لم يصبح الغربُ غرباً عند العرب إلّا بعد الحرب العالميّة الثانيّة. قبل ذلك، تعاطى العرب مع الفرنجة، هؤلاء الذين أتوا من خلف البحار والقفار وتعاملوا بوحشية فظيعة مع السكّان المحليّين من مختلف الطوائف. وتعامل العرب مع الغرب آنذاك من منطلق التفوّق العلمي: يكفي أن تقرأ في كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ عن الفارق بين طبّ العرب يومها وطبّ الغرب. بعد الحرب العالميّة الثانية، تبلور عند العرب مفهوم الغرب لأنّ الغرب أرادَ تسويق نفسه بديلاً لنظام عالمي (شيوعي) كان أكثر جاذبيّة لشعوب البلدان الفقيرة. الغرب كان واعياً لنفسه (بحكم العرق وعقيدة التفوّق الحضاري على أشكالها) قبل الحرب العالميّة الثانية. كتب أوزالد شبنغلر كتابه «انحدار الغرب» بعيدَ الحرب العالميّة الأولى ودرس حضارات العالم (وأدرجَ بينها الحضارة العربيّة من بين ثماني حضارات رفيعة ـــ الغريب أننا في لبنان ما زلنا بحكم تلويث المناهج من قبل أمثال سعيد عقل وفؤاد أفرام البستاني نصدّق أكذوبة الحضارة الفينيقيّة). كان شبنغلر متشائماً بسبب ظهور علائم انحدار الغرب (وهو لم يكن نازياً خلافاً لما يُكتب عنه في الثقافة الشعبيّة في الغرب والشرق إذ إنه عارض من منظور محافظ عقيدة الحزب النازي).
(نهاد علم الدين)

عرفنا الغرب في العالم العربي كما أرادَ أن يعرفَنا. لم نعرفه بوسائلنا الخاصّة. هو أنفق المليارات على بروباغندا تصل إلى كل أنحاء العالم النامي. كان يمدّ طغاتنا بالسلاح ويغذّي حروبنا، فيما هو يرمينا بالدعاية السياسيّة التي تجمّله وتجعل منه نقيض حقيقته وأفعاله. يخطئ مَن يظنّ أن البروباغندا الأميركيّة لم تكن ناجحة في العالم العربي. الغرب المُختَرع بعد الحرب العالميّة الثانية كان نقيضاً قويّاً لنظام شيوعي عالمي مُفبرَك. نحن لم نعرف المنظومة الشيوعيّة كما أرادت هي أن نعرفها، بل عرفناها كما أرادَ لنا الغرب أن نعرفها. لم يتغيّر نظام الهيمنة العالمي. لا تزال ترى كيف أن الفبركات عن كوريا الشمالية من قبل مخابرات عدوّتها كوريا الجنوبيّة تصل إلى الإعلام العربي وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي من دون تدقيق أو تشكيك. النظام الكوري الشمالي ليس جميلاً بالضرورة لكنّ الاستبداد فيه ليس أكثر من استبداد محمد بن زايد ومحمد بن سلمان. لكنّ الشباب اللبناني الـ«كول» يريد أن يتغرّب عبر استبطان كل ما يصله من إعلام الغرب المتوفِّر بكثرة في عصر الإنترنت. لنقلع عن الإيمان الغربي بـ«سوق الأفكار» الحرّ في لبنان ما قبل الحرب. لم تكن صحافتنا حرّة على الإطلاق. ولم تكن حتى سوقاً للسفارات على أنواعها كما يتصوّرها الكلام الكليشيه النزعة من شارل حلو لنقابة الصحافة عندما رحّب بهم في وطنهم الثاني لبنان. صحافتنا كانت مُشتراة بأكثرها من دول الغرب والخليج وقلّة قليلة كانت تتلقّى تمويلاً من سفارات عربيّة غير خليجية (قبل 1970) كما أن النظام المصري كان يقدّم مواعين ورق وتمويلاً زهيداً لبعض الصحف (راجع مقالة هامة لصقر أبو فخر بعنوان «عبد الناصر وشغف الكلمات»). «النهار» و«الحياة» والكثير من صحف المرحلة كانت أبواقاً لأنظمة الخليج ودول الغرب التي كانت تدفع للصحف في حربها غير الباردة ضد الشيوعيّة. و«الأنوار» كانت تقبض من الخليج وتوالي عبد الناصر (حتى وفاته) فيما كانت تنشر لمعارضيه (مثل الأخويْن أمين). ناشرو صحف لبنان لم يكونوا من أصحاب الولاء الواحد الأحد قط.
الذي نشأ على «النهار» (وكانت النافذة والسائدة بالرغم من منافسة من عدد من الصحف) أو على «الحوادث» (النافذة والسائدة والمتعدّدة مصادر القبض) يكون قد نشأ على دعاية صفيقة ضد اليسار والشيوعيّة. كانت «النهار» منذ الستينيّات دائمة السخرية من كمال جنبلاط وكان الأخير دائم الإشادة بغسان تويني ويتعامل مع جريدته بإعجاب. قارن اليوم بالأمس: كم من الصحافة في لبنان (بما فيها «الإعلام الجديد» الذي تموِّله حكومات أميركا وأوروبا والخليج وجورج سوروس) يتخصّص في ذم جهة واحدة فقط، وهي الجهة نفسها التي تزعج وتعادي إسرائيل. والحركة الصهيونيّة كانت تنشر مقالات بالقطعة في صحف لبنان منذ الثلاثينيّات من القرن الماضي (وكانت تنشر حتى في صحف لبنان في المهاجر). أميركا نشرت مقالات صادرة من البنتاغون في الصحف العربيّة («الحياة» و«الشرق الأوسط») عند التحضير لغزو العراق (لزّمت وزارة الدفاع الأميركيّة شركة «مجموعة لينكلن» كي تنشر مقالات مُترجمة عن الإنكليزيّة من قبل مكتب دعاية أميركي لتحسين صورة الحرب والعدوان الأميركي. تستطيع أن تتخيّل حجم العقود التي وقّعها البنتاغون آنذاك مع «النهار» أو مع «إل. بي. سي.». أذكر عنواناً في جريدة «النهار» بعد الغزو في عام 2003 وهو يقول: مقتل 80 بعثياً. تماماً كما أن «المرصد السوري» المموّل من الغرب يعنون عن مقتل 40 «موالياً لإيران» في سوريا). الصورة العربيّة للغرب ليست صورة عربيّة. هذا ما عناه إدوار سعيد في آخر قسم من كتاب «الاستشراق» عندما تأسّف لعدم وجود مركز عربي واحد لدراسة الغرب في جامعة عربيّة. لكنّ الوليد بن طلال موّل مركزيْن في الجامعة الأميركيّة في بيروت وفي الجامعة الأميركيّة في القاهرة. لكنّ المركزيْن ليسا عربيّيْن: ليس بحكم الوجهة الغربيّة للجامعتيْن أو التمويل السعودي الموالي لحكومات الغرب للمركزيْن، بل لأن الجامعتيْن تنصاعان لمشيئة الحكومة الأميركيّة. الأكاديمي الفلسطيني، ستيفن سلايطة، كان أستاذاً ناجحاً في الجامعة الأميركيّة في بيروت وهو خبير الأقلّيات المضطهدة والعنصريّة في أميركا. لكن عندما اقترحت لجنة أكاديميّة توقيع عقد معه، رفض فضلو خوري بمجرّد أن تلقّى اتصالاً من عضو مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية إلينوي، ديك دوربان. وكان سلايطة قد تعرّض لحملة ظالمة بسبب تغريدات أدّت إلى فصله من عمله الجامعي في ولاية إلينوي (هو يقود باصاً مدرسيّاً في العاصمة واشنطن هذه الأيّام، بسبب فضلو خوري).
فازت أميركا في الحرب الباردة بالبروباغندا أكثر ممّا فازت بالمواجهة العسكريّة التي أرادتها بالواسطة في كل أنحاء العالم النامي حيث أشعلت قلاقل وحروباً أهليّة ونزاعات (في دول كثيرة بما فيها لبنان). صوّر الغرب نفسَه صنواً للحرّية فيما كان هو يقمع المعارضة ضمن حدوده وحول العالم. الشيوعيّة كانت صوراً رماديّة، وكانت صور رفوف فارغة في المخازن الكبرى في موسكو مناسبة للاحتفال والابتهاج ونشر الصور في الصحافة العربيّة المُطيعة (مثل «النهار» وغيرها). ولأنني عاصرتُ بروباغندا أميركا أمس واليوم، أرى نمط الدعاية السياسيّة نفسه ضد الاتحاد السوفياتي في الدعاية السياسيّة الغربيّة والخليجيّة ضد إيران. لا تجد في صحافة الغرب أو الخليج صوراً جميلة لطهران. لا ترى إلا صوراً قاتمة ورماديّة ومن دون ناطحات سحاب (من يعلم أن هناك أبنية شاهقة وأبراجاً في طهران؟) وصحافة الخليج بعد أيلول، باتت تقتفي توجّهات إعلام الغرب بحذافيرها مخافة إقلاق راحة صانعي القرار في واشنطن.
الغرب ابتعد كثيراً عن الصورة المثاليّة التي رسمها لنفسه ووزّعها حول العالم ولم يعد باستطاعته أن يروِّج لنفسه من خلال ذمّ الخصم السوفياتي


لم يرد الغرب لنا أن نراه كما هو. رأينا صورة تجميليّة عنه مقابل صور تقبيح للمنظومة الشيوعيّة. الغرب وضع مثالَه النظري مقابل الواقع غير المثالي للشيوعيّة. فأصبحت الحرّية نفسها في تضادّ مع الشيوعيّة. والعقول الشابة تنقاد وراء كلمة حريّة أكثر من كلمة مساواة وثورة وعدل اجتماعي وثورة (في لبنان تجذبهم كلمة ثورة فقط عندما تكون تعني نقيض الثورة الحقّة). تخيّل أن الكتاب المُعتمد في الخمسينيّات عن الشيوعيّة في المدارس كان من وضع جي إدغر هوفر (المؤسّس الفاشي لمكتب التحقيقات الفيدرالي)، بعنوان «أسياد الخداع» (ويحتوي غلاف الكتاب على مسابقة مدرسيّة لسبر أغوار الشيوعيّة التي كانت لا تقبل إلا «بتركيع أميركا»، حسب العنوان الفرعي للكتاب). الفاشي هوفر (الكاره للسود والنساء والأقلّيات واليسار) يريدنا أن نراه رمزاً للحرّية. أميركا كانت تعيّر الاتحاد السوفياتي بسبب غياب الحرّية فيما كانت تشنّ حملات تطهير في المجتمع والدولة ضد أي شخص يُقال إنه شيوعي الهوى، أو الذين يرفضون أن يعملوا مخبرين دسّاسين ضد رفاقهم في الحركات اليساريّة. كانت الحكومة تقمع حركات الحقوق المدنيّة للسود وتعظ الاتحاد السوفياتي عن المساواة والحريّة. كانت أميركا تنصّب طغاة وحوشاً ضد المسلمين والعرب فيما كانت تتصنّع الاهتمام بوضع المسلمين في الاتحاد السوفياتي (تماماً كما تفعل اليوم في وضع المسلمين في الصين). الغرب جعل من مثاليات الأدبيّات اليوتوبيّة موضوع مضامين البروباغندا الغربيّة الموجّه لنا. ولم يسمح بأي تصوير حقيقي منصف للاتحاد السوفياتي. هم يفعلون الشيء نفسه في تغطيتهم المحمومة والمجنونة للصين.
لكنّ الغرب في أزمة حقيقيّة. لم يعد الغرب غرباً، أي أن الغرب ابتعد كثيراً عن الصورة المثاليّة التي رسمها لنفسه ووزّعها حول العالم. ولم يعد بمستطاعه أن يروِّج لنفسه من خلال ذمّ الخصم السوفياتي. لا يستطيع أن يقول إنه هو الرفاهية وإن الآخر الخصم هو الفقر والعوز. رفوف المخازن باتت فارغة هنا في كاليفورنيا التي كانت عنوان الرفاهية الأميركيّة في الحرب الباردة. وعندما وضعتُ على «تويتر» أخيراً صوراً أخذتها بنفسي للرفوف شكّك بعض اللبنانيّين على المواقع لأن الصورة تختلف عمّا تلقّنوه. أنا أذكر في سنوات الصبا أن السياسيّين التقدّميّين في بلادنا كانوا عندما ينتقدون سياسات أميركا نحو الشرق الأوسط يقولون: لو أن السياسة الخارجيّة لأميركا تقتفي آثار سياساتها الداخليّة الديموقراطيّة. عند هؤلاء المشكلة فقط في أن سياسات أميركا نحو الشرق الأوسط لا تعكس توجّها ديموقراطيّاً. المنظومة الاشتراكية زالت وليس هناك من مجال لممارسة خدعة بروباغندا الحرب الباردة. الغرب بات على حقيقته ولا تجميل يمكن أن يجمِّله.

أميركا (مُشعلة الحروب في معظم أنحاء الكرة الأرضيّة) تسمح لنفسها بتصوير الصين وروسيا على أنهما دولتان عدوانيّتان تُقلقان راحة السلام والأمن العالميَّيْن


حتى شخصيّات الغرب لم تعد مثل تلك التي كان يسهل عبادتها من عُبّاد الغرب في بلادنا. جاك شيراك فاسد يسيطر عليه رفيق الحريري كما يسيطر على رياض سلامة ونوّاب كتلته وكتلة جنبلاط. ساركوزي فاسد هو الآخر ويزيد في فساد الغرب أن الفاسد عندما يعلو في المرتبة لا يمكن سجنه (وهذا صحيح في إسرائيل حيث تستمرّ مسرحيّة محاكمة نتنياهو لسنوات طويلة وهو مرّة خرج من المحكمة لأن كلام القاضي أزعجه. يصعب اليوم على ليبراليّي الصهيونية بينكم وعظنا عن ضرورة احتذاء مثال العدوّ). ترامب وجونسون في بريطانيا هما وجه الغرب الحقيقي لا المزيّف. الذين حكموا قبلهما كانوا يلعبون دوراً مسرحيّاً مُخرجاً بعناية من شركات علاقة عامّة ودعاية سياسيّة. تشرشل كان عنصريّاً مَقيتاً لكنه كان أديباً ويعرف كيف يبدو رجل دولة في الصور. جون كنيدي كان أقرب إلى الممثل السينمائي بالرغم من أنه كان متعلّماً وملمّاً بمواضيع السياسة. لم تكفِ صورة نيكسون وهو يخرق الدستور لتهزّ صورة أميركا. بقيت الصورة مثاليّة في إعلام العرب النافذ. أميركا اليوم على حافة الحرب الأهليّة وفريقا النزاع لم يعودا يؤمنان بعدالة اللعبة الانتخابيّة: الحزب الديموقراطي يلوم مؤامرة روسيّة على فشله فيما يلوم ترامب التزوير لتسويغ فشله. أشخاص الغرب ليسوا تاريخيّين بالمعنى الفوتوجينيكي للكلمة. لم يعد الغرب قادراً على إنتاج شخصيّات تبهر في البروباغندا الغربيّة. كيف تسوِّق لأميركا شخصياتٌ مثل ترامب أو بوش أو بايدن أو جونسون أو ساركوزي...
كانت الدول الإسكندنافية مثلاً مثالاً لديموقراطيّة اشتراكيّة. تلك الدول تغيّرت عمّا كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية. الأحزاب الليبراليّة بالكاد تحافظ على مواقعها واليمين العنصري الجديد يبرز في الاقتراع وفي الاستطلاعات. الدول التي اشتهرت بضيافة المهاجرين باتت فظّة وعنصريّة وترفض قبول المضطهدين واللاجئين. فرنسا التي كانت تعتمد على استغلال شعارات الثورة الفرنسيّة للترويج لنفسها باتت تشهد منافسات بين كل الأحزاب لنيل تأييد البيض العنصريّين. الكثير من أحزاب اليمين وبعض الوسط وحتى اليسار باتت مجاهرة بالعنصريّة ضد المسلمين والعرب. هذا الوجه الحقيقي للغرب لم يكن له مكان في بروباغندا الغرب في الحرب الباردة. والطريف أن أجهزة دعاية الحكومة الأميركيّة مثل «الحرّة» أو «صوت أميركا» لا تزال تستعمل شعارات الحرّية فيما تستمرّ أميركا في تسليح وتدعيم أنظمة الطغيان في كل العالم العربي. تكاد محطة «الحرّة» لا تختلف في التغطية عن إعلام الخليج، وإعلام الغرب يعتمد على مضامين إعلام طغاة الخليج لأن العدوّ واحد (إيران والمقاومات ضدّ إسرائيل).
كان الغرب عنوان النقيض النظري للشرق: الشرق هو الدين والخرافات فيما الغرب هو العلم والحقائق. أظهر طاعون الكورونا أن الغرب ليس العلم وأننا لسنا عكسهم في الإيمان بالخرافات. العلم والطب الحديث هما مدار جدل في الغرب. هناك قطاع عريض من السكّان هنا ممن يظنّ أن العلم ليس إلا مؤامرة ليبراليّة. ونظريات المؤامرة الغبيّة عن اللقاحات، أو أن بيل غيتس اجترحها من أجل أن يضع رقاقات صغيرة في أجسادنا كي ترصدها الحكومة، انطلقت من أميركا لا من جب جنّين. ومؤسّسة «بيو» (صاحبة أشمل وأدقّ استطلاعات رأي ــــ في أميركا لأن استطلاعاتها العالميّة تُلزَّم لشركات محلّية ويشوبها الكثير من التشويه وحتّى الفساد) تقول إن ربع الأميركيّين لا يثقون بالعلم. نحو ثلث السكّان يرفضون اللقاح هنا. وتوقّعات ماكس فيبر (الذي طالب في زمانه بنزع سلاح حزب الله لأن ذلك يتناقض مع تعريفه للدولة واحتكارها للعنف المشروع) عن نمو العلمانيّة في المجتمعات الغربيّة لم تصحّ. لا يزال الدين عنصراً مؤثراً هنا ودور الدين السياسي يتعاظم في السياسة الأميركيّة ــــ وأوروبا الشرقيّة التي «تحرّرت» تنحو نحو اللاعقلانيّة. والإعلام الاستشراقي الغربي كان يعظنا حول ضرورة العلمانيّة تحت باب التطوّر الطبيعي للمجتمعات (رونالد إنجلهارت الذي كرّس عمله لسنوات لدراسة أهواء الناس في دول مختلفة من العالم كان يقول إن أميركا أقرب إلى دول العالم النامي في التمسّك بالدين ـــــ انظر كتابه الضخم «قيم إنسانيّة»). وحتى بديهيّات العلم مثل نظريّة النشوء والارتقاء باتت عرضة للمجادلة هنا. هناك الكثير من مجالس التربية في أنحاء مختلفة من الولايات هنا التي تفرض مقابلة نظريّة داروين بنظرة الإنجيل في «سفر التكوين» في المدارس. ليس من إجماع علمي، أو إجماع على صحّة نتائج البحث العلمي خصوصاً إذا كان ذلك يخدش الإيمان العميق بخرافات الدين.
والغرب الذي كان يعظنا بضرورة التسامح وحبّ الآخر (والغرب لم يكن يعني من حثّنا على التسامح وحبّ الآخر إلا قبول إسرائيل ودمجها في عالمنا العربي ونسيان شعب فلسطين. وطغاة الخليج حوّلوا من ضخّ كراهية مَقيتة ضد اليهود واليهوديّة إلى اعتناق شعارات الغرب عن قبول الآخر لإعلان التحالف مع إسرائيل. وهؤلاء لا يقبلون أبناء وبنات طوائف إسلاميّة فيما يترجمون شعار قبول الآخر بالتطبيع مع إسرائيل) بات أوّل كاره وقامع للآخر. فرنسا تعظنا عن قبول الآخر؟ فرنسا تعظنا عن المحبّة والتسامح؟ فرنسا هي عاصمة كراهية العرب والمسلمين في العالم. الخطاب السياسي الفرنسي الحالي عن المسلمين لم أرَ مثيلاً له في سنوات في أميركا، مع أن أميركا هي طبعاً دولة عنصريّة يكنّ الكثير من سكّانها ومن ممثليها السياسيّين كراهية شديدة للعرب والمسلمين. سويسرا تسنّ قانوناً ضد المنقّبات في بلد ليس فيه إلا نحو 30 منقّبة، وسويسرا منعت بناء المآذن في بلد ليس فيه إلا أربع مآذن. الغرب الحالي الحقيقي لا يتطابق مع الغرب المُتخيّل الذي صدّر لنا صورته الغربُ الاستعماري لإبعادنا عن اليساريّة والشيوعيّة. إن صعود اليمين العنصري الإسلاموفوبي المعادي في الكثير من الأحيان للعلمانيّة وللمساواة مع المرأة وحقوق المثليّين هو تظهير للغرب بعد أن أسفر البيض (أو أكثريّة منهم) عن الوجه الحقيقي لاستمرار عقيدة التفوّق الأبيض. الغرب يعيش تمرّد قطاع كبير من البيض ضد كل قيم المساواة والتسامح. الليبرالية الغربيّة مزيّفة تماماً مثل الليبراليّة العربية.
والغرب صوّرَ كل أعدائه على أنهم عدائيّون ينشدون الحروب والعنف. وحوّل الغرب الإرهاب إلى تهمة يلصقها بكل من يعارض ويقاوم احتلاله وعدوانه على أنه إرهابي. كلّهم ابن لادن لو سوّلت لهم أنفسهم معاداة الغرب وحروبه. والغرب الذي كان يعظنا بضرورة نبذ العنف هو المصدر الأساس للعنف حول العالم. لكنّ أميركا (مُشعلة الحروب في معظم أنحاء الكرة الأرضيّة) تسمح لنفسها بتصوير الصين وروسيا على أنهما دولتان عدوانيّتان تقلقان راحة السلام والأمن العالمييْن.
لا يزال للغرب دعاته ومريدوه بيننا. وهؤلاء (بالأجرة أو بالانخداع) يتحدّثون عن غرب لا وجود له. غربه غرب الكتب المدرسيّة المُستوردة التي تأتينا هبات من سفارات الغرب. هذا الغرب هو الغرب الذي يقدّمه لنا إعلام طغاة الخليج لأن إعلام العرب بات يخضع ـــــ كما المناهج الدراسيّة ـــــ إلى رقابة وتمحيص من منظّمات صهيونيّة في واشنطن من أجل تنقيته من أي شوائب أو عواطف نحو أعداء إسرائيل وحروب الغرب. الغرب يتغيّر فيما نحن ننشدّ أكثر نحوه، ليس طوعاً وإنما بحكم ربط العالم العربي (المُنقاد من قبل النظاميْن السعودي والإماراتي) بالغرب وحروبه. النظام الإماراتي تطوّع لإرسال جنوده لمحاربة الشعب الأفغاني لإثبات الولاء للجيش الأميركي. واليوم الذي سيرسل فيه محمد بن زايد ومحمد بن راشد جيشهما لإثبات الولاء للجيش الإسرائيلي في حروبه ضدنا ليس بعيداً. لكنّ الغرب في ورطة لأنه يصعبُ عليه المواءمة بين صورته كما تبدو لنا من نشرات أخباره وبين مضمون البروباغندا الغربيّة عن الغرب على مدى عقود مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن ليس هناك عند الغرب من مشكلة لا يقترح حلّها بقصف أو حرب أو بسلسلة عقوبات لتجويع الشعب المُعترض.
* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر asadabukhalil@