ضاعف الحزب الشيوعي في تشيلي أصواته بأربع أضعاف بين عامي 2009و2021 ليصل إلى نسبة 8 في المئة من أصوات المقترعين في مجلس النواب. وفي استفتاء تشرين الأول 2020 صوّت 78 في المئة لصالح الميل اليساري نحو كتابة دستور جديد بدلاً من دستور الحكم العسكري اليميني 1973-1989. وعند انتخاب الجمعية الدستورية في أيار 2021 جاء أعضاؤها بغالبية يسارية ولكن ليس بنسبة الثلثين اللازمة أثناء إقرار مواد مشروع الدستور الجديد. وأخيراً في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بالشهر الأخير من عام 2021 فاز غابرييل بوريك المرشح اليساري بغالبية 55.87 في المئة، وهو المدعوم من الشيوعيين والخضر والفيمنست والاشتراكيين، على خوسيه كاست، مرشح «الجبهة الاجتماعية المسيحية»، وهو يمثل أقصى اليمين الذي نال 44.13 في المئة.هنا، الانتخابات الرئاسية كانت تعكس اصطفاف التشيليين في معسكرين متضادين تجابها في لحظة الانتخابات التي في جولتها الأولى ترافقت معها الانتخابات البرلمانية. معسكر اليمين معظمه، وأولهم كاست الذي كان شقيقه مستشاراً لأغوستو بينوشيه زعيم الانقلاب العسكري عام 1973، يحن لأيام الديكتاتورية العسكرية بكل ما أتت به من سياسات ليبرالية جديدة في الاقتصاد بعد أن أتى ميلتون فريدمان من جامعة شيكاغو ليكون مرشداً للجنرال أوغستو بينوشيه، ومن دستور 1980 الذي أصبح موضع تغيير تشتغل عليه الجمعية الدستورية المنتخبة. كما أنه بمعظمه معسكر للكاثوليك المحافظين الذين هم ضد تشريع حرية الإجهاض وضد تشريع زواج المثليين وضد موجات الهجرة التي تتدفق على تشيلي من فنزويلا وبوليفيا وهايتي. معسكر اليسار مع تغيير جذري لدستور 1980، وهو مع زيادة قوة قطاع الدولة في الاقتصاد وتوسيع حدوده، ومع زيادة الضرائب تصاعدياً مع الدخل، ومع الإجهاض وزواج المثليين، ومع إعطاء الحقوق للسكان الأصليين (مابوتشي ويبلغون 9 في المئة من السكان، في مجتمع ما زال معظمه أبيض ولم يختلط عرقياً مع الزنوج والهنود الحمر ليشكل مجتمعاً خلاسياً كمعظم دول أميركا اللاتينية، مثل البرازيل وفنزويلا والبيرو... إلخ)، وهو معسكر له عداء شديد للولايات المتحدة الأميركية وتأييد لتجربتي كوبا وفنزويلا.
هي ظاهرة يجب دراسة حالتها من حيث كون الحزب الشيوعي التشيلي منذ عام 2009 يكسر حالة التراجع في قوة الشيوعيين التي هي ظاهرة عالمية منذ أواخر السبعينيات


عكست التظاهرات التي هزت تشيلي بين كانون الأول 2019- آذار 2020 هوة الانقسام الطبقي في مجتمع جعلته السياسات الليبرالية الجديدة طوال ما يقرب من نصف قرن منقسماً اقتصادياً - اجتماعياً بين قلة ميسورة وغالبية فقيرة أو تميل فئاته الوسطى للنزول نحو التحت اقتصادياً. وقد كان العنف الذي مورس في التظاهرات من تكسير للباصات ومحطات المترو وبعض المباني العامة والمصارف انعكاساً لأوضاع اجتماعية صعبة انفجرت في تلك التظاهرات. أيضاً، ظاهرة تنامي قوة الحزب الشيوعي، وهو حزب ماركسي - لينيني متشدد ما زال على الطبعة القديمة أيام السوفيات، تعكس حدة هذا الانقسام الطبقي الذي له محمولات أيديولوجية ومحمولات ثقافية. وتلفت النظر هنا قوة الشيوعيين في الأحياء الفقيرة من سانتياغو وبين طلاب الجامعة وبين المثقفين، وهي ظاهرة يجب دراسة حالتها من حيث كون الحزب الشيوعي التشيلي منذ عام 2009 يكسر حالة التراجع في قوة الشيوعيين التي هي ظاهرة عالمية منذ أواخر السبعينيات ثم استفحلت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام1991. ويجب دراسة إن كانت هذه ظاهرة تشيلية محضة تتعلق بشروط خاصة أم أنها حالة إن توافرت لها شروط قريبة في مكان آخر يمكن أن تولد قوة للشيوعيين هناك. وبهذا الصدد فإن ظاهرة تنامي قوة الشيوعيين تلاحظ في السنوات الثلاث الماضية في السودان والهند.
من جهة أخرى، يلفت النظر أن الثالوث السياسي، الذي كان هو الأقوى في الحياة السياسية التشيلية بين الأربعينيات وانقلاب 1973، أي الحزب الديموقراطي المسيحي والحزبين الاشتراكي والشيوعي، لم يعد طرفاه الآخران غير الشيوعي في حالة نمو بل يشهدان في القرن الواحد والعشرين تراجعاً لصالح أقصى اليمين وأقصى اليسار. مع العلم أن الاشتراكيين قد انزاحوا يميناً عن أيام سلفادور أليندي الذي كان على يسار الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية، كما أن كاست، وهو والده من أصول ألمانية وكان عضواً في الحزب النازي، يمثّل الكاثوليكي المحافظ وله آراء تشبه اليمين الجديد الأوروبي.
على صعيد ثانٍ، لم يخلط الحزب الشيوعي، وهو فعلاً كان القائد الداخلي للنضال السري ضد الديكتاتورية العسكرية 1973-1989، بين النضال السياسي لإسقاط الديكتاتورية وبين النضال المطلبي. بل ركز على التناقض الرئيسي وهو إسقاط حكم بينوشيه. في المرحلة الحالية يجمع الشيوعيون النضال السياسي مع النضال المطلبي في مجتمع يشهد انقساماً طبقياً حاداً مع النضال من أجل التحديث الدستوري عبر الجمعية الدستورية المكلفة بكتابة دستور جديد.
بالخلاصة: التحول اليساري الجديد في تشيلي هو أعمق من تحول 1970 الذي أتى بسلفادور أليندي بفعل تحالف الاشتراكيين والشيوعيين مما استدعى تشجيع واشنطن للعسكر على انقلاب 1973 بكل ما عناه كمؤشر على بداية النهاية للموجة اليسارية في أميركا اللاتينية التي بدأت عام 1959 مع انتصار الثورة الكوبية. الصراع الطبقي الآن في تشيلي هو أعمق وهناك انقسام سياسي - اقتصادي - اجتماعي - ثقافي يشطر التشيليين إلى معسكرين متضادين من دون وجود لموقع الوسط.
قال غابرييل بوريك العبارة التالية بعد انتخابه: «كانت تشيلي مهد الليبرالية الجديدة وستكون مقبرتها». ولكن هل يستطيع؟ وكم سيعمق عمق المدفن؟
* كاتب سوري