من يستمع إلى المُقابلة التي أجرتها قناة «الجزيرة» مَطلع العام مع إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، وموقف حركته حول «العلاقة مع مصر»، يظُنّ لوهلة أن الحصار انتهى إلى غير رجعة، وأن مصر الرّسمية تقوم بدور ريادي في دعم صمود الشعب الفلسطيني. فالرجل يقول «معبر رفح مفتوح بشكل دائم تقريباً» و«هناك حركة تجاريّة جيدة بين مصر والقطاع» وأنها «رُكن ثابت وأساسي». فمصر، بحسب هنية، تُتابع ملفات تبادُل الأسرى والإعمار والمُصالحة وغيرها.موقف «حماس» لا يختلف عن مواقف سلطة رام الله وبقية الفصائل الفلسطينيّة. هناك «توافق وطني» على الدور المصري. مع إدراكنا بالطبع للمحاذير التي تدفع، قوى المقاومة تحديداً، إلى مواقف مرنة ودبلوماسية تضطرّ إليها أمام واقع صعب يعيشه القطاع المُحاصر، على قاعدة «مجبر أخاك لا بطلا». وهذا كلّه مفهوم. غير أن الحقيقة التي يُدركها الجميع تظل مُغايرة تماماً لما يُقال في وسائل الإعلام، فأكثر من يحلب ويحاصر غزّة هي شركات يملكها جنرالات نظام كامب ديفيد ويديرها محمود السيسي، ابن الفرعون الأوّل. حقيقة يعرفها الناس في مصر وفي قطاع غزّة المحاصر.
وإذا انطلقنا من حسابات فلسطينية بحتة، فإنّنا، نحن الفلسطينيّين، مَعنيّون أكثرَ من غيرنا بوجود نظام مصريّ ثوريّ ديموقراطيّ جديد غير نظام كامب ديفيد. فهذا النظام العسكرتاري يعزل مصر و يُحاصِر غزّة، وينتهك كرامة الناس يومياً على المعبر الوحيد (معبر رفح)، حيث تجرى عملية فرم طبقي لكل فقير وفقيرة يدخلان إلى أرض المحروسة، ويتعيّن عليك دفع «خوّة» تصل إلى 1000 دولار إذا أردت مغادرة غزّة للعلاج أو الدراسة أو أيّ سبب آخر، بل حتى من يذهب لزيارة بيت الله الحرام يكفُر ألف مرّة قبل أن يصل الى مطار القاهرة بسبب ما يُكابده الناس من إهانات وشيطنة واستغلال وقلّة أدب.
من يتغوّل على حقوق الشعب المصري لن يكون رحيماً مع الشعب الفلسطيني. قل لنا موقفك من الحصار المفروض على غزّة، نعرف من أنت وفي أيّ معسكر تقف.

مصر: جمهورية السجون والخوف
منذ الانقلاب العسكريّ في حزيران/ يونيو 2013، تعيش الجماهيرُ المصريّة في أفران العُزلة والخوف والقمع. لقد أسَّسَ الانقلابُ الدمويّ لجمهورية السجون وعزَّز الشراكةَ بين قادةِ الجيش ورأسِ المال، كما لم يحدثْ يوماً في تاريخ هذه البلاد. ولم يكن الانقلابُ على إنجازات ثورة 25 يناير المجيدة لينجح لولا الدعمُ المباشرُ من القوى الكبرى، وعلى رأسها الولاياتُ المتحدة الأميركيّة، وحليفُها الكيانُ الصهيونيّ، ولولا احتضانُ القوى الرجعيّة، وفي مُقدّمها السعوديّة والإمارات والأردن.
اليوم، نحن أمام نظام فاشيّ حاول تسويق نفسه في أيامه الأولى بالتلطّي خلف صورة جمال عبد الناصر، غير أنه يعمل على تزوير الحاضر والتاريخ معاً. فهل يستوي الضبّاطُ الأحرار الذين قاتلوا في الفالوجة وغزّة حتى الرصاصة الأخيرة، وضبّاط كامب ديفيد الذين يحاصرون غزّة ويقدّمون التقارير إلى البنتاغون؟! هل يستوي مَن استعادوا لمصرَ موقعَها الطبيعيَّ الرياديَّ في العالم، مع الذين قزّموها وكرّسوا نظامَ التبعيّة والرضوخ للمستعمر الأجنبيّ والصهاينة ونظامِ آل سعود؟
لقد وَصلَ عددُ المعتقلين القابعين في سجون النظام إلى نحو 60 ألفاً، وفقَ تقديرات مُؤسّسات حقوقيّة مصريّة وعربيّة ودوليّة. إنّ قسماً من خيرة أبناء الشعب المصريّ، من المناضلين والمثقّفين والفنّانين والنقابيّين وقادة الحركات السياسيّة الوطنيّة، يقبع الآن في غياهب السجون والمعتقلات المصرية. العشرات منهم من أبناء قطاع غزّة. عشراتُ التقارير الحقوقيّة الموثوقة تتحدّث عن مئات المختطَفين والرهائن والمفقودين، وعن حالات الاغتصاب والتعذيب والإعدام بالجملة خارج القانون، وعن بلوغ السجون ومراكز الاعتقال 66 سجناً في طول البلاد وعرضها.
مصرُ تحكمها الدبّاباتُ، وأجهزةُ الأمن، والإعلامُ الفاسد. وفي الوقت نفسه تُهدَر ملياراتُ الدولارات على مشاريعَ وهميّةٍ أو فاشلة، وتزداد معدّلاتُ الفقر والفساد، ويجري التخلّي العلنيّ عن السيادة الوطنيّة (كما حدث في صفقة بيع جزيرتَيْ تيران وصنافير المصريّتَين إلى النظام السعوديّ)، ويتحوّل عناصرُ الجيش الفقراء إلى عبيدٍ بالسخرة عند فرعون مصر الجديد.
الواقع الراهن في مصر يستدعي صرخةً مُدَوّية مِن أجل مِصر الشعبية ومن أجل وحدة حركتها الوطنيّة المناضلة ضدّ واقع مُخيف يُنذر بخراب البلاد لعقودٍ قادمة


لقد وصلتْ مصرُ الرسميّة إلى حالة غير مسبوقةٍ من «الفَرْعَنة» والتغوّل في الداخل. أمّا في الخارج، فقد وصلتْ إلى حالة غير مسبوقة أيضاً من التبعيّة السياسيّة والاقتصاديّة شبه الكاملة لقوى الاستعمار والصهيونيّة والرجعيّة، ومن فقدان كلّ معاني الاستقلال والكرامة. أوَلَمْ يقل لنا الشهيد جمال حمدان، صاحبُ «شخصيّة مصر»، إنّ منْ يَحكم هذا البلد من الجنرالات يسعى دائماً إلى الإذعان للمستعمر والصهاينة، ولا يسعى إلى السلام مع شعبه في الداخل؟
وبعيداً عن التقويم المجتزأ والشكليّ لدور المعارضة المصرية وتيّاراتها القوميّة واليساريّة والإسلاميّة والليبراليّة، وما ارتكبَتْه جماعةُ «الإخوان المسلمين» على نحو خاصّ من خطايا وأخطاء، فإنّ الواقعَ الراهن في مصر يستدعي صرخةً مُدَوّية مِن أجل مِصر الشعبية، ومن أجل وحدة حركتها الوطنيّة المناضلة، ضدّ واقع مُخيف يُنذر بخراب البلاد لعقودٍ قادمة، ذلك لأنّ خرابَ مصر هو خرابٌ للأمّة، وتحريرَ مصر هو تحريرٌ للأمّة.
وعلى الرغم من الفارق الكبير في مستويات التغوّل والاستبداد الداخليّ، بين السادات والسيسي، فإنّ زرْعةَ الخراب بدأتْ من هناك، من الاستنقاع في وحل كامب ديفيد. أمّا لعبة الأنظمة التقليديّة، القائمة على عزل أطراف من المعارضة والاستقواءِ بأخرى، فقد صارت لعبةً قديمةً على أيّ حال.
إنّنا، اليوم، أمام طبعة جديدة من حُكم الفرد الجاهل والمستبدّ، يجري تسويقُها باسم «الدستور» و«البرلمان» و«الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة» و«الاستفتاء»، وغيرها من مسمّيات ومقولات واهية وفارغة. أمّا واقع الأمر، فيقول إنّنا أقربُ إلى دولة الحاكم بأمر الله في القاهرة، وإلى تطبيق حرفيّ لعبارة لويس الرابع عشر الشهيرة: «الدولة أنا، وأنا الدولة!».
ولا نظُنّ أنّ مصير السيسي سيكون بعيداً عن مصير السادات وخليفته مبارك، أمّا الثورة المصريّة، التي انطلقتْ في ميادين مصر في 25 يناير وهي تَنشُد الحرّيّةَ والكرامةَ والتحرّرَ الوطنيّ والعدلَ الاجتماعيّ، فقد جرى اغتيالُها عَلناً في الميدان على يد الجنرالات وعُملاء الولايات المتّحدة؛ تماماً كما حَدَث في تشيلي يوم 11 أيلول 1973، عند انقلاب الجنرال الفاشي بينوشيه ضدّ حكومة سلفادور الليندي المنتخبَة.
هل استخلصت المعارضةُ المصريّة والفصائل الفلسطينية الدروسَ بعد هذه التجربة القاسية المستمرّة؟ هل فهمت أنّ أيّ نظام ثوريّ جديد في مصر، أو في غيرها، لا يمكن أن يقومَ ويستمرَّ إلّا في إطار جبهويّ وطنيّ ديموقراطيّ وتعدُّديّ؟ هل استوعبتْ أنّ شرطَ قيام ذلك النظام المنشود هو القطْعُ الكاملُ مع كامب ديفيد، والتأسيسُ لقطبٍ عربيٍّ تكون فلسطينُ فيه بوصلةً، ومصرُ عُمقاً استراتيجيًاً للمقاومة الفلسطينية والعربيّة الشاملة، لا مطيّةً للصهاينة وبراميلِ النفط!؟
على أنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو التصدّي لأسئلة اللحظة الراهنة الفارقة في حياتنا: أين مصر من فلسطين؟ أين العرب من مصر؟ وما هو مصيرُنا في عالمٍ تطْحنُه قوى المال والاستعمار والصهيونيّة؟ كيف نُواجه، معاً، قوى عازمةً على تدمير مجتمعاتنا وهويّتنا ولا تحترم الضعفاء؟ كيف نخرج من زواريب الحروب المذهبيّة والطائفيّة الصغيرة إلى الحرب العربيّة الكبرى: حربِ النهضة والاستقلال الوطني وتحرير فلسطين.

* كاتب فلسطيني