هي ظاهرة يجب دراسة حالتها من حيث كون الحزب الشيوعي التشيلي منذ عام 2009 يكسر حالة التراجع في قوة الشيوعيين التي هي ظاهرة عالمية منذ أواخر السبعينيات
عكست التظاهرات التي هزت تشيلي بين كانون الأول 2019- آذار 2020 هوة الانقسام الطبقي في مجتمع جعلته السياسات الليبرالية الجديدة طوال ما يقرب من نصف قرن منقسماً اقتصادياً - اجتماعياً بين قلة ميسورة وغالبية فقيرة أو تميل فئاته الوسطى للنزول نحو التحت اقتصادياً. وقد كان العنف الذي مورس في التظاهرات من تكسير للباصات ومحطات المترو وبعض المباني العامة والمصارف انعكاساً لأوضاع اجتماعية صعبة انفجرت في تلك التظاهرات. أيضاً، ظاهرة تنامي قوة الحزب الشيوعي، وهو حزب ماركسي - لينيني متشدد ما زال على الطبعة القديمة أيام السوفيات، تعكس حدة هذا الانقسام الطبقي الذي له محمولات أيديولوجية ومحمولات ثقافية. وتلفت النظر هنا قوة الشيوعيين في الأحياء الفقيرة من سانتياغو وبين طلاب الجامعة وبين المثقفين، وهي ظاهرة يجب دراسة حالتها من حيث كون الحزب الشيوعي التشيلي منذ عام 2009 يكسر حالة التراجع في قوة الشيوعيين التي هي ظاهرة عالمية منذ أواخر السبعينيات ثم استفحلت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام1991. ويجب دراسة إن كانت هذه ظاهرة تشيلية محضة تتعلق بشروط خاصة أم أنها حالة إن توافرت لها شروط قريبة في مكان آخر يمكن أن تولد قوة للشيوعيين هناك. وبهذا الصدد فإن ظاهرة تنامي قوة الشيوعيين تلاحظ في السنوات الثلاث الماضية في السودان والهند.
من جهة أخرى، يلفت النظر أن الثالوث السياسي، الذي كان هو الأقوى في الحياة السياسية التشيلية بين الأربعينيات وانقلاب 1973، أي الحزب الديموقراطي المسيحي والحزبين الاشتراكي والشيوعي، لم يعد طرفاه الآخران غير الشيوعي في حالة نمو بل يشهدان في القرن الواحد والعشرين تراجعاً لصالح أقصى اليمين وأقصى اليسار. مع العلم أن الاشتراكيين قد انزاحوا يميناً عن أيام سلفادور أليندي الذي كان على يسار الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية، كما أن كاست، وهو والده من أصول ألمانية وكان عضواً في الحزب النازي، يمثّل الكاثوليكي المحافظ وله آراء تشبه اليمين الجديد الأوروبي.
على صعيد ثانٍ، لم يخلط الحزب الشيوعي، وهو فعلاً كان القائد الداخلي للنضال السري ضد الديكتاتورية العسكرية 1973-1989، بين النضال السياسي لإسقاط الديكتاتورية وبين النضال المطلبي. بل ركز على التناقض الرئيسي وهو إسقاط حكم بينوشيه. في المرحلة الحالية يجمع الشيوعيون النضال السياسي مع النضال المطلبي في مجتمع يشهد انقساماً طبقياً حاداً مع النضال من أجل التحديث الدستوري عبر الجمعية الدستورية المكلفة بكتابة دستور جديد.
بالخلاصة: التحول اليساري الجديد في تشيلي هو أعمق من تحول 1970 الذي أتى بسلفادور أليندي بفعل تحالف الاشتراكيين والشيوعيين مما استدعى تشجيع واشنطن للعسكر على انقلاب 1973 بكل ما عناه كمؤشر على بداية النهاية للموجة اليسارية في أميركا اللاتينية التي بدأت عام 1959 مع انتصار الثورة الكوبية. الصراع الطبقي الآن في تشيلي هو أعمق وهناك انقسام سياسي - اقتصادي - اجتماعي - ثقافي يشطر التشيليين إلى معسكرين متضادين من دون وجود لموقع الوسط.
قال غابرييل بوريك العبارة التالية بعد انتخابه: «كانت تشيلي مهد الليبرالية الجديدة وستكون مقبرتها». ولكن هل يستطيع؟ وكم سيعمق عمق المدفن؟
* كاتب سوري