خلال العقود الأخيرة، خصوصاً بعد أوسلو، بدأت «سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية المؤقتة»، الناجمة عن هذه الاتفاقيات، بتنظيم المؤسسات الحكومية على وهم أن هذه المؤسسات ستتولى في المستقبل زمام الأمور في دويلة تتربّع على رأسها الشريحة المتنفذة. تلك التي ارتبطت مصالحها مع العدو الصهيوني، وحسمت خياراتها السياسية إلى جانبه. ومع مرور الوقت، انكشف جوهر البرنامج الصهيوني أكثر فأكثر لجماهير شعبنا، التي خُدِعت بالخطابات الأوسلوية ووعودها الرنانة الكاذبة، وبدأت شكوكها بطرح حل الدولتين التسووي يتضاعف. هذا الطرح الذي لم يكن حلاً منذ البداية، بل كان تضليلاً تحت عنوان «الحل المرحلي» الذي تبنته «م ت ف» (منظمة التحرير الفلسطينية) عام 1974، وتنازلت به عن برنامج التحرير الكامل. كما كان بذات الوقت تخديراً وإيهاماً لشعبنا الفلسطيني بأنه قد لاحت في الأفق إمكانية حقيقية لتحصيل «دولة فلسطينية مستقلة». لم يكن أبداً في ذهن الحركة الصهيونية ولا في عقيدتها وبرامجها وتخطيطها، وتحت أي ظرف، إعطاء الشعب الفلسطيني ذرة من حقوقه الوطنية والقانونية والطبيعية. وبهذا أتاح طرح «حل الدولتين» وقتاً إضافياً وفرصة لاستكمال نهب أرضنا الفلسطينية، وتطويع شعبنا وطرده، وشطب قضيتنا الوطنية العادلة وتصفيتها. وبما أن هذا الحل قد بات يلفظ أنفاسه الأخيرة، فإن المسارات والبدائل السياسية والتنظيمية باتت تنبت على السطح السياسي الفلسطيني كالفطر، تتحيّن الفرصة لملء الفراغ السياسي الناجم.
حتى الآن، لم يتمتع أي من هذه المسارات والبدائل التي بدأت تطفو في أوساط الأطراف السياسية الفاعلة في معارضتها لمسار أوسلو ـــــ من اليسار وحتى من اليمين ـــــ بالتأييد الشعبي أو النخبوي الكافي لإعطائها قوة دفع أو أرضية كافية تبشّر بأن تصبح بديلاً ممكناً لواقع الحال. ومن الواضح أن القضية الفلسطينية تعيش اليوم مخاضاً صعباً لولادة بديل سياسي للواقع الحالي. هذه المسارات والبدائل التي تعبر عن طموحات سياسية متنوعة، منها ما يعبر عن إرهاصات لحركة التحرر الوطني الفلسطيني الثورية المستقبلية. إن كان على مستوى الحِراكات والتحالفات والتشكلات لدى فصائل «م ت ف» وغزة، أو على مستوى رؤى جديدة تتشكل، أو امتداد لأفكار قديمة حية تتمسك بالثوابت وتتوالد بصيغ ثورية جديدة. وفي الوقت نفسه هناك طروحات بديلة مريبة تهدف إلى تقديم المزيد من التنازلات والانخراط في مشاريع تصفوية أكبر.
نحن في «تيار فلسطين الحرة الديموقراطية» لنا رؤيتنا وتوجهنا المتمركزين حول مفاهيم التحرير والعودة والمقاومة. ونستوعب الفرق بين قوى وفصائل «م ت ف»، بين النهج المستسلم، نهج أوسلو، والنهج الذي لم تكن لديه قدرة للتخلص من عقدة أوسلو. ونحن نتعامل مع الطرفين بشكل مختلف. الطرف الأول المستسلم، المعبر عن مصالح الشريحة السياسية والكمبرادورية الساقطة، الذي يقود «سلطة الحكم الذاتي المؤقتة»، ويتحكم بحركة «فتح»، يستوجب محاربته وهزيمته وإقصاءه عن السيطرة على مقدرات وقرارات الشعب الفلسطيني وحركة «فتح» وعموم القضية الوطنية، لأنه سقط بشكل تام في براثن الأعداء.
أما النهج الثوري الجذري، المتمثل باليسار والقوى التي لا تزال متمسكة بكل أشكال المقاومة بما فيها الكفاح المسلح لتحرير كل فلسطين، الذي أنهكه النضال وتراجع إلى الوراء نتيجة الهجمة الشرسة التي تعرض لها من الأعداء الخارجيين والداخليين، وعجز عن مواجهة النهج المستسلم المنصاع وهزيمته، ولكنه لا يزال ينبض، مستمر بالنضال والمقاومة، يعمل على تضميد جراحه والنهوض من كبوته، فإننا نقف بجانبه، نعمل على مساعدته للملمة قواه، وعلى التئام جراحه واستعادة عافيته، ليقوم بدوره التاريخي في قيادة عملية التحرير، لذا نحاوره ونناقشه ونحثه وننتقده في أخطائه، وندعمه في مواقفه الوطنية السديدة، لأننا في المحصلة في الخندق نفسه.
إن ضعف القوى اليسارية الثورية الجذرية أسهم بشكل كبير في دفع شعبنا إلى المزيد من خيبة الأمل. وقد رسم حالة من عدم الثقة بين أوساط الجماهير بهذه الفصائل التي تخلفت في برامجها، وأظهرت عدم قدرة على استخدام أدوات نضالية عملية للخروج من مستنقع أوسلو، رغم الشعارات الرنانة والجمل الثورية. فما بين النهج المستسلم وتراجع القوى الجذرية، نتج فراغ سياسي أدى إلى ظهور قوى واتجاهات ومسارات وبدع عديدة متنوعة من أجل ملئه وتعبئته. ونحن في التيار نرى أنه من واجبنا أن نناقش ونحاور ونقيّم فكر وأصحاب هذه المسارات والتوجهات السياسية المطروحة. بحيث نقوم بدراستها وسبر أغوارها وحقيقة جوهرها، مقارنة بما نراه ونفكر به ونعتقده في مسارنا. ذلك حتى لا نقع في أخطائنا السابقة نفسها التي أوصلتنا إلى أوسلو وما بعدها من كوارث بسبب عدم النقد والحوار والتقييم. خوض هذا الصراع الفكري ضروري لتطور أي حركة تحرر وطني تريد أن تأتلف في جبهة وطنية عريضة. كما أننا نحاول من خلال هذا النهج، وبالتعاون مع كل الشرفاء الوطنيين، منع الظواهر الانتهازية من النجاح، ووضع العراقيل أمامها لإفشالها في تثبيت أقدامها في أي فضاء فلسطيني قدر المستطاع.
نحن نعتبر أي فكر أو توجه سياسي يطرح نفسه كمسار فلسطيني وطني، إن كان موالياً للمسار السياسي الفلسطيني الحالي أو بديلاً عنه، عليه أن يخضع للمساءلة والتمحيص والنقاش والحوار، بكل جوانبه السياسية والتنظيمية والفكرية والقيادية، وبرامجه المطروحة بكل صراحة وشفافية وعمق. لأنه عند لحظة طرح أي برنامج سياسي على الجماهير يصبح هذا البرنامج ملكاً وطنياً عاماً. وقد ارتأينا أن نبدأ هذه المسيرة النقدية في تقييم برنامج وطرح ما يسمى بـ«المسار الثوري البديل»، الذي أعلن عن عقد مؤتمراته في مدريد وبيروت وسان باولو. ومن ثم نتطرق في المستقبل إلى المسارات والمحاولات الأخرى المطروحة في الساحة الفلسطينية كل على حدة لإغناء الحوار.
سنتناول بالنقاش طرح «المسار الثوري البديل» اعتماداً على الوثائق والندوات والمقابلات التي قدمها قبل عقد مؤتمره الأول وتلك التي صدرت عن المؤتمر وما بعده.
يقدم «المسار الثوري البديل» نفسه على أنه مسار فلسطيني وطني ثوري جذري بديل عن المسار السياسي الفلسطيني الحالي بكل أطيافه، وفصائله، وتركيباته التنظيمية، والنظرية. كما يعتبر «المسار» أن «م ت ف» قد باتت بالية، ولا تمثل ببنيتها وبرامجها الحالية الشعب الفلسطيني. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التقييم سيكون متناسباً مع مستوى الطرح الذي أصدره هذا المسار في كتاباته ومقابلاته ومؤتمراته.
سنعتمد في التقييم على ثلاث ركائز:
- الطرح السياسي والفكري الذي تضمنته الوثائق والندوات والمقابلات
- التناسق والاتساق والتماسك والعمق في الطرح على المستويات كافة
- هوية وطبيعة وتركيبة وتاريخ وسمات ونهج قيادة ورموز هذه المبادرة

الطرح السياسي والفكري
بداية، إن ما يسمى «المسار الثوري البديل» ما هو إلا تشويه لدعوة القائد الحكيم، جورج حبش، «بالاستمرار بالنضال في مواجهة نتائج مؤتمر مدريد التصفوي، من خلال تأسيس البديل الثوري الفلسطيني في مواجهة مخطط الحكم الذاتي المسخ». وكانت «الجبهة الشعبية» قد أصدرت كراساً نظرياً عام 1973 حمل عنوان «البديل الثوري ومشروع الدولة التصفوي» لمواجهة الدعوة إلى مؤتمر جنيف الدولي، الذي اعتبرته «خطيراً على الشعب الفلسطيني وعلى الشعوب العربية». أتت دعوة الحكيم لتأسيس نهج بديل لاجم لنهج التسوية والتفريط، بحيث يضم كل القوى والتشكيلات من فصائل «م ت ف» وخارجها ضمن الظروف والمعطيات الذاتية والموضوعية في تلك المرحلة. ومحاولة التستر وراء نضالات رموز المقاومة، وخاصة حكيم الثورة، هو محاولة لسرقة التراث، وليس استمراراً أو امتداداً أو تطويراً له.
تميّز الطرح السياسي الذي تحتويه الوثائق التي صدرت قبل المؤتمر وفي البيان الذي صدر عن المؤتمر بالعمومية والإبهام. حيث تفسح المجال لتفسيرات متضاربة وحتى متناقضة. كما إن اللغة المستعملة في هذه الوثائق هي عبارة عن شعارات مركبة تغازل العواطف وتتلاعب عليها. ولا تقدم أية رؤية أو منطق واضح متماسك. بحيث يقوم هذا المنطق بتعريف المشكلة والحاجات الموضوعية للساحة الوطنية الفلسطينية، ثم يجيب عليها بمقاربة مدعومة بالحجج والبراهين. وبما أن المفردات والمصطلحات تحمل حمولة مهمة، فما تكرار «المسار البديل» واجترار مفردات عزمي بشارة، المأخوذة من شعارات الثورة المضادة، مثل «الاستبداد» بقصد إيران وسوريا وروسيا والصين وغيرها، والتشدّق بـ«الديموقراطية» وهي سلعة ليبرالية ملغومة وضعها الغرب أمامنا لتدميرنا، إلا دليل واضح لوجهة هذه المجموعة.
فكيف لمسار ثوري، يطرح نفسه بديلاً للمسار السياسي الحالي بكل تلويناته، أن يأتي بيان مؤتمره التأسيسي هزيلاً بهذا الشكل؟ فهذا المسار لا يقدم فكراً واضحاً يقوم بتحليل المرحلة السابقة بكل جوانبها ويطرح بديلاً معالجاً لها. بحيث يوضح أين كان الخطأ، وكيف يمثل مساره هو بديلاً قابلاً للتطبيق، ينشل القضية من المأساة التي تعانيها، وينطلق بها إلى الأمام، مدعوماً بالحجج والبراهين والمنطق. ولكنه بدلاً عن ذلك قام بمخاطبة الجماهير بجملة من الشعارات، التي طُرِحت في السابق ضمن وثائق وازنة من قبل الفصائل الفلسطينية. وإن كانت هذه الفصائل قد فشلت بتحقيق هذه الشعارات عملياً، خصوصاً الفصائل اليسارية، وبالتحديد بعد اتفاقيات أوسلو. والأسباب لذلك عديدة ولسنا في مجال التطرق إليها في هذه الورقة. فبذلك أتت طروحات «المسار» مخيبة للآمال، واستخفافاً بالعقل الفلسطيني المقاوم، والنضال الوطني الفلسطيني المشرف والأسطوري على مر العقود.
الطرح يدل على نزعة يسارية طفولية تعكس مصالح ضيقة فئوية ونرجسية عنصرية لم تقدم شيئاً جديداً لساحة النضال العربي


بعض المقولات طرحت لتعطي انطباعاً معيناً، ولكنها في الحقيقة متسترة خلف تفسيرات وتأويلات ومعان عدة. فالبيان النهائي مثلاً يدعو إلى: «إقامة المجتمع الديموقراطي القائم على العدل والمساواة، الخالي من الاستغلال الطبقي ومن العنصرية والصهيونية...» ولم يوضح البيان هل يضم هذا المجتمع الديموقراطي المستوطنين الصهاينة. وإن كان تضمين جملة «الخالي من العنصرية» يوحي بأن الجواب هو أن المجتمع الديموقراطي المعني هو مجتمع مشترك مع المستوطنين، على شاكلة مجتمع المتصهين، عزمي بشارة، «دولة لكل مواطنيها». وإلا ما ضرورة القول بمجتمع خال من العنصرية والصهيونية. ونحن نعرف أن مفهوم «خال من الصهيونية» قد يعني المستوطنين المتخلين عن صهيونيتهم. فإذا كان هذا هو المقصود، فذلك يعني أنهم يتبنون تأسيس دولة مشتركة مع المستوطنين، وهي مقولة تسوق لمفهوم خادع لا يفقه جوهر الصهيونية ووظيفتها. وإن الطريقة الوحيدة التي يتخلى بها الصهيوني عن صهيونيته هي بمغادرته أرض فلسطين. فالقبول ببقاء المستوطن في فلسطين كوطن له، هو تحقيق لوعد بلفور وتحقيق للبرنامج الصهيوني. وذلك بخلق «وطن قومي لليهود في فلسطين». كما إن مقولة «إقامة المجتمع الخالي من الاستغلال الطبقي...» لا تستقيم في تنظيم خليط، ولا يحتوي على تحليل طبقي، إلا إذا قيل بوضوح «حركة ثورية تقودها طليعة الطبقات الشعبية». وإذا كان كل هذا ليس القصد فأين التوضيح؟
والفقرة التي تليها في هذا البيان تصب بنفس السردية. فالبيان يدعو إلى الحفاظ على «حق العودة، وحق تقرير المصير على كامل التراب الوطني الفلسطيني» من دون التطرق إلى اشتراط التحرير أولاً. وما ترديد مقولة «من النهر إلى البحر»، و«على كامل التراب الفلسطيني»، وتركها عائمة، من دون اشتراط التحرير يدل على أن مقولة «دولة لكل مواطنيها» هو المعني. وتقديمها بهذا الشكل هو ما قصد به بالذات «التلاعب بالعواطف وعدم الوضوح». وهذا من أجل إيهام الذين يريدون تحرير كامل التراب الفلسطيني من الوطنيين بأن هذا هو الهدف. أما الفقرة التي استعملها «المسار» في دعاياته للترويج عن نفسه: «... فإننا نؤكد على تعزيز العلاقة مع مختلف الشخصيات اليهودية المناضلة والمناهضة للصهيونية والعنصرية والاستعمار، الداعمة لحقوق شعبنا ومقاومته الباسلة لتحرير فلسطين»، ما هي إلا إعادة صياغة لمقدمات وتهيئة برنامج التسوية، برنامج النقاط العشرة عام 1974، في مراهناته الخاسرة على «قوى يهودية/إسرائيلية تقدمية» لم نر منها إلا نتفاً قليلاً تطاير كالغبار عند أول ريح، وهذا ينزع صفة «الثوري والبديل» عن مدعيه.
والأخطر في هذا الطرح هو تجاهله بشكل كامل للموضوع الكبير الذي يحرك الإقليم، بل والعالم أجمع، وهو موضوع سوريا وإيران ومحور المقاومة بشكل عام. بحيث يقوم «المسار البديل» باستخدام تعبير «معسكر المقاومة العربي» بدلاً من «محور المقاومة». يبدو هذا الطرح وكأنه بريء، ولكنه مليء بالألغام والسموم. حيث يستشف منه نبرة عنصرية وعداء كبير لإيران غير العربية، التي لولا وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، لما تعرضت لهذا الهجوم السافر من قوى الصهيوأميركية وأذنابها من الرجعية العربية. كما إن هذا الطرح يصب في مكيدة الفتنة التي افتعلتها قوى الأعداء، بتغليف الصراع في الإقليم على أنه صراع سني شيعي، وليس صراعاً مع الإمبريالية المعادية لطموحات أمتنا العربية في التحرر والاستقلال. إن محور المقاومة هو القوة الحقيقية الفاعلة في الميدان ضد البرنامج الإمبريالي في الإقليم. بالتالي يصبح تجاهله ومعاداته تهرباً واضحاً من تبعات الانتماء إلى هذا المحور، وتبريراً لعدم الانخراط الحقيقي في العمل المقاوم. وبما أن الانتماء إلى المحور قد أصبح المعيار الدقيق في هذه المرحلة في تصنيف وطنية أو قومية، أو حتى أممية، أي تنظيم أو حركة مقاومة في هذه المعركة، يترتب عليه أن «المسار البديل» يصطف بوعي أو من دون وعي في الخندق المعادي لمحور المقاومة.

العمق والتناسق والاتساق والتماسك في الطرح على كل المستويات
إذا كان «المسار البديل» يطرح نفسه مشروعاً وطنياً ثورياً قائداً لنضالات الشعب الفلسطيني، فعليه أن يتسم أولاً وأخيراً بالوضوح والشفافية مع نفسه ومع الجماهير. وأن يخلق لنفسه هوية سياسية وأيديولوجية واضحة لا التباس ولا لوي فيها. وأن يتخندق بشكل مبدأي في صف محور المقاومة الذي يجابه البرنامج الإمبريالي الصهيوأميركي في الإقليم. هذا إضافة إلى أن يكون الطرح والتحليل السياسي لهذا المسار البديل متناسقاً وثابتاً ومتماسكاً عند اختباره على جميع المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
أما ما يقدمه «المسار البديل» في وثائقه وندواته ولقاءاته فلا ينم إلا عن تخبط عشوائي في الطرح السياسي. فهو يقطع بشكل قسري سياسياً وأيديولوجياً مع المسارات والتاريخ النضالي السابق. ويتجاهل حقيقة تاريخية موضوعية بأن النضالات السياسية الوطنية والقومية، وحتى الأممية أياً كان شكلها، هي مراكمة للتجارب التي تسبقها. وإنه ليس هناك قطع في التاريخ الإنساني. فعلى المستوى الفلسطيني، لا نعترض على الشعارات العامة التي يطرحها المسار، مع اشتراطات توضيحها بالنسبة إلى قضايا التحرير وإخلائها من الصهيونية والمستوطنين. ولكننا نجد أنفسنا، ومعنا العديد من الوطنيين المنخرطين في مقاومة البرنامج الصهيوني-الأميركي-الرجعي العربي، في الخندق المقابل لـ«المسار البديل»، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بسوريا ومحور المقاومة والدور الإيراني. فقد بات واضحاً عداء «المسار البديل» الكامن للدولة السورية في صراعها مع القوى التكفيرية والدولة التركية الإردوغانية والتحالف العالمي المعتدي، الذي تقوده أميركا ضد الدولة السورية. ويتم ذلك تحت شعار خادع «أننا مع الشعب السوري ضد استبداد النظام الديكتاتوري الحاكم». فتكون المحصلة أن يصب هذا الطرح في الخندق المعادي لقضيتنا الفلسطينية ولسوريا ولمحور المقاومة في الصراع الدائر مع البرنامج الصهيوأميركي الإمبريالي في منطقتنا.

نقلُ الصراع إلى الشتات يهدف إلى إبعاده عن ساحة المواجهة المباشرة - جغرافيا التناقض الرئيسي مع العدو


وما العداء والعنصرية المتمثلان ضد إيران غير العربية، وتحت غطاء أنه موقف عربي قومي، إلا موقف مريب وخطير يتناقض مع موقف «المسار البديل» المساند للمقاومة لدى الساحة الفلسطينية على علاته. وهذا يطرح سؤالاً، هل إن التقاء قوميات غير عربية في المنطقة، كالجمهورية الإيرانية مثلاً، يتقاطع في المصالح مع القومية العربية، خطأ؟ هذه المصالح التي تتقاطع في سياق الاستقلال والتحرر من ظلم الهجمة الإمبريالية الغاشمة، والنضال من أجل إفشال مشاريعها وبرامجها الهادفة إلى إبقاء المنطقة خاضعة لهيمنتها. وما طرح شعار «مقاومة عربية» و«المعسكر الشعبي» في هذا الوقت إلا كمن يضع العصا في عجلة هذه المقاومة. لأنه بذات الوقت الذي تتجمع به قوى المقاومة العربية والشعبية الفاعلة في الميدان ضمن محور المقاومة، وتحقق الإنجازات والانتصارات النوعية على الأعداء، يكون طرح تأسيس معسكر عربي مواز لمحور المقاومة شعاراً خبيثاً. ويكون القصد منه بالنتيجة ضرب محور المقاومة وإنجازاته الاستراتيجية تحت شعار عنصري هدفه هدم المقاومة لا بناؤها.
إن معاداة إيران لمجرد أنها غير عربية، والعداء لمحور المقاومة لمحورية إيران فيه، طيش ومراهقة سياسية لتنظيم أو حركة تطمح إلى قيادة القضية الوطنية الفلسطينية. حركة تقول إنها تقدم مساراً تقدمياً ثورياً معادياً للإمبريالية يعمل على عكس الواقع الرديء والسير به نحو التحرير الكامل. وبما أن مقياس رجعية أو تقدمية أي حركة أو تنظيم سياسي هو الموقف من الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، ومن حيث أن القضية الفلسطينية تقع في لب الصراع العربي والإقليمي، وحتى العالمي، بين هيمنة قوى الاستعمار والاستغلال والعدوان، وكفاح قوى السلم والتحرر والعدالة الاجتماعية، تمخض عن هذا الصراع محوران في منطقتنا: المحور الاستعماري الصهيوأميركي الرجعي العربي بقيادة أميركا، التي تعمل باستمرار على رسم القواعد العسكرية على الأراضي العربية بحيث ترسخ التبعية لها أكثر فأكثر. ومحور المقاومة الذي يضم قوى المقاومة والممانعة في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن والعراق وجمهورية إيران الإسلامية، يعمل بنظرة استراتيجية على تشبيك علاقاته المحلية والإقليمية والعالمية. هذا من أجل ضمان أمنه وتعزيز قدراته القتالية وترجيح كفته لصالح تحرير الأراضي العربية المغتصبة، وإنهاء الاحتلال الاستعماري وهيمنته عليها. فكيف لحركة تدعي عدائها للإمبريالية ومقاومتها لها ولبرامجها المعادية ولا تقف في صف محور المقاومة، بل وتعاديه؟
إن هذا الطرح يدل على نزعة يسارية طفولية تعكس مصالح ضيقة فئوية ونرجسية عنصرية لم تقدم شيئاً جديداً لساحة النضال العربي. بل تختلس بعض المفاهيم والمقولات والشعارات من أدبيات الفصائل الفلسطينية، خصوصاً أدبيات «الجبهة الشعبية»، وتقوم بحشوها وتركيبها بشكل إنشائي وتقديمها على أنها وصفة جديدة لمسار إنقاذي للساحة الفلسطينية والعربية التي تعاني من تراجع وإحباط وقنوط.

هوية وطبيعة وتركيبة وتاريخ وسمات ونهج قيادة المبادرة
عندما نتصفح الوثائق ونشاهد الندوات التي قدمها هذا التيار لا نجد فيها أي جديد. لا نرى سوى ضجة إعلامية تعكس طموحات للتموضع السياسي لجني مواقع سياسية. ويمكن الملاحظة أن هناك تأثراً واضحاً، في طرح ولغة، المتصهين، عزمي بشارة.
لا شك بأن اختيار «المسار البديل» للجغرافيا البعيدة للانطلاق يحدد النيات والدور. فاختيار مدريد وسان باولو، وبيروت، والمركز في كندا، وعدم وجود أي وجود على الأرض في فلسطين المحتلة ليس صدفة. إن الشتات الفلسطيني مليء بالجاليات المرتبطة مع الوطن، وتشكل هذه الجاليات ساحات نضال بأدوات تتناسب مع واقعها ومواقعها. ولكن نقل الصراع إلى الشتات، كما فعل «المسار البديل»، فهو يهدف إلى إبعاده عن ساحة المواجهة المباشرة، جغرافيا التناقض الرئيسي مع العدو. هناك يتم حسم الصراع والانتصار على الصهيونية وتفكيكها. نقل الصراع إلى الأطراف بدلاً من القلب يهدف إلى تمييع النضال والمواجهة للسيطرة على ورقة الشتات وتسخيرها لخدمة مخطط المتصهين، عزمي بشارة، الذي يهدف إلى اختطاف «م ت ف» بدءاً من الخارج. والدليل على أنه يدعم عقد انتخابات مجلس وطني فلسطيني، ويعمل بشكل دؤوب للسيطرة على أصوات وقيادة الشتات ليضمن نجاح برنامجه، في دمج الفلسطينيين في دولة الكيان الصهيوني. وبذلك يتم تحويل النضال الوطني التحرري الفلسطيني إلى نضال مطلبي مدني من أجل المساواة في «دولة لكل مواطنيها».
ونختم بأننا في التيار كانت لنا تجربة غنية سابقة في التعامل مع بعض رموز «المسار البديل». كانت تجربة غنية في دلالاتها بوجود نزعة يسارية طفولية، وطموحات وحسابات ضيقة على حساب القضية. إضافة إلى عدم الانتباه أو الاهتمام بالضرر الذي من الممكن أن ينثروه في طريقهم على القوى المقاومة والقضية الفلسطينية عموماً.

* «تيار فلسطين الحرة الديموقراطية»