حسين قاووق يصرخ بِألم وجودي على خشبة مسرح السارولا: «أنا مين، ولك قولولي أنا مين». صوته يخترق آذان الجمهور لمعانقة فكرة يوميّة صامتة تدور في بالهم أيضاً: «نحن من؟» يتحوّل مجموع الأفكار إلى غيمة مثقلة بالحيرة الوجودية، تتسرّب بخفة السراب رغماً من ثقلها عبر أبواب المسرح لمناجاة شارع الحمرا الذي أضحى مدينة أشباح في المساء. الغيمة نفسها تخيّم فوق رجل ستيني جميل الهندام، وجدته يتمشّى وحيداً على شارع القاهرة العمودي للحمرا في ساعة متأخّرة من الليل، وكأنه خارج لتوه من سينما الكوليزيه المقفل منذ سنوات. يردّد ويكرّر باللهجة اللبنانية وبملء الصوت: «فيلم مأيّـ...، بْيسْوى صرماية». لا، ليس الرجل متسوّلاً أو مجنوناً، ولا هو فاقد الذاكرة. لم يخيفني. أردت مشاركته في المونولوغ ولكنّي خفت من الفيلم.انفعالية قاووق تلاقيها برودة شربل في مطعمه في كعب الأشرفية، عيونه مسمّرة على التلفزيون لمتابعة كل حركة وكلمة وعطسة في مسلسل «غرام وانتقام». «الممثّلات باب أوّل، الإنتاج تركي، الدبلجة سورية، والمشاهدون لبنانيون». يقولها لمن، لست أدري، من دون إزاحة نظره ولو سنتيمتراً عن الشاشة. أطلب منه «واحد مغلي معلّم شربل» ولكن لا حياة لمن تنادي في هذه اللحظة بالذات؛ حبكة المسلسل تثخن وشربل مستسلم بالتنويم المغناطيسي. كلامه ذكّرني ببواخر الكهرباء التركية، تلك التي استهلكناها أيّام العز الزائف كما نستهلك كل ما ينتجه بقيّة العالم من أشياء، من دون أن ننجح في إنتاج ولو شرارة كهرباء محلية واحدة. «الأتراك بيشربوا أكثر من المسيحيّي. إسطنبول بتجنّن. عندي زباين كانت أحوالهم عادية بروحوا الجمعة لتركيا وبيرجعوا الأحد. كل شي أرخص هونيك،» يقولها بهواء اللامبالاة فيما يرش جوز الهند على طبقي.
برودة شربل تلاقيها انضباطية المعلّم طباجة في محلّه النظيف والمرتب في أوّل الغبيري. الرجل محترف ذو أسلوب متعمّد في الأداء والكلام. يدق الثوم حبة حبة بحزم ونعومة وكأنه يداعب شيئاً حياً ولطيفاً. يحضّر صحون الفول وحمص البليلة من الصفر خلال دقائق، كلّها مطعمة بقطرات بسمته الخجولة والبعيدة عن التكلّف. ربما البسمة هي مقياس النفَس الطيّب عالأكل. يناديه أحدهم من الخارج «معقولة شو صار اليوم مع فريق النجمة؟» يقولها وهو يصف دراجته أمام الباب. «القانون قانون» يجيب طباجة ببرودة قاضي محكمة، «كان لازم يلعبوا الماتش ويتحدوا. ما فيك تلوم الحَكَم. القوانين واضحة ومعروفة». يقدّم لي الأطباق ويجلس بالمقابل أمام طاولتي. يلفظ كلماته الموزونة عن الوضع بتجرّد. «متل ما أكَلِتها النجمة وقت تخطوا القواعد، رح ياكلوها الزعما بالانتخابات. الناس بدا مين يحفظ الحق».
عنصرية هنري وآخرون مثله على ضفة التزمت المضادة له تلاقي، لحسن الحظ، منطقية التفكير الحسن بين الكثير من أصحاب الرؤوس الباردة في كل أنحاء البلد


انضباطية المعلّم طباجة تلاقيها فوضوية هنري العنصرية الخواطر في حارة صخر. هنري صادق وصريح مع جليسه أمام الطاولة المجاورة لطاولتي داخل الحانة. يُعاني من فوقيّة مقيتة تجاه «الآخر» اللبناني أو السوري أو الفلسطيني أو الأفريقي أو الجنوب أميركي، أو كل خارج عن ما يعتبره هويّته هو. يجهل أنه يعاني من عقدة نقص تجاه الأشقر ذي العيون الزرق. أجدني أهمس الآخ آخ في عبّي. «أنا كمسيحي ومؤمن بالإنسانية، ما فيني اتقبّل الجَيّة والقرف عند السوري والسوداني واليمني والعرب». أبحثُ عن شبر إنسانية في هذه الجملة كمن يبحث عن إبرة في جبل قش. «طبعاً الشعب الأوكراني شعب عريق عندو حضارة 1200 سنة، شعب نظيف، شو بدي أعملك إذا كانو حلوين وشكلهن بيوحيلك انو بدك تتروق على وجهها الحلو. كِـ...ئِختا بيحطولك عالتلفزيون صور بنات لاجئين من أوكرانيا، يا الله، بتحس حالك بدك تلبس بدلة كرمالها وتروح تحارب من أجلها». صديقه يتفاجأ بحدة هكذا مواقف، فيسأله متهكّماً إذا أخته أو والدته أو جارته السمراء ذات العيون السود ترتقي إلى مستوى «الإنسانية» البلاستيكية الغريبّة المعايير التي يتغنّى بها. «أنا ما بشوف الأوروبي أحسن مني؛ متلي متلُن كلبناني مسيحي، بشوف مساواة تامة. نحنا كبشر نتعاطف مع الناس يلي بيشبهونا. الشعب الأوكراني متحضر وراقٍ، بينما الشعب السوري الفقير المعتر، لا، ما عندو حضارة ولا أي شي. كل عمرهم عايشين بخيمة البدو، وهلق عايشين بمخيمات بلبنان. شو الفرق؟ أنا كمسيحي لبناني فينيقي ما عندي عقدة نقص، شايف حالي عالعالم كلو سوا. لما اتطلع بالعالم، بشوف أنني أحسن منهم بتاريخي وبحضارتي، ولو كان شعري أسود وبشرتي داكنة. يتهمون الصحافيين الغربيين بالتمييز العنصري بين اللاجئين الأوكرانيين والسوريين وآخرين، بس لا أحس أنها تمسني. بشوفها تمس المعتّرين، لا أشوفها تمس فيني أنا». آوتش يا روحي. الأفضل عدم التعليق، بلا تنميط أو خلاصة شمولية.
عنصرية هنري وآخرون مثله على ضفة التزمت المضادة له تلاقي، لحسن الحظ، منطقية التفكير الحسن بين الكثير من أصحاب الرؤوس الباردة في كل أنحاء البلد. لولا أكثرية هؤلاء لحلّت علينا شريعة الغاب خلال هذه المرحلة القاسية بالذات في مجتمعنا. لست أدري ما سِرّنا، وأقولها من دون مفاخرة. أعطني مجتمعاً آخر فاسداً في العالم فاقد شرعية الأمن الشخصي والرعاية الصحية وضمان الشيخوخة والأسواق الوظائفية والسياسة السكنية والقوة الشرائية والثقة المصرفية والاستثمار الإنتاجي والأمن الغذائي والعدل القضائي والحوكمة الشفافة وفرص الترقي الطبقي والتخطيط المدني والضرائب التصاعدية العادلة والهوية الوطنية والخدمات العامة والبنية التحتية والمصداقية السياسية إلخ إلخ، أعطني كل هذه الآفات مجتمعة في بلد واحد من دون أن تفلت الناس على بعضها البعض. على سوء وفشل كل شيء تقريباً في لبنان ما زالت الناس تتقيّد بشيء ما يمنعها من التحوّل إلى كلابٍ تعض كلاباً في البرّية. ليست لدي أدنى فكرة عن ماهيّة دولاب النجاة هذا، لكن إذا كان له دلالة عن أمر ما على الأقل ألا وهي «وحدة حال» اقتصادية، معيشية، وسياسية بين أكثرية اللبنانيين الساحقة على مختلف ألوانهم الثقافية ومعتقداتهم الدينية. لا تلم المصالح الأميركية الخليجية الإسرائيلية الإيرانية، على ذنوبها بحقنا، المشكلة صنع محلي بالأساس. رؤساء المصارف وعريفهم حاكم مصرف لبنان، بالتعاضد المطبق مع حيتان السياسة والقيمين على الكنيسة والجامع، سرقوا كل اللبنانيين ونهبوا البلد. هذه حضارة على مستوى رفيع! ربما النازح السوري واللاجئ الفلسطيني أنبل وأشرف، إيه هنري؟
النتيجة وحدة حال يجب أن تكون فرصة تلاقٍ ذهبيّة وجامعة بين الناس، لا «ثاو ثاو» خارجية التمويل. هل تتمخّض فسحة تجمع واسعة في أحزاب جدّية نظيفة للإمساك بدفة الحوكمة الصالحة في البلد؟ خوفي أن تكون وحدة الحال هذه من النوع الخفي، فلا وجود لها في النظر السطحي لمن لا يراها. ربما لسنا بحاجة إلى تظاهرات مليونية عبثية النتائج سهلة الاستغلال. عشرون إلى ثلاثون شخصاً دمّروا لبنان بشكل تراكمي منذ 1943. حوالي مئة شخص فقط قاموا بالنهضة الأوروبية بعد القرون الوسطى. ما بدا كتير.

* ناشر لبناني ومحرّر سابق لمجلات أدبية وفنية