لا تهيمن الولايات المتحدة على النظام الدولي بوصفها إمبراطورية استعمارية بالمعنى التقليدي، بل إنها تحاول فرض إطار جيوبوليتيكي عالمي، تمسك بمفاصله عبر ديناميات السيطرة، مستندة في ذلك إلى استراتيجيات عدة، منها «الحدود الشفافة»، التي تعني جغرافية الهيمنة من دون إمبراطورية، أي ذوبان حدود الدول أمام النفوذ الأميركي الزاحف، ليغدو العالم بأكمله مشرّعاً لواشنطن باعتباره مجالها الحيوي.مثّلت الحروب التي شنّتها الولايات المتحدة بعد أحداث 11 أيلول 2001 على أفغانستان والعراق تبنّياً واضحاً للقوة العسكرية كأداة رئيسية في الاستراتيجية الأميركية العالمية. ظهر ذلك في خوض الحرب لتغيير الأنظمة بالقوة، وتهشيم القدرات التي تمكّن الدول المعادية من صنع الحرب، والتدخّل في الصراعات الداخلية، الأمر الذي كبّدها خسائر بشرية واقتصادية فادحة، ما حدا بها إلى إعادة تقييم استراتيجياتها المطبقة. فبرزت التنظيرات حول «القوة الناعمة»، ونجاعة اعتمادها كخيار يحقّق الأهداف بأقل قدر من الخسائر. لم تكن ركائز «القوة الناعمة» كافية للتعويض عن فقدان طيف من مزايا السياسة الأميركية المستنزفة جراء الحروب. وبفعل دراسة التجارب وتوازيها مع الجهود البحثية لغرف الفكر الأميركية، ظهرت إلى العلن استراتيجية جديدة في عام 2016، تتمحور حول مواجهة الأعداء دون اللجوء إلى الحرب، وأطلق عليها تسمية «القدرة على الإرغام».
تستهدف هذه الاستراتيجية بشكل أساسي كلاً من الصين وروسيا وإيران، وهي في وسط السلّم المتدرّج لاستخدام القوّة، ابتداء بـ«الناعمة» منها وصولاً إلى الحرب العسكرية. تعتمد «استراتيجية الإرغام» مجموعة من الأدوات، أبرزها: العقوبات الاقتصادية، مساندة خصوم العدو، العمليات الهجومية الإلكترونية، استغلال موارد الطاقة، وفرض الحظر على التكنولوجيا والأسلحة، والتلويح باستخدام القوة. الهدف من وراء اللجوء إلى هذه الأدوات هو إرغام الخصوم والأعداء وردعهم وإضعافهم تمهيداً لاحتوائهم.
توظّف واشنطن أدوات الإرغام بصورة واضحة في الأزمة الأوكرانية، تثبيتاً لدعائم هيمنتها وبناء لمناطق النفوذ بغية احتواء روسيا. وفي هذا السياق يندرج الدعم الأميركي لكييف، والذي لم تكن آخره المساعدات العسكرية التي ناهزت قيمتها 650 مليون دولار في عام 2021، بحسب ما صرّح به وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، وتشمل معدّات حرب إلكترونية وتكنولوجية متطورة. وفي خضم اتساع دوائر التوتر الحالي للأزمة، ما زالت الطائرات الأميركية المحمّلة بأطنان من الأسلحة والذخائر تصل إلى أوكرانيا بشكل متتال.
استطاعت موسكو أن تبلور خططاً قادرة على الصمود في مواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الغرب. وفي حين لا تتصف هذه العقوبات بالمشدّدة، بيد أنها بدأت تتجه نحو منحى آخر في التصعيد الدائر بين روسيا والولايات المتحدة. ففي تصريحاته، كرّر الرئيس الأميركي جو بايدن أن روسيا ستدفع ثمناً باهظاً، وستواجه عقوبات اقتصادية مدمّرة إذا غزت أوكرانيا. لا ينفصل مضمون هذا التصريح عن المسار الممنهج الذي تسلكه واشنطن لتحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد منبوذ عالمياً، بالاعتماد على آليات مالية وتجارية، تهدف تدريجياً إلى عزل موسكو عن المنظومة الاقتصادية العالمية.
تحاول الولايات المتحدة استثمار الأزمة لإعادة ترميم التماسك واللحمة داخل «الناتو»


تدرك الولايات المتحدة والدول الأوروبية حجم الأضرار التي ستنجم عن وقف موسكو لإمدادات الغاز نحو القارة العجوز، وبخاصة أن الغاز الروسي يلبّي ما بين 35 و40 في المئة من حاجة الدول الأوروبية، ما يدفع واشنطن، في إطار استخدامها الطاقة لممارسة الإرغام، إلى السعي نحو تحوّل يجعلها مصدراً رئيسياً للغاز الطبيعي المسال. وكذلك هيكلة سياسة مشتركة مع الدول الأوروبية لتنويع مصادر الحصول على الطاقة، من أجل التخلّص من الارتهان الأوروبي للغاز الروسي. كما هي تحفّز الحلفاء من الدول المصدّرة للغاز، كقطر والنرويج، على رفع معدّلات الإنتاج لقطع الطريق على الغاز الروسي المصدّر إلى الدول الأوروبية، ومحاصرة إمداداته، بهدف تعطيل سلاح الطاقة الذي قد تلجأ روسيا إلى استخدامه في ساحات المواجهة الممتدة بين موسكو، من جهة، وحلف «الناتو» من جهة أخرى. وكذلك لتقليص العائدات المالية الكبيرة التي تجنيها الخزينة الروسية من إمدادات الغاز.
وقد أعلن البيت الأبيض عن إرساله تعزيزات إلى ألمانيا وبولندا، حيث وصل ألفا جندي أميركي إضافي إلى فرانكفورت الألمانية، فيما وصلت مجموعات أخرى إلى مناطق محاذية للحدود البولندية ــــ الأوكرانية. وتأتي هذه التعزيزات في إطار التلويح باستخدام القوة، ومراكمة عناصر القدرة بشكل مكثّف وسريع، لكي يرسخ في الوعي الذي تشكّله اللحظة السياسية أن واشنطن عازمة على الذهاب إلى الخيارات كافة، بما فيها الحرب، وما يعنيه ذلك من نتائج مدمّرة وكارثية. هذا بالتحديد إحدى أدوات «استراتيجية الإرغام» المستخدمة لثني روسيا عن الإقدام على غزو أوكرانيا، وتعديل استراتيجياتها في شرق أوروبا، ودفعها للقبول بتوسع «الناتو» شرقاً.
ليس من المرجح أن تكون الحرب هي نقطة الحسم والفصل في الأزمة الأوكرانية الراهنة. فواشنطن لديها حسابات وأولويات أخرى تجعلها تقتصر على اتخاذ أوكرانيا ميداناً مفتوحاً لممارسة الإرغام لكي تثبت لنفسها وللآخرين أنها ما زالت الأقدر على التحكّم في صياغة معادلات الساحة الدولية. كما يبدو أن موسكو تحاول حشد قواتها، واستعراض القوة من أجل تعزيز أوراق الضغط السياسية والدبلوماسية وتحسين شروط التفاوض، فهي ليست مستعدة لغزو أوكرانيا على غرار ما فعلت في جزيرة القرم في عام 2014 لأسباب متعددة، منها تعرّض اقتصادها لضربات قاسية، واستنزاف قدراتها الاستراتيجية، ودخولها في صراع مباشر مع الغرب.
تحاول الولايات المتحدة استثمار الأزمة الأوكرانية لإعادة ترميم التماسك واللحمة داخل «الناتو» بعدما تعرّضت صفوفه للاهتزاز والتصدّع غير مرّة، بصفة خاصة بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان من دون التنسيق مع بقية أطراف الحلف، وبعد أزمة الغواصات الفرنسية ــــ الأوسترالية. كما أنها تجدها فرصة لعرقلة ترتيب العلاقات بين روسيا والعواصم الأوروبية، ولإيقاف خط الغاز «سيل الشمال 2» الممتد من موسكو إلى برلين ــــ أكبر مستهلك للغاز في أوروبا. وكذلك، فإن الأزمة الأوكرانية تشكّل فرصة لاحتواء روسيا وإظهار قدرة واشنطن على الفعل. وهذا ما عبّر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخيراً حينما قال: «يبدو لي أن الولايات المتحدة ليست قلقة بشأن أوكرانيا، فالمهمة الرئيسية هي احتواء روسيا، وأوكرانيا مجرّد أداة للوصول إلى الهدف».
* باحث لبناني