ظُهْرَ يوم من أيام شتاء لبنان القارس هذا العام، توجّهتُ إلى المستشفى لزيارة الأب مارون عطاللـه. فالأب مارون قضى فترة في دار الراحة، للراحة بعد عملية جراحية، ولم أتمكّن من زيارته في تلك الفترة لاحترامي للإجراءات المتعلّقة بوباء «كورونا».أبلغني الموظف أن الزيارة تبدأ الساعة الثالثة، أي بعد نصف ساعة انتظار. شكرته وجلست في المقهى حيث الجو البارد، والمطر ينهمر بكثافة. عند الثالثة تماماً، طلبت منه السماح لي، فقال أين فحص الـ «PCR»، قلت عندي ورقة تثبت بأني تلقّيت ثلاث جرعات من اللقاح، فقال لي يجب أن يكون عندك فحص «PCR» سالب. أجبته: كنت أتطلع إلى لقاء الأب مارون عطاللـه، فهو في المستشفى منذ ثلاثة أيام وقد اتصل بي عند دخوله وطلب رؤيتي. عند سماع الموظف اسم الأب مارون عطاللـه سمح لي وبمحبة الدخول شرط التباعد والكمامة وغيرهما من الإجراءات.
تصوّرته ممدّداً على السرير يعاني من أوجاعه. كان باب الغرفة مفتوحاً، كما كل أبواب غرف الأديرة التي سكنها، وكما كل غرف الأماكن التي نزل فيها أيّام التحضير أو انعقاد النشاطات. جالساً على كرسي وأمامه طاولة لا يوجد عليها لا أدوية ولا صينية طعام، كان عليها أوراق وقلم وجريدتان ودفتر فيه أرقام هواتف ومخطّطات لمشاريع مستقبلية. نظر إليّ وللحظة اعتقدت أنه لم يعرفني، هل هذا معقول؟ ثم هتف فَرِحاً، كيف دخلت؟ كيف سمحوا لك؟ فلان حاول وفلان حاول ولم يتمكنا. قلت إن اسمك المحبّب وروحك الطيبة يطغيان على الأماكن التي تتواجد فيها، ولو كانت مستشفى.
بداية الحديث معه كانت عن صديقنا المشترك الأباتي أنطوان ضو، الذي أقام معه لأشهر في دار الرحمة. تحدّث عن اتساع أفق الأباتي للعلاقات الإسلامية – المسيحية، وأفقه العربي وعلاقاته الممتدّة على طول العالم العربي وعرضه. وقال لي يا رحاب الأباتي ضو مؤمن بالربّ وبكل ما عمله ويجب أن يلقى وفاءً بمقدار وفائه، وأعرف أن الأستاذ معن بشور سيكون خير الأوفياء له ولمبادئه ولما حمله من عروبة نهضوية.
انتقل بعدها للحديث عن عائلته وعن الليلكي (في الضاحية الجنوبية) وأيام المحبة فيها. وذكّرني بأول مشاركة لي في الرحلات التي كان ينظمها سنوياً إلى إحدى الدول العربية للتعرّف إلى حضارتها وثقافتها، وكانت يومها إلى مصر، كنّا 45 مشاركة ومشاركاً، وكانت البداية لرحلات لاحقة تضم شخصيات مسيحية وإسلامية ولتكون الحوارات فيها أعمق وأشمل. في تلك الرحلة تعرّفت إلى أقرب المقرّبين إلى عقله وقلبه وإلى عدد من أفراد عائلته (بنات أخواته وأحفادهن)، لمست محبة عائلته الصغيرة له وتقديرها واعتزازها به، وبدوره كرجل دين ورجل تغيير. بعد هذه الذكريات قال: أنتظر زيارة مادلين (غصيبة - ابنة أخته) فإذا رأيتها كأني رأيت العالم كله، فهي تفهمني من نظرة أو إشارة، وعرفت حينها لماذا كانت مادلين دائمة الحضور إلى جانبه، يعتمد عليها ويثق برأيها ويأنس لحضورها في كل مشاريعه.
بعدها قال لي بحماس: يا رحاب لا يمكن أن لا نُراكم على ما قدّمه الشباب اللبناني، ففي «برنامج شباب لبنان الواحد» و«انتظارات الشباب» كانت البداية لإفساح المجال للشباب بالتعبير عن آرائهم عن كيفية التغيير في لبنان، وبداية البناء لوطن يحلو العيش فيه، وما التحركات الشبابية التي شهدناها أخيراً إلا تعبيرٌ عن هذه الطموحات، وعلينا أن نكون إلى جانبهم وندعمهم ونزوّدهم بتجاربنا، ونترك لهم بناء تجربتهم.
تذكّرت أنني وعدت الموظف بأن لا أطيل الزيارة وكانت قد مرّت ساعة بسرعة البرق الذي كان يدوّي في السماء، فقلت له سأتركك على أمل أن نلتقي خارج المستشفى. ودّعني بالدعاء لي ولعائلتي التي كان يقلق عليها فرداً فرداً ويتابع أخبارها الصحية. عند الباب نادى عليّ وقال: هل قرأت «جواهر عمر»، وفيه أقوال وحكم كتبها رُنيه دو أوبالديا، عضو الأكاديمية الفرنسية، وصاغها بالعربية وقدّم لها الشاعر هنري زغيب، سأرسله إليك.
قرأته أبانا مارون، وأحببت أن أنقل لك حكمة أعجبتني:
«جالساً عند مدخل الفردوس أراقب الواصلين: المقبولين إليه والممنوعين عنه».