ليس عزيزاً أن يُبحث في نظرية فقهيّة، أو معطى ديني، من خلفية فلسفية، أو باستخدام أدوات منهجية فلسفية، حيث إنّ فلسفة الدين أو فلسفة الفقه؛ تشكلان إحدى مجالات الفلسفة المضافة ــــ لتمييزها عن الفلسفة في مضمونها الوجودي (الأنطولوجي) ــــ وصولاً إلى الفلسفة السياسية، التي تتقاطع مع هذا الموضوع (ولاية الفقيه).والذي دعاني إلى كتابة هذا المقال، هو صيرورة هذا الموضوع مادة على لسان بعض السياسيين وإعلامهم، واستخدامهم له في إطار الصراعات السياسية القائمة في البلد وغيره، بطريقة تخلو من أي احترام للحدود الفاصلة ما بين السياسة وممارستها من جهة، وما بين الفكر أو العلم أو الفقه من جهة أخرى، بحيث تلمس استباحة من هؤلاء لكل شيء، من الاقتصاد إلى الإدارة إلى المؤسسات، وتغولاً على أي شيء، حتى لو كان ميداناً معرفياً لا يفقهون منه ولو ألفبائه، أو البديهيات لديه. لكن أولئك الساسة عندما يمارسون التعدّي على حقول الفكر أو العلم، ولا يجدون من ينبّههم إلى جهلهم وإلى ضرورة إبقاء هذه الحقول والمجالات بعيدة ومترفعة عن تطفّلهم السياسي، فإنهم يوغلون في تغوّلهم واستباحتهم، خاصة عندما نجد أن بعضاً من الأكاديميين أو الكتبة يعينونهم على فعلتهم هذه، عندما يقعون في المثلبة نفسها.
ولعلّ الأمر يرتبط في مجتمعاتنا بطبيعة ثقافة السلطة السائدة فيه، والتي هي ــــ للأسف ــــ ثقافة موبوءة في بعض ما تنطوي عليه، ولها تعابيرها وآثارها المختلفة ــــ التي منها ما ذكرناه آنفاً ــــ والتي تحتاج إلى كثير من التهذيب والإصلاح، حتى يمكن لنا أن نتخلّص من أهم الأسباب لارتكاس الدولة، وفشلها البنيوي في اجتماعنا العام.
(هيثم الموسوي)

وبالعودة إلى موضوعنا، لا بدّ من القول إنّ الهدف من هذه المقالة، هو لفت نظر هؤلاء إلى أن ممارسة أي خلاف سياسي أو خصومة سياسية أو حتى عدوان سياسي، ليس مقبولاً أن يصل إلى حدود ملامسة التعدّي على فقه طائفة ما، وتشويهه ــــ حتى لو كان الرأي الفقهي خلافياً بشكلٍ أو آخر ــــ أو فكرها، أو إطلاق تصاريح ومواقف تشي بشيء من العنصرية نحوها، وتدعو إلى الإسلاموفوبيا والشيعة فوبيا، وخصوصاً عندما تفتقد هذه المواقف إلى أي أساس فكري، أو رصانة علمية. ولقد أردنا أيضاً أن نبرز نموذجاً لما عليه أولئك الساسة ومن يجري مجراهم من استباحة وتغوّل. وأمّا اختيارنا لمفهوم ولاية الفقيه، فلأن هؤلاء قد أكثروا من الخوض فيه، والعبث في جنباته، حتى بات من غير المقبول الكشح عن تماديهم وعبثهم في هذا الميدان الفقهي.
فواحدةٌ من التباساتهم ــــ مثلاً ــــ عندما تجد البعض يوازي ما بين ولاية الفقيه وما بين الدولة الإسلامية، في إطار التصويب على فئة أو أخرى، مع أن أدنى تأمّلٍ علمي بعيد من التوظيف السياسي، يوصل إلى أن ولاية الفقيه لا تعني بالضرورة الدولة الإسلامية، سواءٌ في مقام التحليل النظري والمفهومي، أم في مقام التعبير العملي والاجتماعي السياسي، بل قد تعني نموذجاً أو آخر على المستوى السياسي، حتى إن البحث قد يُفتح حول إمكانية أن تتآلف مع نموذج معيّن من الدولة المدنية. ومع ذلك يستمر أولئك في ممارسة التحريض والتضليل، دون أي احترام للعقل، وحدود الفكر.
ومن هنا وجدنا أنه من الأهمية بمكان أن نقدّم مختصراً لما نراه في فلسفة ولاية الفقيه، التي نعتقد أنها تحتاج باللحاظ المنهجي إلى أن تتمّ مقاربتها ــــ أو معالجتها ــــ بناءً على مرتكزات فلسفية (الفلسفة السياسية) قبل، ومع، أية مقاربات أو معالجات أخرى، ترتكز على خلفيات وأسس علمية وفكرية مختلفة.
وفي هذا السياق عندما نضع مفهوم ولاية الفقيه في إطاره النظري الواسع، كمادة للتحليل، لاكتناه جملة من مضامينه القيمية والمعرفية في إطار تجلياتها البنيوية السياسية، والإدارية، والاجتماعية، والثقافية، ذات الصلة بطبيعة النظام السياسي، بل النظام في مختلف أبعاده، فإننا نصل إلى جملة من العناوين، نوجزها في ما يلي:
1- المركزية: والمقصود أن هذا المفهوم يفضي إلى بناء نظام يتّصف بمستوى فعّالٍ من المركزية في هيكلية السلطة. ومركزية السلطة تحول دون أن تصل تلك السلطة، سواء في هيكليتها أو في الممارسة، إلى حالة من التشظّي في بنيتها، أو إلى وضع يمكن وصفه بـ«تشلّع السلطة» في بنيانها، مع ما يؤدّي إليه ذلك من الشلل، أو العقم البنيوي عن الإنتاجية والفعاليّة والتطوير.
إنّ من يعاين نظام الجمهورية الإسلامية في إيران على ضوء مفهوم ولاية الفقيه ومضامينه، يستطيع أن يلحظ هذا البعد (المضمون) واضحاً إلى حدٍ بعيدٍ في هذا النظام، وهو ما أمكن له أن يضفي على هذا النظام مستوى متقدّماً من الانسجام والمرونة والفعاليّة والإنتاجية، والتي ــــ من دون شك ــــ لها أسباب وعوامل عدة، لكن لا يمكن أن نغفل عن هذا البعد النظري في فلسفة ولاية الفقيه وأثره في هذا الشأن، سواء على المستوى البنيوي ــــ بنية النظام ــــ أو على مستوى الممارسة السياسية، بل مجمل ديناميات النظام في الميدان السياسي وغيره.
2- العقلانية «العلمية»: عندما تكون الولاية السياسية (مشروعية ممارسة السلطة في الاجتماع العام) للفقيه، بما هو فقيه، أي بما هو عالم بالفقه والدّين في مجمل مجالاته المعرفية، وبما هو عالم بزمانه، مع ما يتطلّبه «العلم بالزمان» من وعي سياسي واجتماعي وإداري وإعلامي وفي مختلف شؤون العصر؛ فهذا يعني أن أساس المشروعية السياسية تلك يكمن في العلم والمعرفة والخبرة التي تتّصل بمجمل المتطلّبات العلمية والمعرفية ــــ من حيثية الفقه والدّين، والعلوم الإنسانية وخبراتها وتجاربها ــــ لممارسة السلطة في الشأن العام. وبعبارة موجزة: إنّ المشروعية السياسية تقوم على أساس من العلم والمعرفة.
نحتاج في لبنان إلى أن نحافظ، ولو على حدٍّ أدنى من احترام العقل، ومكانة الفكر، بمعزلٍ عن أيّ رأي في هذه النظرية أو ذاك النظام


وإن معنى أن يكون الفقيه ابن عصره، بالمعنى العلمي والفكري والثقافي...، وعالماً بزمانه؛ هو إن السيادة سوف تكون للعلم وللمعرفة ــــ وصولاً إلى الكفاءة، بل الأكفئية، التي سوف نبحثها في العنوان القيمي ــــ بما يعنيه ذلك من عقلانية، ومن معرفة واقعية، ومن مقاربة موضوعية. وإن أمكن القول إنّ تعزيز البعد العقلاني، لا يقتصر فقط على هذا العامل العلمي والمعرفي، وقوّة حضوره، وإن كان شرطاً أساسياً فيه، بل يحتاج إلى عوامل أخرى قيميّة وغيرها، تسهم في تخصيب ذلك البعد، والوصول به إلى مدياته المطلوبة، وهو ما سوف نشير إليه في النقطة اللاحقة.
عندما نقرأ الشروط المعرفية والعلمية والقيميّة الواجب توافرها في الفقيه، حتى يمكن له أن يصل إلى منصب الولاية ذاك؛ ندرك عندها ــــ بالتحليل والربط والاستنتاج ـــــ أن البعد العقلاني والعلمي، لا يُكتفى فيه أن يكون حاضراً في الولي الفقيه، بل يجب أن يكون حاضراً لديه بأرقى مراتبه بالمقارنة مع غيره. وهذا معنى ما يقال من مطلوبية أن يكون الولي الفقيه الأعلم من غيره. أي إذا أخذنا مجمل المواصفات العلمية والمعرفية والعقلانية الواجب توافرها في الولي الفقيه، فيجب أن يكون الأفضل ــــ في مجملها ــــ من غيره من الفقهاء والعلماء. وهو ما يعني مطلوبية حضور هذا البعد العقلاني لديه بأرقى مراتبه الممكنة.
وهذا الأمر لا يقتصر على شخص الولي الفقيه، بل سوف يشمل جميع من سوف يتقلّد منصباً أو موقعاً في هيكلية نظام الولاية ذاك. أي إن سمة العقلانية هذه، لن تكون هنا سمةً لشخص الفقيه فقط، بل سوف تكون سمةً لطبيعة النظام الذي يقوم على أساس من ولاية الفقيه.
وهذه العقلانية هي ما تبدّى في سياسات هذا النظام واقعياً، بحيث إن أعداء الجمهورية الإسلامية، وفي الوقت الذي يشنّون فيه حرباً إعلامية وغير إعلامية لتشويه صورة هذا النظام وقيمه، تراهم أحياناً يتحدّثون عن عقلانية هذا النظام، بالإضافة إلى ثوريّته وحضور القيم الثورية لديه؛ من الاستقلال، إلى الحرية، إلى العدالة... حيث يمكن القول إنّ هذا النظام قد قدّم نموذجاً فريداً في الجمع ما بين البعد العقلاني والواقعي من جهة، وما بين البعد الثوري والقيمي من جهة أخرى.
3- العدالة (البعد القيميّ والمعنويّ): والتي تعني أمرين؛ الأوّل حضور البعد القيمي والأخلاقي بقوّة في المجال السياسي، والفعل السياسي، بل في مختلف مجالات الاجتماع العام، من حيث إدارة الدولة له، وتصدّيها لمختلف شؤونه. والثاني الارتكاز إلى الكفاءة، والأفضليّة في بناء السلطة في مختلف مواقعها ومجالاتها، وفي اختيار العامل البشري للإدارة والقيادة.
وهذا ما يتأتّى من مصدرين: الأوّل من جهة أنّ التأكيد على أنّ الولي الفقيه يجب أن يكون الأفضل والأكفأ، من حيث مجمل المواصفات العلمية، والفقهية، والقيمية؛ فهذا لا يقتصر فقط على شخص الوليّ الفقيه، وإنّما يشمل مجمل هرم الإدارة والقيادة في جميع مواقعه، ومناصبه. والثاني أنّ فلسفة العدالة (في مضمونها القيمي والمعنوي) تقتضي الخروج من جميع الأنويّات (نسبة إلى الأنا) الطائفية، والمذهبيّة، والعرقيّة، والقوميّة، والمناطقيّة، والعائليّة... والدخول في البعد الإنساني - العقلاني - القيمي، الذي يؤسّس لمقاربة الأمور بمنطق الجدوى (للجميع)، والمصلحة العامّة (الخير العام)، والتفكير العلمي البنّاء، بعيداً من العنصريّات، والعصبيّات، على اختلاف تمظهراتها، والتي تختزن التأسيس لمقاربات ضيّقة الأفق، وغير عقلانيّة، وغير موضوعيّة، تقطع مع أي آخر، وتؤدّي إلى الكثير من المثالب والمفاسد، كما نشهد في العديد من تجاربنا في لبنان وغيره.
إنّ ما تقدّم يُفضي إلى اعتماد الكفاءة، وليس معايير أخرى، أساساً في أي اختيار يتعلّق بأي موقع رئاسي أو قيادي أو إداري، وهو ما يعني بناء النظام، كل النظام، على أساس من تلك الكفاءة. وهو ما سوف ينعكس على فاعليّة هذا النظام، وإنتاجيّته، وحيويّته، وقدرته على الاستجابة للحاجات ومختلف التحدّيات. وهذا يعني أنّ النظام الذي ينبني على أساس من تلك القيم، ينبغي أن يكون قادراً، وبكفاءة، على القيام بمهامّه، وتحمّل مسؤوليّاته، وأداء واجباته في الاستجابة لحاجات المجتمع والدولة، لا أن يتحوّل إلى عبء على المجتمع، وإلى سبب لارتكاس الدولة، وإلى عامل لانقلابه على واجباته ومقاصده التي كان من أجلها.
قد لا يكون من المبالغة القول إنّ ما أشرت إليه من حضور البعد القيميّ، وفلسفة العدالة بالمعنى الذي ألفتنا إليه، في المجال السياسيّ، والمجال العام، إنّما يعبّر عن مدرسة مختلفة في الفكر السياسي، والفعل السياسي؛ مدرسة ترتكز على العقلانيّة، والمصلحة بمفهومها الشامل والواسع، وليس بمفهومها العنصري الضيّق، لكنّها أيضاً ترتكز بقوّة على ذلك البعد القيمي، والأخلاقي، بشكل واسع وعميق ومعياري. وهو ما يميّزها عن أكثر من مدرسة سياسية ترتكز على المصلحة في إطارها المادّي الضيّق، والفئوي المحدود، والخالي من أيّة اعتبارات أخلاقية وإنسانية.
هذه جملة من المضامين والأبعاد التي يمكن لنا أن نتلمّسها لدى تحليلنا لمفهوم ولاية الفقيه، ومفرداتها النظرية، وما يمكن أن تعكسه من آثار ونتائج قيمية وعملية، على النظام العام (الدولة) المنبني عليها، أو حتّى على الاجتماع العام المتماهي معها، بغضّ النظر عن مدى استجابة ذلك النظام العام، أو الاجتماع العام، لتلك الآثار والنتائج، التي يمكن أن تتأتّى من ذلك المفهوم النظري، وتلك النظرية. إذ إنّ بحثنا الأساس هو بحث فلسفي سياسي، وليس اجتماعياً سياسياً. وسؤالنا البحثيّ لم يكن عن مدى استجابة هذا النظام في مجال أو آخر، لمفاعيل وآثار تلك النظريّة (ولاية الفقيه)، وإنّما هو عن ما يمكن أن تتركه تلك النظريّة من آثار ونتائج على هذا النظام أو ذاك في حال الاستجابة لها.
أمّا مدى استجابة النظام لتلك النظريّة، وأين، وكيف... فهو ومن باب الدقّة البحثيّة، والموضوعيّة العلميّة، ما يحتاج إلى بحثٍ مستأنف، ليس هذا محلّه، وإن أمكن القول ــــ إذا ما أردنا أن نجمل في المقاربة ــــ أنّه عندما نتناول تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران على مدى أربعين عاماً، لنسأل عن أسباب وعوامل هذا الصعود والتقدّم، على أكثر من مستوى، رغم ما تقاسيه من تحدّيات، وتعانيه من صعوبات، لا تبدأ عند الحروب المختلفة عليها إعلامياً وعسكرياً وأمنياً وسيبرانياً وثقافياً واقتصادياً… ولا تنتهي عند حدود العقوبات القاسية التي تُفرض عليها على أكثر من مستوى، فإنّ من أهمّ الأسباب والعوامل التي ينبغي أن توضع على طاولة البحث ذاك، هو تأثير البنية النظريّة والقيميّة (المتمثّلة في نظرية ولاية الفقيه) على قوّة النظام، وفاعليّته، وقدرته على التعامل مع التحدّيات التي يواجهها، وعلى نجاحه في تجاوز مجمل الصعوبات التي اعترضت طريقه، واستمراره في تحقيق التقدّم والإنجازات على أكثر من مستوى.
أقول ما تقدّم، لأنّنا نحتاج في لبنان إلى أن نحافظ، ولو على حدٍّ أدنى من احترام العقل، ومكانة الفكر، بمعزلٍ عن أيّ رأي في هذه النظرية أو ذاك النظام، وأن نحول ما أمكن دون اجتياح العصبيّات، والعنصريّات، على أنواعها، لميادين العلم والثقافة. وأن نقدّم ولو كلمة تنبّه إلى مدى تغوّل أولئك الساسة، عن جهلٍ وقلّة دراية، على حقول العلم والمعرفة، عسى أن يخفّفوا من غلوائهم، وتطفّلهم، ويتركوا حقول الفكر، والثقافة على تنوّعها واختلافها، بعيدة من فسادهم ــــ الفكري والثقافي هنا ــــ وعن عنصريّتهم، وعن الإيغال في إظهار مظاهر العداء والعدوانيّة تجاه فئةٍ أو أخرى من اللبنانيّين، وصولاً إلى تدميرهم لمداميك الثقة بين مختلف فئات الاجتماع اللبناني. ثقة تشكّل أساساً لإعادة بناء الدولة وإنقاذ الوطن.
إنه لا يوجد أضرّ بالوطن، وبمشروع إعادة بناء الدولة، من ذاك الخطاب العنصري المتطرّف والإلغائي، الذي ـــ وللأسف ـــ شاع وفشا من على منابر الإعلام وغيرها، والذي يقضي على أي بعدٍ عقلاني، أو إنساني، أو علمي، بل وطني في مقاربة الأمور. والأعجب، أنهم يفعلون ذلك باسم بناء الدولة واستعادتها، والذي لا يعدو أن يكون كلمة حق يراد بها أكثر من باطل.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية