يُفتتح اليوم المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي اللبناني. تجري أعماله على مرحلتين موزعتين، بالتساوي، على أربعة أيام، بين نهايتَي الأسبوع الحالي والقادم. فترة تحضير وتوقيت المؤتمر غير ملائمين لأسباب عامة صحية ومناخية وسياسية (الانتخابات النيابية). لكن الأهم هو ما يعانيه الكثير من المنظمات والهيئات الحزبية من تعثُر وصعوبات، ما فرض إيقاعاً متثاقلاً على عملية التحضير: لجهة تدنّي نسبة الحضور وضآلة المساهمة في النقاش... ما سيقود، حتماً، إلى تغليب الشأن الانتخابي على ما سواه.
يقع المؤتمر، أيضاً، في سياق أزمة مستمرة في الحزب (وسواه من الأحزاب الشيوعية)، والتي برزت، خصوصاً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته، وبعد الحرب الأهلية ونتائجها. المراجعة الشاملة المهمة التي باشرها «المؤتمر السادس» (1992)، إثر الانهيار السوفياتي وتوقف الحرب الأهلية، اصطدمت بعاملَي التخلّي، من جهة، والتشدد والجمود، من جهة ثانية... هذه الأُمور القديمة والجديدة وما نجم عنها من فشل ومراوحة، كانت تتطلب في هذا المؤتمر وما سبقه، مقاربات مختلفه، عميقة وشاملة، ترتقي، بالضرورة، إلى مستوى إعادة تأسيس متكاملة للمشروع: ركائز التعاقد فيه، بنيته الفكرية والسياسية والتنظيمية، برنامجه المرحلي والعام... كل ذلك استناداً إلى الإحاطة بالمتغيّرات الهائلة على مستوى العالم، بعد تحوُّل الولايات المتحدة الأميركية إلى قوة عالمية، وحيدة مهيمنة وساعية، بكل الوسائل، بما فيها الغزو المسلح والاحتلال، للتوسع وللاستئثار والنهب. في نطاق ذلك، بات الشرق الأوسط، عموماً، والمنطقة العربية خصوصاً، ساحة محورية لاختبار التوجهات والمغامرات والمشاريع والأساليب العدوانية الأميركية الجديدة، ما أكد، تكراراً، الطابع التحرري للصراع وللنضال: دفاعاً عن مصالح شعوب المنطقة، وعن استقلالها، وعن ثرواتها، وعن حقها بالحرّية والتنمية وتقرير المصير... في مواجهة العدوانية الاستعمارية والصهيونية وتابعيهما من السلطات المحلية. بعدما تعثّرت وفشلت عمليات الاحتلال والغزو في العراق وأفغانستان، تختبر واشنطن، منذ أكثر من عقد، «القوة الناعمة» المستندة إلى إثارة التناقضات الداخلية والحصار والعقوبات. ففي نطاق «الثورات الملونة» التي شجّعتها وتوسّلتها، لجأت واشنطن في العقد المنصرم، على نطاق واسع، إلى استخدام تقنيّات اليسار وأساليبه: «التحرّكات الشعبية والانتفاضات»، حرب العصابات المسلحة («داعش» ومنظمات إرهابية أُخرى). في مجرى ذلك، هي استطاعت احتواء كل الانتفاضات العربية، والتمكّن من إدراج معظم نتائجها في مشروعها المشترك مع العدو الصهيوني في المنطقة. حمل هذا المشروع اسم «الشرق الأوسط الجديد» (الرئيس بوش الابن)، و«محاربة الإرهاب» (الرئيس أوباما)، و«صفقة القرن» (الرئيس ترامب). لبنان هو حلقته الراهنة بعد السودان، حيث تستغل واشنطن، عبر تدخل شامل ومباشر أكبر عملية نهب وفساد وفشل طاحنة تعرّض لها الشعب اللبناني من قبل منظومة طالما كانت، ولا تزال، شديدة الارتباط بالسياسات الأميركية! هدف واشنطن، طبعاً، ليس حل الأزمة اللبنانية ولا محاسبة المسؤولين المباشرين الفعليين عنها، بل استهداف المقاومة ضد العدو الصهيوني بعد الفشل في تصفيتها في الحرب الأميركية الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006.
أشرنا في المقدمة إلى عدم ملاءمة التوقيت وإلى وهن التحضير. أشرنا أيضاً، إلى الطابع التقليدي التكراري لصيغ مؤتمرية تستمر وكأن زلزالاً كبيراً لم يحدث في هذا العالم. لكن الأسوأ، في الواقع، هو العودة إلى الوراء في عدد من المسائل الأساسية. هذا مسار بدأ بعد المؤتمر التاسع بداية عام 2004. كان الحزب قد تمكّن بين عامَي 1964 و1968 من إنجاز عملية تغيير جذرية وشاملة متجاوزاً النهج البكداشي الستاليني المهيمن في الحزب الشيوعي الموحّد في لبنان وسوريا. استند التغيير المذكور إلى مراجعة عميقة أفضت إلى إعادة بناء هياكل الحزب، بالانتخاب، بشكل شرعي ومتجدّد، وإلى إقرار برنامج ذي مرحلتين، قريبة وبعيدة، للتغيير الثوري في لبنان. الأهم كان المصالحة مع التيار القومي التحرّري، وفق منهج جدلي وشامل للصراع الطبقي على المستوى الداخلي والإقليمي والخارجي.
يحضر جزء من هذا النهج في مشروع الوثيقة الفكرية السياسية المقدّمة للمؤتمر الحالي، لكنه يغيب، غالباً، في المواقف والممارسة التي تركّز على البعد الداخلي

أثمر ذلك انخراطاً كاملاً في الصراع وحضوراً عاصفاً في المشهد اللبناني والعربي، ومشاركة طليعية في معركة المقاومة والتحرير من الاحتلال الصهيوني عام 1982. يحضر جزء من هذا النهج في مشروع الوثيقة الفكرية السياسية المقدّمة للمؤتمر الحالي، لكنه يغيب، غالباً، وإلى حد كبير، بل إلى حد مقلق، في المواقف والممارسة السياسية التي تركّز على البعد الداخلي وتُغيّب البعد الخارجي الذي تقوده واشنطن بشكل كامل وشامل وسافر ووقح: اقتصادياً ومالياً وإعلامياً وأمنياً ودبلوماسياً، من مسألة المفاوضات البحرية إلى تركيب اللوائح الانتخابية... والهدف الأميركي هو إعفاء أرباب النظام وعتاة المنظومة من مسؤولية النهب والسرقة والسطو على موارد البلاد ومدّخرات المواطنين، وإلقاء المسؤولية على الطرف الأقل مساهمة وحضوراً في حقل الإدارة والمال والتحاصص (رغم الكثير من المآخذ عليه)، للنيل من دوره المميّز في مقاومة العدو الصهيوني وفي بناء معادلة ردع وتوازن غير مسبوقة في كل ساحات الصراع معه!
ينبغي إضافة أن ثمّة استهدافاً بارزاً لتحييد، أو حتى لتجنيد، جزء من اليسار في الحملة الأميركية. ويندفع بعض من اليساريين ممّن التحقوا سابقاً بفريق 14 آذار، ولأسباب متنوعة، للالتحاق بالخطة الأميركية. يحاول هذا البعض توظيف جزء من رصيد «جبهة المقاومة الوطنية» في خدمة هذه الخطة! أمّا الموقف الصحيح فيتمثّل، في هذه المرحلة، بمواجهة تلك الخطة الأميركية في لبنان، من جهة، وبمواجهة إجرام منظومة النهب والإفقار والفشل، من جهة ثانية. هذا الأمر كان ولا يزال يملي بناء تيار وطني مستقل يحجز مكاناً فاعلاً في المشهد السياسي الصاخب والخطير الراهن. وحده اليسار الحقيقي قادر على القيام بهذه المهمة التي تستأنف إنجازاته التاريخية وتسدّ فراغاً كبيراً يحتاج إليه الشعب اللبناني المهدد بمزيد من الخسائر والكوارث والأزمات والمآسي.
أليس أن هذه المهمّة الوطنية هي ما ينبغي أن يشكّل الهدف الأساسي للنضال، ولعقد المؤتمرات، وللمشاركة في الانتخابات وإقامة التحالفات، وللانخراط في الصراع الدائر بشكل عام؟!
* كاتب وسياسي لبناني