تواجه العديد من المُنظّمات والشخصيّات المُؤيّدة للحقوق والمقاومة الفلسطينيّة واللبنانية هجمة عنصرية صهيونيّة شرسة في أوروبا، لن يكون آخرها قرار وزارة الداخلية الفرنسية "حل رابطة فلسطين ستنتصر"، واستهداف الفرنسية أوليفيا زيمور الناشطة ضد شركات الأدوية الصهيونية، كما تنعقد في العاصمة الألمانية برلين يوم الجمعة 11 آذار الجاري محكمة تنظر في قضية الكاتب الفلسطيني خالد بركات، الذي جرى منع نشاطه السياسي والثقافي ثم إبعاده من ألمانيا. ولا تتوقّف الحملات المُعادية لحركة المقاطعة وقوى جذرية كشبكة "صامدون للدفاع عن الأسرى" ومُنظّمة "بالستاين أكشن" في إنكلترا، كما شهدنا أخيراً حملة شعواء طاولت عدداً من الصحافيات والعاملين في قنوات إعلامية مثل "دوتشيه فيليه" وغيرها... فما هي خلفيّات هذه الهجمة الصهيونيّة؟ مُنذ مطلع عام 2015 تقريباً، تشنّ المنظّماتُ الصهيونيّة في أوروبا، بالتعاون الوثيق مع سفارات الكيان الصهيونيّ والولايات المتحدة، حملةَ تجريمٍ وتشويهٍ واسعةً ومُنظّمةً وغيرَ مسبوقة، توظِّف فيها أدواتِها السياسيّةَ والإعلاميّةَ والقانونيّةَ والأمنيّة، ضدّ النشاط السياسيّ المؤيِّد للمقاومة والحقوق الفلسطينيّة. وبرزتْ في الآونة الأخيرة قضيّةُ بركات، الذي كان يقيم في برلين بين عامَي 2015 و2019 إذ تتّهمه إسرائيل بمعاداة الساميّة، وتأييد العنف والإرهاب، على حدّ زعمها. وتتّخذ المنظّماتُ الصهيونيّة من نشاط بركات، المؤيّدِ للمقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة، قاعدةَ انطلاقٍ لها في محاولة لوقف نشاطه الثقافي والسياسي. وفي 22 حزيران 2019، قرّرت الحكومةُ الألمانيّة اتّخاذَ قرارٍ يحظرُ نشاطَ الكاتب ويمنعه من المشاركة في أيّ نشاطاتٍ جماهيريّةٍ عامّة، حتّى نهاية شهر تمّوز من العام نفسه. وتَلازَمَ ذلك مع إعلان عدم تجديد إقامته في ألمانيا.
هذا القرار، السياسيُّ بامتياز، سبقه إبعادُ المناضلة الفلسطينيّة والأسيرة المحررة رسميّة عودة من برلين، ومنعُها من المشاركة في مهرجان جماهيري بمناسبة يوم المرأة العالمي في آذار عام 2019، وكانت الولايات المتحدة قد سبقت ألمانيا حيث أبعدت المناضلة عودة من الولايات المتحدة وصادرت أوراقها الأميركيّة.
وكان ممثل الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة، وزيرُ الأمن الداخلي الصهيوني السابق جلعاد أردان (حزب الليكود) يترجم في الواقع شعارَه الفاشل "الانتقال من الدفاع إلى الهجوم" الذي اعتمدته وزارةُ التخطيط والشؤون الاستراتيجيّة التي كان يترأّسها أردان (جرى حلها أخيراً بسبب فشلها الذريع). وبغضّ النظر عن المبالغة الصهيونية المقصودة من أردان وسفاراته، فإنّ هذا الشعار في حدّ ذاته اعترافٌ صريحٌ أنّ كيانه العنصري بات يقف في موقع الدفاع.
لقد فشل الكيانُ الصهيوني في التصدّي لتنامي حركة التضامن مع فلسطين، الأمرُ الذي جعله يؤسِّس وزارةً خاصّةً تكلّفتْ مئاتِ الملايين من الدولارات. وهو يجنّد العديدَ من سفاراته، فضلاً عن قوى ومنظّماتٍ وأحزابٍ حليفةٍ له، لمواجهة خطر التحوّل في الرأي العام الدولي لصالح الشعب الفلسطيني. ويدرك قادةُ الكيان الصهيوني أنّ اسمَ دولتهم "صار في الوحل" بسببِ ما تمارسه من مجازرَ وحصارٍ في حق الشعب الفلسطيني؛ بل أصبح اسمُ "إسرائيل" نفسُه رديفاً لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (نظام الأبارتايد)، وتحتلّ دولةُ جلعاد أردان قاعَ السلّم العالمي للدول التي تنتهك حقوقَ الإنسان.
ورغم ملاحظات نقدية كثيرة وصحيحة يمكننا سردها هنا حول خطاب "حقوق الاإسان" إلا أن التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية (أمنستي) الذي صدر في شباط الماضي يظل أحد المؤشرات على ما نقول. فمثل هذه المُنظّمات الدوليّة تقرأ مزاج قواعدها وأنصارها أيضاً وتُفضّل مجاراته والاستجابة له في بعض الأحيان.
فشل الكيانُ الصهيوني في التصدّي لتنامي حركة التضامن


هذا ما يدفع العدو الصهيوني إلى الاستقواء بالدول الكبرى في محاربة الفلسطينيين وأنصارِهم في أوروبا. وإنّ "تدخّل" فرنسا وهولندا وألمانيا وغيرِها لصالح حليفتها إسرائيل كما حصل الأسبوع الفائت مع "رابطة فلسطين ستنتصر" يشير إلى محدوديّة القدرة الذاتيّة لدى الكيان الصهيوني في هذا الإطار. ويَعْقد الصهاينةُ المؤتمرَ تلو الآخر في أوروبا لبحث "الأخطار والتحدّيات" التي تمثّلها حركةُ المقاطعة وقوى التضامن الجذرية مع الشعب الفلسطيني عموماً.
والحقيقة أنّ ما يُخيفهم ليس ازدياد التعاطف الشعبي مع الفلسطينيين وحسب، بل يخيفهم كذلك الحضورُ الشعبي العربي الكثيف نفسه في أوروبا، والخوف من بناء مؤسَّسات عربية وأمميّة تواجه اللوبي الصهيوني. كما تُخيفهم مشاركةُ قطاعات واسعة من الأجيال الجديدة في النشاطات والحركات الشعبية التي تدعو إلى مقاطعة وعزل إسرائيل. وتحذّر شخصيّات صهيونية من تنامي "حركة المسار الثوري الفلسطيني البديل" التي تضُم مُنظمات شبابيّة وشعبيّة في مخيمات لبنان وقوى ناشطة مثل "صامدون" و"فلسطين ستنتصر" و"تحالف العودة" و"حركة نساء فلسطين الكرامة" وحَراكات شبابيّة داخل فلسطين المحتلة عام 48 وصلت حد اعتقال الناشطة الحيفاوية سمية فلاح وفرض الإقامة الجبرية عليها لأنها شاركت في مؤتمر المسار الفلسطيني البديل في مدريد تشرين الثاني 2021.
إن مواقع ومنصّات صهيونية مثل "جيروزاليم بوست" و"مُتّحدون من أجل إسرائيل في أوروبا"، و"إسرائيل اليوم" وغيرها، تنشر التقاريرَ التي ترسلها سفارات العدو إلى وزير الداخليّة الألماني، تطالبه باتخاذ مواقف ضدّ "فلسطين ستنتصر" والكاتب بركات. وتقول إنّها قد جاءت بثمارٍ مباشرةٍ بعد قرار حظر الكاتب والطلب إليه مغادرةَ البلاد وقرار حل الرابطة. حقيقةُ الأمر أنّ هناك قضيّةً منظورةً في المحاكم أمام القضاء الألماني والفرنسي لا غير، أيْ لم يُبتَّ الأمرُ فيها بعد. هذا جزء من الصراع المفتوح في مواجهة الحركة الصهيونية والقوى اليمينية العنصرية المؤيدة لها بما في ذلك بعض المُنظّمات المحسوبة على النازيين الجدد.
ومن المفيد الإشارةُ هنا إلى أنّ القضايا التي وصلتْ إلى المحاكم وساحة القضاء في البلدان الأوروبية، لم تُحسَمْ لصالح إسرائيل إلّا في حالاتٍ معدودةٍ فقط، آخرها قرار محكمة ألمانية في كانون الثاني 2022 يقضي بعدم جواز قرار مجالس البلديات رفض أو منع نشاط عام يدعو لمقاطعة إسرائيل ويرى الصهاينة في مثل هذه التشريعات الجديدة خطورة بالغة لن تخدم استراتيجيتهم وأهدافهم.
نعم، قد تحصل دولةُ الصهاينة على دعم الحكومات والبرلمانات والأحزاب والصحافة، لكنّ مسألة القضاء والمجالس البلدية قصّةٌ أخرى. فهناك صعوباتٌ تواجهها على هذا الطريق لأسبابٍ كثيرةٍ، أهمُّها أنّ الاتهامات التي تسوقها ضدّ "رابطة فلسطين ستنتصر" ونشطاءِ المقاطعة والمقاومة يَسْهُل إبطالُها وتبيانُ عُقمها وهشاشتِه في بلادٍ لا يزال القضاءُ فيها، برغم كل ملاحظاتنا عليه، يتمتّع بقدر كبير من الحصانة. إن الحكومة الألمانية تعترف مثلاً أن بركات لم يرتكب مخالفة قانونية واحدة وأن محاكمته تجري بسبب أفكاره السياسية المؤيّدة للمقاومة ورفضه ما يسمّى "حل الدولتين" أو الاعتراف بشرعية إسرائيل ودعوته إلى مقاطعة الكيان وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. هذه محاكمة سياسية بامتياز.
لم يتوقّع الكيانُ الصهيونيّ أن يقابَلَ تحريضُه المستمرّ ضدّ "رابطة فلسطين ستنتصر" في فرنسا وبركات في ألمانيا بإطلاق حملةٍ واسعة مؤازرة جعلتْ كُبرى المنظّمات الحقوقيّة في أوروبا، ونقابات القضاة والمحامين وأعضاء برلمانيين ولجاناً من الصحافيين والكتّاب والنقابات العمّاليّة، وحركاتٍ وأحزاباً سياسيّة، يعبّرون عن تأييدهم للفلسطينين وحقّهم في الرأي والتعبير. كما أصدر النائب ديتر ديم (من حزب اليسار) بياناً قال فيه، خلافاً لموقف حزبه، إنّ "نقدَ إسرائيل ليس مُعاداةً للساميّة" وأعلن تأييدَه لبركات.
واختار أعضاء آخرون في البرلمان الأوروبيّ توجيهَ دعوةٍ إلى شبكة صامدون التي تقود حملةَ التضامن معه، للحضور إلى مقرّ البرلمان الأوروبيّ. وهو ما دفع الكيان الصهيوني إلى أن يستنفر ويصرخ، حيث طلبت وزارة الخارجية الصهيونية من رئيس البرلمان ديفيد ساسولي "عدمَ تحويل البرلمان الأوروبيّ إلى منصّة للإرهابيين".
وأخيراً، فإنّ قوننة تجريم المقاطعة والمقاومة تعني تجريمَ حقّ التعبير والرأي. هذا القانون، إذا صدر، لن يطاول شخصاً، أو حزباً، أو كاتباً بعينه، بل سيطاول كلَّ مواطني الدولة أيضاً. وبعضُ الألمان، من جيل الشباب تحديداً، لا يقبلون أنْ يكون مسموحاً نقدُ إسرائيل "داخل إسرائيل" بينما يُمنعون هُم من نقدها في برلين بدعوى "عُقدة الذنْب التاريخيّة" المُصْلَتة على رقاب الألمان ومجتمعِهم، جرّاء المجازر الرهيبة التي ارتكبها نظامُ هتلر بحقّ اليهود وغيرِ اليهود في ألمانيا النازيّة إبّان الحرب العالميّة الثانية. كما لن يقبل العربُ والمسلمون في ألمانيا وخارج ألمانيا أنْ يجري تحميلُهم مسؤوليّةَ تلك المذابح التي لا دخلَ لهم فيها، بل كانوا ضحاياها غيرَ مرّة. ولا يقبل الكثيرُ من اليهود تسليعَ المحرقة النازيّة وتوظيفَها في خدمة مشروعٍ استعماري صهيوني عنصري في فلسطين المحتلّة.
إنّ مَن يشارك في التظاهرات الشعبيّة المؤيّدة لفلسطين في أوروبا يسمع هتافات ومواقف سياسيّةً من قبيل: "عاشت المقاومة وعاشت المقاطعة"، و"فلسطين ستتحرّر من النهر إلى البحر"، و"سوف يعود اللاجئون إلى ديارهم"، وغيرها. هذه الرسائل تُخيف الكيانَ الصهيونيّ، وتزيد من أزمته وقلقه وهواجسِه ليس على حاضره وحسب، بل على مُستقبله أيضاً. من هنا نقرأ محاولة الكيان المتنامية لتشويه نضال المقاومة وإسكاتِ الأصوات الثوريّة التي تبشّر بأن فلسطين، مهما طال الزمن، سَتنتصر!

* كاتب فلسطيني