحراك والمعارضة وجهات نظر مماثلة حيث أكّدت على أولوية تأثير العوامل الخارجية على تلك الداخلية.
3- كان الرهان الثاني على حصول تغيير إيجابي لدى المشاركين من أحزاب السلطة (تقريباً ربع المشاركين) هو الانتخابات النيابية عام 2022. ولكن غالبية هؤلاء ركّزت على ضرورة أن تسبق ذلك إصلاحات في قانون الانتخابات. في المقابل، حاز خيار الانتخابات رهاناً أعلى لدى المشاركين من المعارضة والحراك (ثلث المشاركين تقريباً) ولكن ربطاً بارتفاع الوعي لدى الشعب اللبناني ليتحرر من خياراته التقليدية بفعل وقع الأزمة ونشاط المعارضين. بالمجمل يبدو أن الرهان، عام 2020، على تحقيق تغيير من خلال الانتخابات وحدها ضعيف إمّا بسبب دور الخارج وطبيعة النظام وإمّا لعدم تبلور الزخم الشعبي الكافي للبديل السياسي.
4- ظهر أن المشاركين من أحزاب في السلطة يميلون للتشكيك بحدوث تغيير أكثر من المشاركين من المعارضة والحراك. إن ربع المشاركين من الفئة الأولى لم يجدوا ما يمكن الرهان عليه لتتحسّن الأمور أو رفضوا الإجابة أو ربطوا التغيير بأمور وجدوا أنها لن تتحقق الآن. كانت عقبات التغيير إمّا مرتبطة بدور الخارج أو طبيعة النظام السياسي. وكان لافتاً هنا أن المشاركين من التيّار الوطني الحر وحزب الله مثّلوا النسبة الأكبر ضمن هذا الرأي. في المقابل، تبدو مجموعة أقلّ عدداً من المعارضة والحراك يائسة من حصول تغيير بفعل قوة «المنظومة» وما تلقاه من دعم خارجي.
5- عبّر عدد قليل من المشاركين من كلتا الفئتين عن رهانه على أمور جزئية وواقعية مثل تشكيل حكومة اختصاصيين أو محاسبة المسؤولين في الإدارة العامة أو تطوير الزراعة والتنقيب البحري أو إعادة إعمار المرفأ.

خاتمة
في الحديث عن الاحتجاج تغيب لدى كلتا الفئتين أية دعوات للعنف أو أي تعويل عليه، بل إنهم حين يتناولون الحلول يركّزون على إقامة الدولة المدنية والإصلاح الانتخابي وإصلاح القضاء الذي يمثّل هاجساً واضحاً ويجري ربطه بضرورة محاسبة النخبة الحاكمة وكفّ يدها، وكذلك إصلاح القطاعات المالية والاقتصادية.
بخصوص الانتخابات، تبرز نقطة تقاطع كبيرة بين مشاركين من الفئتين حول ضرورة إصلاح النظام الانتخابي، لا سيّما مقترحات مثل النسبية الكاملة ولبنان دائرة واحدة أو دوائر موسّعة وإلغاء القيد الطائفي. في هذا السياق، أشار عدد من المشاركين ينتمون إلى الحزب القومي وحركة أمل وحزب الله إلى أن حلّ الأزمة في لبنان مرتبط بإنتاج قانون انتخاب جديد يعتمد النسبية قادر على تمثيل كل اللبنانيين ويمنح الناس مسؤولية الاختيار وقدرة المحاسبة. بالمقابل، أكد عدد من المشاركين من المعارضة والحراك على إلغاء القيد الطائفي إلى جانب النسبية.
تبنّى معظم المشاركين من المعارضة والحراك مسار الانتخابات، ولكنهم في المجمل كانوا واقعيين في تقدير النتائج على المدى القريب. يميل المشاركون لاعتبار أن أحداث 17 تشرين ستترك أثراً إيجابياً بحدود ما على اتجاهات التصويت مستقبلاً، والعامل الأهمّ هو الأزمة نفسها التي يفترضون أنها ستحفّز الناخبين للبحث عن وجوه وبدائل جديدة. ولذا كان التقدير السائد هو أن التغيير من خلال الانتخابات سيكون تدريجياً. وكرّر أكثر من مشارك أن مجموعات المعارضة استخلصت جملة دروس من الانتخابات الأخيرة حول الخطاب والتحالفات وكيفية تقديم المرشحين للجمهور وتوقيت ذلك.
* أستاذ جامعي