«حسناً.. هنالك حرب طبقية، والطبقة التي أنتمي إليها، طبقة الأغنياء، هي التي تشنها ونحن أيضاً من ينتصر!»
الأميركي أوارن بارفت -
رابع أغنى رجل في العالم


طغت على السياسة التنموية، بعد اكتشاف النفط في كل من دول الخليج العربية وإيران، ما يطلق عليه الباحث الإيراني حسين مهدوي «دولوية اعتباطية». ويقصد بذلك أنه سَمَتْ على حالة النمو الاقتصادي ومشاريع البنية التحتية بُعيد اكتشاف النفط، سِمَة الاعتباطية والفوضوية. فهذه الدول لم تتخيّل أنها ستملك هذا القدر من الثروة في هذه المدّة الزمنية القصيرة. تنعكس هذه السياسة في الشكل الذي نمت وتطورت فيه المدن حضرياً، وهو أمر تتبّعه الباحث الفرنسي باسكال مينوريت في حالة العاصمة السعودية الرياض منذ الستينيات وحتى من قبل الطفرات النفطية. يلاحظ مينوريت أن النمو المطرد للرياض لم يكن كما يصوّر على أنه تطور سلس وسلمي، بل على العكس فقد كان تحولاً دراماتيكياً عماده الأزمات وطرد السكان من الأحياء. حيث يشير إلى أن النمو السريع للمدن السعودية، وخصوصاً العاصمة، كان يشكل هاجساً وارتياباً للأمراء السعوديين، وتحديداً الأمير سلمان حينها، إذ كانت تشغله التبعات الأمنية التي تنطوي على هذا النمو وكيفية الحفاظ على عملية ضبط هجرات السكان إلى المدن.
كأحد الدلائل على أن الحديث عن مشاريع التنمية في دول العالم الثالث أمر لا يمكن فصله عن العلاقة الاستعمارية مع الغرب، كانت فكرة التعاقد مع المخطِّط الحضري لمدينة الرياض، والذي يدعى كونستانتينوس دوكسياديس ــــ وهو الذي قام بتخطيط كل من مدينة إسلام أباد وأحياء من بغداد ـــــ اقتراحاً من أحد ممثلي «وكالة التنمية الأميركية» (USAID) أثناء زيارته للعاصمة السعودية، وهو ما تم بالفعل. يراسل ممثل الوكالة وزارة الخارجية الأميركية مؤكداً حماسة السعوديين المنطلقة من خوفهم من عبد الناصر والخطاب الاشتراكي.
اشتهر دوكسياديس بمخططات «رفاه وسعادة» تشكّل النقيض المنافس للنماذج الشيوعية. بالإضافة إلى ذلك، فإن مخططاته تسهّل عملية ضبط ومراقبة السكان وبشكل يمنع التمرّد. ففي إسلام أباد، تحوّلت المدينة الجديدة ـــــ أريد منها أن تمثّل الهوية الباكستانية «النقية» في مقابل كراتشي التي لا تزال تُرى كـ«هندية» ـــــ إلى مدينة عشوائيات. وأمّا في بغداد، فقد قام بتخطيط أحياء سكنية وصفتها «نيويورك تايمز» حينها بأنها معادية للشيوعية وتقوم على توثيق العلاقات الأسرية والقبلية العربية، وأيضاً تسهّل عمليات ضبط ومراقبة السكان وتقلّل فرص نشوء عمليات تمرّد على السلطة. المفارقة هنا، أن الحي الذي نتحدّث عنه هو حي مدينة الثورة، الذي سمّي بذلك بعد انقلاب تموز من عام 1958 (تحوّلت إلى مدينة صدام ثم مدينة الصدر اليوم)، وقد كانت أوّل وزيرة عربية الدكتورة نزيهة الدليمي أشرفت على المشروع الإسكاني فيه، إلا أنه خلال العقود التالية ساهم تخطيط دوكسياديس لـ«مدينة الثورة» في الحد من قيام انتفاضات واحتجاجات ضد مختلف الأنظمة الحاكمة للعراق.
أمّا في الرياض، ففي شباط من عام 1968، وبعد قرابة الشهر من وصول دوكسياديس وفريقه، نبّهه أحد أعضاء فريقه بأمر طارئ، حيث بدأت السلطات السعودية بعمليات تهجير قرابة ستين ألفاً من السكان، فقد أراد أمير الرياض، سلمان بن عبد العزيز، إعادة إرسال البدو إلى الصحراء في ما هو أشبه بـ«الغيتو». فمع وصول تعداد سكان الرياض إلى 300 ألف، كانت إمارة الرياض تحضّر لتهجير ما يقارب خُمس سكان المدينة.
يوثّق مينوريت حكاية فريق التخطيط اليوناني مع الملك سلمان؛ أراد الأخير إزالة العشوائيات لأسباب تتعلق ببناء القصور وتملك الأراضي وارتفاع ربحية سوق العقارات، وكان على الفريق التعامل مع تبعات مشاريع الإزالة هذه. أراد سلمان طرد السكان إلى خارج حدود المدينة دونما مشاريع إسكانية بديلة، وهو ما لم يوافق عليه فريق التخطيط، إذ ضغط باتجاه حل وسط يعيد توطين المهجرين داخل حدود المدينة، إلا أن هذا الضغط لم يؤثر كثيراً على مشاريع سلمان.
ومن أهم الملاحظات التي يعكسها مينوريت هي الطابع الديموغرافي الذي أنتجه هذا التخطيط أو «اللاتخطيط» المتعلق بترك الطبقات المسحوقة من المواطنين والمهاجرين العرب وآسيويين وأفارقة يسكنون الهوامش. كان، مثلاً، من غير المسموح للعبيد المبيت داخل أسوار المدينة. والشيء بالشيء يذكر؛ حتى قرار الملك فيصل تحرير العبيد، كما مسألة التعاقد مع دوكسياديس كانت نتيجة للعلاقة مع الولايات المتحدة والحرب ضد عبد الناصر، إذ أعلن فيصل إنهاء العبودية فقط عندما أعلن اليمنيون إنهاء الرق ليتبعهم السعوديون كي لا يظهروا بمظهر الفساد والتخلف والرجعيين أمام النموذج الثوري لعبد الناصر كما يبيّن روبيرت فيتاليس مؤلف كتاب «مملكة أميركا».

من شابه أباه... فظلم!
تتقاطع جدة مع الرياض، ومجمل مدننا العربية، من ناحية تهميش وقمع السلطات الحاكمة لشرائح واسعة من السكان، فتسكن وتستوطن أطراف المدن حيث تولّد سياسات الدولة ما يطلق عليها العشوائيات التي تتحوّل، مع التوسع العمراني، لتكون قلب المدينة. الفارق أنه وبالحديث عن جدة فنحن نتحدث، ولأسباب تاريخية، عن تركيبة ديموغرافية أكثر تنوعاً، حيث إن الحج إلى مكة المكرمة لقرون جعل من الحجاز مهوى لجميع المسلمين وشعوب العالم، ليكون تنوّع الحجاز انعكاساً لمدى انتشار الرسالة المحمدية. وليكون سكان الحجاز، بدورهم، تحت وطأة عنصرية المركز لأسباب عرقية وثقافية وطبقية، وحتى مذهبية تتعلق بالإيديولوجيا الوهابية.
أحد أسباب رغبة الطبقة المهيمنة على قرار الدولة اليوم التخلّص من هذه الأحياء يعود إلى عدم قدرتهم على التعايش مع سوق وبيئة اجتماعية متوسطة ومنخفضة الدخل


ما تقوم به الدولة اليوم من مشاريع إزالة (هدد) ضخمة داخل جدة، يندرج ضمن إطار مخاض عملية التنمية التي عمادها إعادة هندسة المجال السعودي العام وبنيته التحتية بشكل يتناسب مع هوى البيروقراطية السعودية الجديدة المهووسة بمشاريع الاستثمار والترفيه والاستهلاك والرفاهية، والتي لا تصب فقط في خدمة مصالح أثرياء البلاد، بل كما جاء على لسان الشهيد عبد الرحيم الحويطي: «يريدون إخراجنا واستقطاب مليون ونصف مليون لهذه المنطقة، يفترض أن يكونوا أثرياء، أثرياء العالم، عبر توفير أمن وصحة وتعليم، يريدون أناساً يقدّمون لهم أقصى قدر من الرفاهية».
فالذي يحدث في جدة من تهجير هو عبارة عن رغبة أمراء وتجار في إلغاء شريط التاريخ ومحو أحياء بكاملها لإعادة تخطيط المدينة بشكل يتناسب مع ذائقتهم؛ مشاريع تحت غطاء مصطلح «التنمية»، وحزمة مصطلحات براقة من «الرفاهية» و«جودة الحياة» و«المعايير العالمية» وغيرها من ألفاظ تشير، بحد ذاتها، إلى أن ما يطلق عليه التنمية هنا ما هو إلا مشاريع استثمارية لخدمة فئة معينة، من دار للأوبرا ومرسى لليخوت إلى أسواق فارهة. يطلق الباحث ديفيد هارفي على هذا الإلغاء مصطلح «انتفاء الحق بالمدينة» الذي يعتبره حقاً أساسياً من حقوق الإنسان. فالفقراء والكادحون في المدن يفتقدون لحقهم في مدينتهم وطريقة تكوينها ويمسون ضحية مشاريع «الهدم الخلاق». وعليه، وفقاً له، يخسرون حقهم الجمعي، لا الفردي، في تغيير أنفسهم وطريقة عيشهم عن طريق تغيير مدينتهم.
بعد عقود من التهميش، لاحقت آلة القمع سكان حواري جدة لتلغي وجودهم بالمعنى الحرفي للكلمة، في ظل تعتيم إعلامي مطلق. تتذرع السلطة بالخطاب العنصري على العشوائيات كما في كل العالم، بأنها بؤر للمخدرات والدعارة والفساد والوافدين «غير القانونيين». استخدمت السلطة الخطاب العنصري بين المواطنين والمقيمين ـــــ الغريب أصلاً عن سكان هذه الأحياء التي عاش فيها الجميع دونما تفرقة ـــــ وبأن كون العديد من سكان الأحياء ليسوا «سعوديين» فهذا يخرجهم عن نطاق الحقوق الإنسانية. وهو ما ينعكس على التصور النمطي عن سكان هذه الأحياء؛ بأنك قادم من جنوب جدة فأنت موسوم بالفقر والتخلف ولن تحصل على سكن تستأجره في أحياء أخرى، وكأنك مصدر تشويه وقلق أمني.
النقطة الفارقة هنا أن المقاربة الأمنية تجاه هذه الحواري والأحياء كانت المهيمنة على منظور السلطة طوال العقود الماضية. بل إن مسألة التخلّص منها كانت مطروحة من قبل، بيد أن تهجير مئات الآلاف من البشر بهذا الشكل هو بحد ذاته ــــ من منظور السلطة ــــ مشكلة أمنية. وهذا ما لم يهتم به جشع السلطة اليوم، إلى أن نصل إلى مشاهد تعكس اهتزاز علاقة الناس بالدولة والعائلة المالكة؛ كتابات جدارية ضد آل سعود، ونحن لا نتحدّث عن بؤر تمرد تاريخية كما في القطيف، بل على الضفة الأخرى وعلى ساحل البحر الأحمر. وهنا بالذات يتكرّر التاريخ، فسياسات محمد بن سلمان تحذو حذو سياسات أبيه، حتى مسألة استيعاب هؤلاء ببرامج إسكان بديلة أو تعويض لم تتبادر إلى ذهن السلطة. أتت إشعارات الإخلاء مباغتة وسريعة تعكس هوس صاحب القرار الذي تلاحقه عصا الزمن للوصول إلى 2030.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنه حتى مصطلح العشوائيات ليس بدقيق، بل هو تورية طبقية لأحياء مهملة من تخطيط الدولة وعنايتها، كانت نتاج تطوير أهلها، ينسج الناس فيها علاقة بالمكان بشكل عفوي وطبيعي وجميل. ولا يكون مبالغة الحديث أن أحد أسباب رغبة الطبقة المهيمنة على قرار الدولة اليوم التخلّص من هذه الأحياء يعود إلى عدم قدرتهم على التعايش مع سوق وبيئة اجتماعية متوسطة ومنخفضة الدخل؛ ترى في طعام «الكافتيريا» و«البوفيات» وبساطة فطور شهر رمضان جزءاً من حياتها والذكريات التي تخلقها، وذهنية المسؤول هنا لا تريد رؤية استهلاك خارج البذخ والترف وكوب القهوة مع شعار «ستاربكس».

الحرب على الفقراء
بطبيعة الحال، تعدّ أي تغييرات نيوليبرالية في أي دولة شكلاً من أشكال القهر والقمع ضد الفقراء. لكن ما يحصل في السعودية أمر أكبر من دولة تتخلّى عن دورها الاجتماعي وترمي الناس في العراء. وعليه، تتآكل الطبقة الوسطى التي تراكمت تاريخياً. بل من العوامية شرقاً إلى الحويطات شمالاً إلى الجنود على الحدود جنوباً وجدة غرباً، والضرائب التعجيزية على المقيمين، والعنصرية والاستغلال العبودي للعمّال الآسيويين، وأكبر المظاهر في العدوان والحصار على اليمن... أمراء آل سعود هنا يشنون حرباً على الفقراء في جزيرة العرب، ويلاحقون الناس في مأكلهم ومشربهم ومسكنهم وينتزعون حياتهم.
وهو ما يشكل قنبلة موقوتة في البلاد، ستنفجر إلى أن يفهم هؤلاء أن دوام الحكم في ظل استمرارية الغرور والعتو على المحك، وأن الشعب ليس مجرد أولئك الذين يتسوّقون في المولات أو يحضرون احتفالات موسم الرياض، ويقومون بمشاريع «ريادة الأعمال» ويأكلون في مطاعم «البوليفارد». في هذا السياق، يقول أمين محافظة جدة إنهم قد أهملوا الجانب الإعلامي من عمليات «إزالة العشوائيات»، أي وبكلام آخر هو يقول إننا فشلنا في صناعة بروباغندا وفقاعة إعلامية تجعلنا نشوّه الواقع الذي نعيش فيه ونقوم بإلغاء وجود الفقراء إعلامياً إلى جانب عمليات الهدم على الأرض.
في الأخير، سيسجّل التاريخ أن صندوق الاستثمارات العامة السعودي، سواء في استثمارات نادي «نيوكاسل» أو في أي من الاستثمارات الخارجية لـ«الرؤية السعودية»، أو تلك الداخلية كشركة وسط جدة للتطوير، هو الذراع التي تحرّك عجلة التغيير في السعودية بشكل مسعور ومجنون. وهو ما يشكل قطيعة مع التقاليد التاريخية التي كانت تراعيها العائلة المالكة في التعامل مع الناس.

* كاتب عربي