يحاول الإعلام الغربي تصوير روسيا كدولة عدوانية توسعية، ويحرص الإعلام أيضاً على اختزال وشيطنة بوتين وشخصنة الصراع. إلا أن هذه ليست حرب بوتين وحده، فالعقل الروسي ككل مسكون بعدوانية وهمجية الغرب تجاهه. يعمل «حلف شمال الأطلسي» على استحضار حلقتين أساسيتين من كوابيس الروس المعاصرة؛ نهش جثة الاتحاد السوفياتي والتنكيل بها في عهد يلتسن، واستحضار النازيين الجدد على الحدود الغربية الأكثر حساسية بالنسبة لروسيا. هذان الهاجسان هما الدافعان الرئيسيان للروس لشن هذه الحرب، ويجعلان منها حرباً عادلة تسعى للسلام في النهاية من منظور روسي يعتبر أن وحدة أراضيه مهددة وأن المبادرة هي السبيل الوحيد لدفع العدوان الذي سيكون ثمنه الإنساني والاقتصادي أضعافاً مضاعفة على أرضه قد لا يتعافى من آثاره لأجيال. يناقش هذا المقال النهب الذي تعرّض له الروس بعد سقوط الاتحاد السوفياتي من قبل الغرب وآثاره المدمرة على المجتمع ككل ولماذا لا يزال هذا النهب تهديداً ماثلاً.
تصميم: محمد معلّم

مسلسل النهب... بالخصخصة
ما حققته «كليبتوقراطية أولاد هارفرد الإدارية» في روسيا من خراب خلال عقد الإذلال القومي في التسعينيات عجز عن تحقيقه نابليون وهتلر سويةً ــــ فبالرغم من الدماء والدمار خرج الروس منتصرين. وللقصة بدايات كثيرة، إحداها عملية الخصخصة بالقسائم، التي دفع بها أناتولي تشوبايس، رئيس الحكومة الذي وصفه الغرب بملاك روسيا الهابط من السماء (وهو اتبع سياسات رسمها معهد هارفرد للتنمية الدولية بدفع من الـUSAID «لإصلاح» الاقتصاد الروسي). كانت القسائم عملياً مجرّد أوراق بقيمة اسمية تساوي عشرة آلاف روبل وتمثل فرصة لامتلاك 30 في المئة من أسهم مجمل المؤسسات السوفياتية.
تتعدد المبررات وراء هذه العملية بين تشوبايس ومعهد هارفرد. الأخير يقول إنها كانت عملية سريعة لتسييل الملكية العامة السوفياتية في السوق. أمّا تشوبايس، فهو يشرح في مقابلة له كيف دفع بهذه القسائم خلال الإجازة البرلمانية وكيف وزّعت بين أيدي المواطنين لقطع الطريق على البرلمان الذي كان سيصوت ضدها كون القانون كان يجرم الخصخصة حينها، فلن يفيد التصويت بعد أن أصبحت القسائم بين أيدي المواطنين. في مقابلة أخرى ألمح إلى أنها كانت لإعطاء شعور وهمي للمواطنين بعدالة وشفافية ونزاهة الخصخصة ولطمأنتهم بأنها ليست سرقة.
الثروة العامة التي وزعت على القسائم تشكلت من 25 ألف مؤسسة إنتاجية سوفياتية روسية، وذلك بحسب تقرير للبنك الدولي قدّر قيمة مجموع هذه القسائم بـ 10 مليارات دولار: أي إن ثلث مجمل الصناعات السوفياتية تمّت خصخصتها اسمياً بحوالي عُشر الدخل السنوي الحالي لـ«غازبروم» وحدها! وحتى هذه المليارات العشرة لم يقبضها الروس فهم لم يعرفوا ما الذي عليهم عمله بهذه القسائم وكانت هذه أول حلقة في مسلسل النهب.
بدأ السماسرة بعدها بجمع هذه القسائم بأثمان بخسة، وهكذا تركزت القسائم في يد عدد محدود ممن سيسمون لاحقاً بالأوليغارشية الروسية (وهم عموماً واجهة محلية لناهبين دوليين أمثال سوروس وروثتشايلد وصفرا وبنك HSBC).
أمّا الحلقة الثالثة فتمثلت في طرح الأسهم، وهنا تنوعت السيناريوهات، فالعملية كانت تتم حضورياً، على أن تعرض أسهم أي شركة للخصخصة وتقسم بالتساوي على عدد القسائم الحاضرة. لذلك حاولت النخبة الجديدة إقصاء أي منافسة من المواطنين، فكانت بعض عمليات الطرح تتم في ساعات الفجر أو متأخرة من الليل، أو في بعض أماكن طرح الأسهم تم إغلاق طرقها بالحواجز والمسلحين، وبعضها عقد في أماكن نائية وصعبة الوصول، وفي حالة «سورغو تنيفتغاز» النائية في سيبيريا تم إغلاق المطار في الليلة السابقة للطرح لضمان احتكار أسهمها. كل هذا الاحتيال شكّل المرحلة الأوّلية للنهب ولكن الآتي كان أعظم.

تدخّل أميركي لإنقاذ يلتسن
بين عامي 1992 و1994 تمّت خصخصة 12 إلى 14 ألف مؤسسة، الأمر الذي عده البنك الدولي نجاحاً باهراً. إلا أن الشعب الروسي خالفهم الرأي، ومعه البرلمان الذي رفض توسيع صلاحيات بوريس يلتسن للمضي في خطته «الإصلاحية» والخصخصة، الأمر الذي أدى للأزمة الدستورية عام 1993 والتي انتهت بقصف «ديموقراطي» للبرلمان بالدبابات وبمباركة غربية. وبطبيعة الحال تدهورت الأحوال المعيشية في روسيا. بحسب الناهب الدولي بيل براودر، فقد تحوّل البروفيسورات إلى سائقي تاكسي، والممرضات إلى بائعات هوى ليحصلوا كفاف يومهم ويواجهوا نقص الغذاء والسلع الحيوية. لذا أصبح يلتسن مكروهاً لدى الروس وحملوه مسؤولية الوضع المزري للبلاد، إلى الحد الذي أوصل نسبة تأييده في استطلاعات الرأي إلى 2-6 في المئة عشية انتخابات 1996. هنا استنفرت أميركا لإنقاذ ديموقراطيتها وإصلاحها اليلتسني، هذا المخمور الأبله الذي خجل الروس من كونه رئيسهم، وأرسلت أميركا فريقاً خاصاً ليدير حملته الانتخابية بشكل مباشر. ووحدت الأوليغارشية ووضعت خلافاتها جانباً لإنجاحه خوفاً من المرشح الشيوعي المتقدم عليه بأشواط حينها.
هذا الدعم ليلتسن كان مشروطاً طبعاً، وأهم شروطه أن أيام طرح الأسهم العلنية قد ولت بلا رجعة، فظهر ما يعرف اليوم بالديون مقابل الأسهم، وهي مزادات مغلقة لمدعوين محددين بأسعار بخسة للشركات الاستراتيجية السوفياتية السابقة. هنا بدأت مرحلة النهب الصريح والمنظم وفيها تم الاستيلاء على المؤسسات الاستراتيجية الضخمة. نظم تشوبايس هذه المزادات وكانت شركة هارفارد للإدارة (وهي تدير استثمارات جامعة هارفارد) وجورج سوروس المستثمرين الأجنبيين الوحيدين، ومن حصص سوروس الضخمة كانت حصته في سيدانكو أويل، ونوفو ليبستيك.
بين عامي 1992 و1994 تمّت خصخصة 12 إلى 14 ألف مؤسسة الأمر الذي عده البنك الدولي نجاحاً باهراً


بعد نجاح يلتسن بشق الأنفس، مُنحت روسيا قرضاً من صندوق النقد. بالرغم من الويلات التي عايشها الروس في ذلك الحين، إلا أن الدفعة الأولى منه البالغة 4.5 مليار تم تهريبها فوراً إلى بنوك خارجية أهمها بنك إدموند صفرا في نيويورك الذي باع أملاكه وأعماله بشكل غامض قبل قتله بأيام لبنك «HSBC» (وبحسب «الغارديان» فإن صندوق النقد الدولي كان يعلم أن الأموال ستسرق وسيدفع الشعب الروسي ثمنها مع الفوائد). كانت الأوليغارشية الروسية مجرمة وعديمة القلب، فتشوبايس مثلاً قال إنه لا مانع من موت الملايين في هذه العملية فهذه طبيعة السوق. وبالفعل هناك دراسات تثبت العلاقة بين موت ملايين الروس المبكر وعملية الخصخصة. ولكن التركيز على هذه النخبة المجرمة وحدها يلوم الروس على إجرام الغرب بحقهم، ويصور روسيا كأنها ضحية لفسادها وإجرامها الذي يزعم أنه متأصل في ثقافتها ويخفي أن لهذه النخبة مشغلين غربيين أداروا العملية وضمنوا استمرارها ووأدوا أي فرصة للإصلاح.

معدن الآلهة غنيمةٌ في يد القتلة
صحيح أن خصخصة موارد أي دولة تعد نهباً بحقها لأجيال، ولكن للحالة السوفياتية خصوصية أشدّ إيلاماً، فما تمت خصخصته ليس الموارد فحسب، بل تعب أجيال تحملت المصاعب وعملت بكد وجهد وهي تحلم بالأجيال القادمة التي ستقطف ثمار شقاء عمرها وبالدولة التي ستورثها لأولادها وأحفادها. هذه الصناعات التي بيعت بأقل من أرباحها السنوية، وبأعشار قيمة موجوداتها، والتي هربت أرباحها لاحقاً للخارج وتعفف أصحابها الجدد عن دفع الضرائب ولا حتى الأرباح لصغار المساهمين، هي في حقيقة الأمر الثروة الحقيقية للسوفيات التي بنوها بأيديهم.
مثال جيد على هذه الشركات شركة «أفيسما» المصنعة للتيتانيوم. قام السوفيات بتطوير صناعات استخراج ومزج وتصنيع صفائح التيتانيوم منذ الستينيات. والتيتانيوم له خصائص فائقة (لهذا سمي تيمناً بالآلهة الإغريقية) تجعله مثالياً لجميع أنواع المركبات، وما يحول دون تسيّده لهذه الصناعات كافة هو ارتفاع سعره، وارتفاع سعره لا يعود لندرته، بل لصعوبة تقنيات التعامل معه. هذا أمرٌ تفرّد به السوفيات، لدرجة أن طائرة الطائر الأسود التجسسية الأميركية كانت منذ الستينيات تصنع بتيتانيوم سوفياتي بالكامل، وقد كان يشترى سراً عبر شركات قشرية بواسطة وكالة الاستخبارات المركزية. وفي نهاية التسعينيات نشأ صراع بين الناهبين حول «أفيسما» لأهميتها كمورد رئيسي لشركات مثل «إيرباص» و«بوينغ»، احتالت فيه مجموعة من المستثمرين الأجانب، من ضمنهم براودر وموظف سابق في معهد هارفارد، على «أفيسما» المملوكة للبليونير كودورفسكي فرفعت قضية ضدهم في المحاكم الأميركية. المالكون الجدد والقدامى قاموا بالاحتيال على مصلحة الضرائب الروسية وصغار المساهمين وهربوا الأرباح عبر الشركات القشرية إلى الخارج، ومن ثم تقاتل سارقو السارقين في ما بينهم حول الأرباح المسروقة.
في هذه الأثناء كانت حالة يلتسن تتدهور وأصبح البديل ضرورياً، وفي هذه الأثناء أيضاً كانت حرب الشيشان مشتعلة وتهدد روسيا بالمزيد من التشرذم. في خضم هذه الأحداث صعد نجم بوتين كرجل حاسم ذكي ذي شعبية استطاع السيطرة على الوضع في الشيشان خلال شهرين. لكن أهم من كل ذلك أنه كان مضموناً بالنسبة للغرب (أمثال بيل براودر وتوني بلير) كما كل الأوليغارشية الروسية. وهكذا سلم يلتسن روسيا بين يدي بوتين ليعتني بها، لتأتي المفاجأة فور استلامه الحكم، بمؤتمره الشهير مع الأوليغارشية عام 2003، حين قال إن المشكلة في روسيا أن الحدود بين عالم الأعمال وإدارة الدولة معدومة. وأوضح للجميع أن أيام حكم الفساد في روسيا قد ولت، مباشرة على الهواء، كان الخبر صاعقاً بالنسبة لهم والصاعق أكثر الحملة الخاطفة التي شنها لمكافحة الفساد. استمر الغرب في تأييد بوتين، إذ اعتقد أنه عاقل ولن يمس بمصالح الغربيين في روسيا وبعضهم أيّده بحماسة لأن محاربة الفساد بهذا الشكل تقضي على المنافسة بالنسبة لهم.
بعد عدة سنوات فاجأهم مجدداً وبدأ بملاحقة فساد «المستثمرين الأجانب». وبطريقة أو بأخرى يصعب شرحها هنا، هذا السبب الحقيقي وراء ما يعرف اليوم بقانون ماغنيتسكي، ولكن يكفي القول إن أعداء الأمس، براودر وكودورفسكي، هما في واجهة الحملة وراء قانون ماغنيتسكي. استطاعت روسيا إعادة تأميم شركات استراتيجية عديدة من خلال حملات مكافحة الفساد هذه. تشكل شركتا «غازبروم» و«أفيسما» أهم هذه الشركات، لأهميتهما الاستراتيجية لروسيا ولإدمان الغرب على إنتاجهما مما جعلهما مدعاة قلق رئيسة لدى الغرب خلال السنوات الماضية حول ما إذا كانت روسيا ستقطع إمداداتهما في حال توترت العلاقات ونشب صراع دولي معها. ذلك بالرغم من تطمينات بوتين المتكررة بأن روسيا لا تنوي قطع هذه الإمدادات.

تحت حكم الأوليغارشية
وفي حال كنت مواطناً ذكياً ولم تبع قسيمتك بسعر رخيص، واستطعت بشكل عجائبي أن تشتري أسهماً في إحدى المؤسسات الإنتاجية ذات الشأن فقد تم اختراع حيلة جديدة لضمان إخراجك من دائرة المستفيدين من ما كان يوماً الملك العام. فقد عملت الحكومة على اختراع هياكل هرمية في القطاعات الحيوية والأكثر ربحية مثل الغاز والنفط والكهرباء والاتصالات، سلّمت إدارتها لكبار مالكي الأسهم من الأوليغارشية طبعاً، وهم بدورهم استفادوا من الشركات الوهمية للتلاعب بالأسعار وسرقة مصلحة الضرائب وصغار المساهمين في نفس الوقت.
من أشهر هؤلاء ميخائيل كودورفسكي، ومن أهم شركاته كانت «يوكوس» للنفط والغاز، كل من حاول مجابهته باء بالفشل. فهو كان قد اشترى القضاء والصحافة وتحكم بعدد من السياسيين، بل أكثر من ذلك، فإن عمدة إحدى المدن طالب إحدى الشركات الفرعية ضمن «يوكوس» بدفع الضرائب المتوجبة عليها، فتم قتله. كما تم تفجير سيارة مدير أحد الشركات الفرعية رفع قضية على «يوكوس» أمام بيته ونجا بأعجوبة من التفجير ومن المسلحين الذين كانوا بالقرب لضمان قتله. جرائم كودورفسكي لا تعد ولا تحصى، وقد تكون السنوات التسع التي قضاها في السجن غير كافية إلا أنه كان أول من تمت محاكمته من هذه الطبقة الناهبة. الرجل اليوم يقيم في لندن هو وما تبقى من ثروته، إلا أن المقلق هو الترويج له من قبل الإعلام الغربي كمناضل فذ ضد حكم الفساد المافيوي في روسيا. بل إن بيل براودر ـــــ عدو الأمس ـــــ بدأ بتشبيه الرجل بنيلسون مانديلا وكأن الرجل كان في السجن لنضاله السياسي.
هذا التعويم لكودورفسكي يجعل نوايا الغرب تجاه روسيا واضحة وأن بديلهم الديموقراطي لروسيا ليس أكثر من استعادة عقدٍ من الإذلال يتعوذ الروس من عودته. حينما سلمت روسيا رقبتها للغرب الذي لم يدمرها بداعي الجشع والطمع فقط، بل لأن المجرم يخشى من حقد ضحيته ورد فعلها، فيحرص على أن يجعلها عاجزة على مواجهته مستقبلاً. هكذا شن الغرب حربه الاجتماعية والثقافية على روسيا، لتفكيك المجتمع الروسي وإعادة تشكيله كمجتمع ينخره الفساد وتتسيده المافيا وينهشه الفقر والجريمة والإمعان في إذلاله أمام نفسه والعالم وتشويه هويته الوطنية واستتباع هذه الأمة بأحلامها وتطلعاتها نحو نمط الحياة الغربي. كانت مفاجأة الغرب الكبرى في انقلاب كل هذا بسرعة واستفاقة الدب الروسي من سباته لينتهي عقد الإذلال القومي ويكرس فصلٌ جديد من فصول الصراع.
*كاتبة عربية