بديهي القول إن لا حركة تحرّر فلسطينيّة دون حركة تحرّر عربيّة، تكون المقاومة المُسلّحة في فلسطين وعلى حدودها رأس حربتها القويّة والمُتقَدّمة. فالعلاقة الجدليّة بين «الوطني» و«القومي» مُتشابكة لا فكاك منها، تحكمُها حقائق التاريخ والجغرافيا والهوية الحضارية والثقافية الوطنية وغيرها من عناصر بناء الأمم ومشاريع التغيير الكبرى. وكل المحاولات الرّامية إلى خلع فلسطين عن عمقها العربي الشعبي لن تخدم إلّا مشروع الاستعمار والكيان الصهيوني وقوى اليمين النفطي. وعليه، لا بدّ من معسكر ثوري تؤسّس له حركات المقاومة والقوى الاجتماعية الحاضنة لها. غير أن هذا يشترط البدء في الحوار الاستراتيجي، باعتباره ضرورة ومصلحة مشتركة أمام تطورات الصراع العربي الصهيوني وتناقضاته التي لا تنتهي. ومن البديهيّ القول أيضاً إن الحوار الاستراتيجيّ المطلوب بين قوى المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة، ومعها القوى الشعبيّة العربيّة الداعمة التي ترفع «لواء المقاومة والتحرير» لمواجهة ما يتهدّد الأمّة من أخطار التجزئة والتفكيك من الداخل والخارج، هو مهمّة عاجلة وضرورية، حيث صار لزاماً أن يتحرّر الحوار من النسق التقليدي والغرف المغلقة نحو خطوات عمليّة واسعة للعبور نحو آفاق جديدة وبناء جسر المستقبل.
الحوار الاستراتيجيّ الذي نقصده أبعد من «المؤتمرات» و«برامج الفضائيات». إنه ضرورة نضالية وسياسيّة تفرضُها التحدّيات الرّاهنة والتطوّرات المُتسارِعة في فلسطين والمنطقة والعالم، وتؤكّدها مهمّات المرحلة ومواجهة المخاطر التي تهدّد الوطن العربي الكبير. لقد باتت أجزاء واسعة من أرض وطننا العربي ترزح تحت وطأة الاستعمار الأجنبي، سواء الاحتلال العسكري المباشر أو الهيمنة السياسية والاقتصادية والإعلامية.
المطلوب إذاً أن يكون حواراً استراتيجياً شاملاً بين قوى المقاومة وتيارات الأمّة في هويّاتها الفكرية المتعدّدة، يتجاوز التقليديّ والتكتيكي إلى رؤية مشتركة وبرامج نضالية تُمهّد الطريق نحو حالة شعبية أرقى ومتصاعدة في مواجهة قوى الاستعمار والكيان الصهيونيّ وأذنابهما في المنطقة والإقليم، ورؤية سياسية مُتكاملة الأبعاد تُشكّل أرضيّة توافقية صلبة لا تنهار أمام التحوّلات الطارئة والعابرة في الطريق إلى الهدف الكبير: تحرير فلسطين.
إن الرؤية نحو المستقبل لا تصنعها جوقة الحكونجية ونجوم الفصائيات، بل مؤسَّسات تربوية وبحثية وفكرية، وليس الأطر الهلاميّة الشكليّة التي تتوزّع أحياناً بين عاجزة ومتواطئة لا شغل لها إلا اجترار الكلام. فما تحتاج إليه حركة المقاومة العربية ليس جَمعاً من الأبواق الجاهزة لتبرير هذا الموقف أو ذاك بقدر رؤية نقديّة شجاعة تصوّب مسارها وتضيء لها الطريق على قاعدة أن لا مشروعٌ سياسي تحرّري دون مشروع ثقافي تحرّري يلازمه ويسنده ويصوّبه.
إن قراءة تجربة المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة جديرة بالاهتمام، إذ برغم حالة الحصار المستمرة والحروب والخنق الشامل في بعض الأحيان، استطاعت تيارات المقاومة الإسلامية واليسارية على نحو خاص تقديم تجربة محقّقة، نراها في التقارب السياسي والوحدة الميدانية بين «حماس» و«الجهاد» و«الشعبية» وغيرها، وفي الوقت نفسه إدارة الخلافات والتناقضات عبر الحوار والتعاون وعدم تهويل التناقضات الداخلية على حساب التناقض الرئيس في مواجهة العدو.
ما تحتاج إليه حركة المقاومة العربية ليس جَمعاً من الأبواق الجاهزة لتبرير هذا الموقف أو ذاك بقدر رؤية نقديّة شجاعة تصوّب مسارها وتضيء لها الطريق


التطوّرات الميدانيّة والسياسيّة المُتسارِعة على جبهة فلسطين، لبنان، العراق، سوريا، اليمن، وغيرها، وما جرى من نكبات (وما تحقّق في السنوات الأخيرة من صمودٍ وانتصاراتٍ أيضاً) يجب أن تدفع نحو حوار استراتيجي من أجل استخلاص دروس العقد الأخير، وتأسيس جبهة المقاومة العربية الموحّدة بوصفها خشبة الخلاص الثوري والجماعي التي تشترط تعزيز العمل المقاوم في أبعاده الإعلامية والسياسيّة والجماهيريّة والعسكريّة والثقافيّة، وتبني الحل التّاريخي للصراع العربي - الصهيوني؛ المُتمَثّل في إزالة الكيان الصهيوني من كل أرضنا العربية. وهذا يفترض قوى ثورية متجدّدة شابة تواكب العصر الجديد وتملك، إلى جانب التخطيط وتقنية السلاح، المعرفة الحقيقية والقدرة على إدارة الحوار والعمل المشترك.
المصارحة تقتضي القول إن معسكر المقاومة في حالته الراهنة، والذي يقاتل الإمبريالية والصهيونية ويدعو الأمّة إلى الوحدة وتجاوز الصراعات المذهبية والطائفية، يعاني هو الآخر من كل هذه الظواهر والأمراض والتناقضات الداخلية، وعلى عاتقه ستقع مسؤولية إجراء المراجعة الفكرية والسياسية وممارسة النقد الذاتي العلني والتخلّص من هذه المثالب وترجمة الشعارات إلى برنامج عملٍ ثوري تحرّري. هذا بالطبع إذا أراد أن يكون بَديلاً ثقافياً وسياسياً شاملاً للنظام الرّسمي القائم ويقدّم للشعوب نموذجه البديل.
تُؤكّد التجربة التاريخيّة التي تُدركها شعوب الأمّة ـــــ أكثر من أحزابها ـــــ أنّ النظام العربي الرسمي وصل إلى نهايته وفشلت «الدولة العربية» في تحقيق الاستقلال الوطني الناجز والتنوير والتنمية الشعبية، كما فشلت على جبهة العدالة الاجتماعية والتحرّر. وظلّ هذا النظام العربي (القديم) يتهاوى ويتراجع أمام تقدّم الكيان الصهيوني (الجديد). ولم تعرف الأمّة على يد «الجامعة العربية» غير الهزيمة في كل الحروب على مدار عقود الصراع العربي الصهيوني.
بالمقابل، تؤكّد الحقيقة التاريخية ذاتها، وعلى الجانب النقيض، نجاح وتقدّم قوى المقاومة الشعبية، المُسلّحة تحديداً، في الصمود وكبح جماح الكيان الصهيوني وتعطيل مشاريع كبرى مُعادية وتحرير جزء من الأرض العربية. فهذه المقاومة العربية هي الصمغ الأخير الذي يضمن وحدة الأمّة في أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية. وهذا كلّه يشترط تلازم تحرير العقل والأرض معاً. وإلا من أين جاءت هذه الأنظمة؟ ومن أين جاء «داعش»؟
يجب ألّا تكون قوى المقاومة سَبباً أو عنصراً سالباً يعمّق أزمة مجتمعاتنا، وعلى كاهلها تقع مهمّة حفظ دم الناس وخاصة من يسمّون «الأقليات» في الداخل والتصدّي لمحاولات استهدافها والنيل منها، أو محاولة توظيفها من أجل هدم المجتمعات العربية في خدمة العدو الصهيوني. وعلى حركات المقاومة أن تُغلّب الانتماء إلى الأمّة ومصلحة الشعوب على الانتماء المذهبي والقبلي. في الوقت نفسه مهمّتها تطوير وتعزيز علاقتها مع الدول المناهضة للإمبريالية والصهيونية والساعية لتحقيق استقلالها الوطني وفي مقدّمها إيران.
ومن وحل الواقع العربي ينبع السؤال المركزيّ عن ماهية الحوار الإستراتيجي المُفترض بين تيارات معسكر المقاومة العربية، القادرة على مواجهة الاستعمار الأجنبي والتعايش والتجاور والحوار في إطار مشروع تحرّري ثوري من أجل إنجاز المهمة التاريخية الكبرى للأمّة: تحقيق الاستقلال الوطني الناجز وتحرير فلسطين.
* كاتب فلسطيني