[إلى هلا.. حلم المدنيّة والهجرة]
ثمّة ارتباط وثيق بين موجات الهجرة من الجنوب ونمط التراكم الرأسمالي، سواء المعتمد على الحرب، أو على تسريع الانهيار الاقتصادي بأدوات ليبرالية. الإطار الجغرافي للهجرة هو نفسه، منذ شروع الثورة الصناعية في الغرب باستقدام العمالة الرخيصة والمواد الخام من دول الجنوب، على وقع التفكُّك الحاصل فيها، إن لم يكن بالغزو والاحتلال المباشر، فأقلّه عبر تشجيع القلاقل الاجتماعية، وتأليب فئات الشعب هناك على بعضها البعض. دول الجنوب، بدورها، لم تساعد في حشد الفئات العاملة التي منحتها الشرعية السياسية في وجه هذه السياسة، فالانقياد بسهولة إلى الحرب، وترك عملية الإنتاج للتفرّغ للعمل العسكري، إن لم نقل لفرضه، حتّى على الفئات التي تؤيّده في مواجهة «التدخّل الإمبريالي»، سمح بخلخلة البنية الاجتماعية للطبقات العاملة التي انتهت لاحقاً إلى الهجرة، بعدما تبيّن لها أنّ وجودها، بحدّ ذاته وليس فقط إنتاجها أو قوّة عملها، قد أصبح مهدداً. هذا المسار تكرَّرَ في معظم الانهيارات الاجتماعية والاقتصادية التي حصلت في الجنوب، خلال المئتي عام الأخيرة، إلى درجة تحوّله إلى وصفة جاهزة لتسريع، ليس فقط انهيار عملية الإنتاج وبالتالي استحالة التقدُّم أكثر على طريق التنمية، بل أيضاً انتقال الطبقة العاملة في هذه الدول من مناهضة الرأسمالية الغربية إلى طلب اللجوء لديها، تحت وطأة الحاجة إلى العمل، وإعادة إنتاج شروط الحياة، في سياق معاكس.
«بيت المهاجر» (أنجل بوليغان ــ المكسيك)

سياق الهجرة من الإقليم
الهجرات ترافَقَت دائماً ليس فقط مع تطوُّر عملية التراكم الرأسمالي، بل أيضاً مع تركُّزها، وخصوصاً في الفترة بين الحربين العالميّتين, الأولى والثانية. إذ وصل التنافس بين الرأسماليات العالمية حينها إلى أشدِّه، مع ازدياد الحاجة لدى المعسكر الذي تمثّله بريطانيا وفرنسا (الولايات المتحدة لم تكن في الصورة حينها) إلى إزاحة «المارد الألماني» الذي كان قد بدأ بالصعود، الأمر الذي تصاعَدَ أكثر لدى تبيُّن تزاوُج نموذجه في التراكم مع النزعة الشوفينية المتمحورة حول العرق الآري، بما تمثّله بالنسبة إلى هاتين الدولتين من خطورة على مصالح الاستعمار القديم وحتى على مصالحهما الرأسمالية داخل القارّة نفسها. انعكاس هذا التحوُّل على الإقليم هنا، بُعَيْد الحرب العالمية الأولى، تمثّلَ في بدايات تفكُّك السلطنة العثمانية، حليفة ألمانيا في الحرب. إذ ترافَقَت خسارتها، ليس فقط مع نُذُر الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين وأبناؤه انطلاقاً من الحجاز، بل أيضاً مع فشل سياسة التجنيد الإجباري التي اعتمدتها السلطنة، حتى قبيل الحرب، لإجبار المواطنين العرب في الولايات التابعة لها على الذهاب إلى الجبهات المشتعلة.
لا يقدر الريع الآتي من الخارج على تعويض عناصر عملية الإنتاج حتى وهو يجسّر الفجوة الحاصلة في الناتج المحلّي على شكل سيولة نقدية بالعملة الأجنبية

السياسة التي عُرفت حينها بـ«السفر برلك» (والتي استوحى منها الأخَوان رحباني لاحقاً أحداث فيلمهما الشهير المسمّى بالاسم نفسه) تسبَّبت باضطرابات كبيرة داخل ولايات السلطنة، العربية، نتيجة امتناع الذكور في سنّ التجنيد حينها عن السَّوْق، وتفضيلهم، هروباً منها، الهجرة إلى الأميركيتين، وتحديداً إلى أميركا اللاتينية. نتائج هذه الهجرة على «الدول» التي كانت تخضع لحكم السلطنة كانت أسوأ حتى من نتائج الحرب نفسها، لأنّ الهزيمة في الحرب اقتصرت على الجبهات، وعلى نفوذ السلطنة داخل أراضيها، بينما استمرّت نتائج الهجرة بالتفاعل، حتى بعد انهيار السلطنة، لجهة تفكُّك أنماط إنتاجية بأكملها، وخسارة قوّة العمل المتمثلة في الذكور، لمصلحة اقتصاد الأميركيتين. وهو ما قاد لاحقاً إلى المجاعة التي حلّت بالإقليم، كنتيجة مباشرة لفقدان أجزاء كبرى من الناتج المحلّي في سوريا ولبنان وفلسطين، وعدم قدرة الهياكل الإنتاجية التي بقيت على تعويضها، إلا بعد مرور جيل أو جيلين، وحلول قوّة عمل جديدة في سن الإنتاج بدلاً من نظيرتها التي استقرّت في الخارج. حتى التحويلات النقدية التي بدأت تصل تباعاً، بُعَيد الهجرة، للعائلات هنا، لم تخلق تراكماً، بالمعنى الفعلي للكلمة، لأن قيمتها كانت تعتمد على فارق سعر الصرف بين العملتين المحلّية والأجنبية. صحيح أنّ ذلك يضع، سواء حينها مع نمط التراكم البدائي أو حتى اليوم، الفوائض المتاحة في خدمة الأسر على شكل طلب على سلع وخدمات، ولكنه لا يعوِّض على المدى البعيد عن فقدان عناصر عملية الإنتاج نفسها، التي لا يقدر الريع الآتي من الخارج على تعويضها، حتى وهو يجسّر الفجوة الحاصلة في الناتج المحلّي، على شكل سيولة نقدية بالعملة الأجنبية.

الهجرة بين الأوروبيّتين (سابقاً)
والحال أنّ هذا الشكل الذي تفقد فيه «دول الجنوب»، حتى قبل تحوُّلها إلى دول قومية، ناتجها المحلي وقوّة عملها لمصلحة الشمال الرأسمالي، لم يكن هو الوحيد حينها. فداخل دول الشمال نفسها كانت التحوُّلات، التي قادتها الحربان العالميتان وتداعياتهما الاقتصادية، تصبّ في مصلحة الاقتصادات التي يتمركز فيها رأس المال أكثر، على شكل أسواق مشتركة وتكتُّلات اقتصادية كبرى تزداد فيها الحاجة، ليس فقط إلى العمالة الرخيصة، بل أيضاً إلى أشكال أخرى من تدفُّق رأس المال والسلع والخدمات. صعود النازية في أوروبا، في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، حفّز هذا الاتجاه في التطوُّر الرأسمالي، وخصوصاً بعد الكساد الكبير في عام 1929، حيث برزت الحاجة إلى التقليل من آثار الحرب على الاقتصاد، عبر جعل تدخّل الدولة فيه يحصل لمصلحة التراكم الداخلي، أي النموّ وتحفيز قطاعات الإنتاج والعمل، بدلاً من إهدار الموارد والرساميل على العسكرة، بوتيرة متسارعة، كما كانت تفعل ألمانيا، بزعم حماية تنافسيتها أكثر. اعتماد الكينزية كوجهة للرأسمالية الغربية صبَّت في الاتجاه نفسه، مدفوعةً بصعود الاشتراكية في العالم، على اعتبار أنّ نموذج هذه الأخيرة يتناقض تماماً مع التنافسية الشديدة التي تتمحور حولها الرأسمالية. والحال أنّ وقوع الحرب مع ألمانيا كبح هذا التطوُّر في الغرب إلى حين، فعادت نزعة العسكرة للظهور على نحو أكبر، وظهرت الحاجة، مع بروز الحلف النازي الفاشي بين ألمانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى اليابان، إلى كسر العمود الفقري للرأسمالية الألمانية، ولكن عبر الحرب هذه المرّة، وليس عبر تحفيز التنافسية معها من خلال تكتّلات وأسواق كبرى مع الحلفاء.

شهِدَت الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعه الكتلة الاشتراكية، تسارُعاً كبيراً، ليس فقط في وتيرة الهجرات بل أيضاً في أنماطها


يمكن القول في هذا السياق إنّ التدمير الذي خلّفته الحرب في ألمانيا لم يطَلْ بنى الاقتصاد التحتية فحسب، بل أيضاً قواه العاملة، إلى جانب الرساميل وهياكل الإنتاج التي كان الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة يتطلّعون إلى إعادة هيكلتها بالكامل، مع اعتماد «مشروع مارشال» لإعادة الإعمار لاحقاً. الهجرة التي حصلت، بهذا المعنى، على إثر الهزيمة، لم تكن كاملة، ولم تصبَّ تماماً لمصلحة القسم الغربي من ألمانيا الذي تحالف لاحقاً مع الولايات المتحدة، ولكنها مثّلت لحظة تحوّل. لحظة يحصل فيها الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر، تحت تأثير الهزيمة العسكرية، لا التنافس على الأسواق كما كانت عليه الحال حين كانت البلاد في ذروة صعودها الرأسمالي. الإمساك سوفياتياً بالقسم الشرقي من ألمانيا قلّلَ من آثار الهزيمة اقتصادياً، لأنّ إعادة الهيكلة التي حصلت وفقاً لـ«مشروع مارشال» لم تنسحب عليه، لا بل حصل التطوّر هناك باتجاهات أكثر تقدُّمية، أقلّه اقتصادياً، وعلى صعيد قوى العمل وهياكل الإنتاج. حدَّ ذلك من آثار الهجرة المتوقّعة، وأبقى القسم الأكبر من الطبقة العاملة الألمانية في مواقع إنتاجها، لكي تعاود مع الاشتراكية بناء ما تهدّم بفعل الحرب والمنافسة الرأسمالية المحمومة قبلها. هكذا لم يحصل في ألمانيا الشرقية حينها تركّزٌ كبير لرأس المال بفعل التنافسية المتعاظمة والاندماج الكامل مع الغرب، بل حُوفظ على نمط إنتاج يتيح لقوى العمل التطوّر، ضمن علاقات إنتاج أكثر استقراراً بكثير من نظيرتها الرأسمالية، وإن لم تكن بمستوى إنتاجيتها، لأنّ الاكتفاء الذاتي الذي تتمحور حوله الاشتراكية يتناقض مع تثوير علاقات الإنتاج لمصلحة الرساميل والتدفُّقات الرأسمالية الكبرى. وقد أبقى هذا النموذج، بخلاف السرديّة الليبرالية عن الحكم في ألمانيا الشرقية، سابقاً، على بنية الاقتصاد هناك، لجهة هياكل الإنتاج وقوى العمل، إلى حين انهيار المنظومة الاشتراكية ابتداءً من عام 1989. حيث بدأت تظهر منذ ذلك التاريخ، وفي أوروبا الشرقية تحديداً، أشكالٌ من الهجرة والانهيارات الاقتصادية لم يسبق لها مثيل، أقلّه في أوروبا، حتى في ذروة هزيمة النازية في ألمانيا.

خاتمة
شهِدَت الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعه الكتلة الاشتراكية، تسارُعاً كبيراً، ليس فقط في وتيرة الهجرات بل أيضاً في أنماطها، لأنّ وجوده، من خلال التحالفات مع دول الجنوب التي تبنَّت الاشتراكية كنمط إنتاج وحياة، كان عائقاً أمام تسيُّد الرأسمالية الغربية في العالم، وبالتالي تزايُد اعتمادها على العسكرة في تسريع وتيرة الانهيارات هناك. فبعد المنظومة الاشتراكية، انهارت يوغوسلافيا وتفكَّكت على مراحل، بفعل التدخّل الأطلسي العسكري الذي غذّى الانقسامات العرقية والطائفية داخلها. وكذا الأمر مع العراق، سواء في سنوات الحصار أو بعد الغزو، لأنّ التفكّك الذي طال الدولة هناك وأنماط إنتاجها وقواها العاملة انعكس مبكّراً على المجتمع، حتى قبل الغزو، على شكل هجرات جماعية متلاحقة وصلت إلى ذروتها بعد الاحتلال في عام 2003.
ثمّة نمطٌ آخر أيضاً، لم يكن شائعاً قبل انهيار الاشتراكية في العالم، وهو حصول التراكم الرأسمالي على حساب دول رأسمالية داخل معسكر الشمال، حيث لم تعد ثنائية شمال ــــ جنوب تنطوي على بعد جغرا ــــ طبقي فحسب، بل بدأت تحدث فيها تداخلات وتعقيدات، تجعل من الشرق هناك، وحتى الجنوب، «جنوباً» بالمعنى الذي يُشار فيه إلى تموضع دول العالم الثالث طبقياً وجغرافياً، بالنسبة إلى دول الشمال الرأسمالية. هكذا تعدَّدت هويات الصراع بين الشمال والجنوب، وانتقل الانقسام أو الاستقطاب بينهما إلى داخل الشمال نفسه، مع أزمة ديون منطقة اليورو، والتي أعقبت أزمة الرهون العقارية في عام 2008. انقسمت القارّة حينها بتأثير سياسات التقشّف التي فُرِضت على الدول المتخلّفة عن سداد ديونها إلى دول شمال، بقيادة ألمانيا، ومعها المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، ودول جنوب شمَلَت، إلى جانب اليونان التي وقَعَ عليها عبء الأزمة بأكملها، كلاً من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال. استمرّت تداعيات أزمة الديون عشرَ سنواتٍ تقريباً، شهدت فيها هذه البلاد، وتحديداً اليونان، انهياراتٍ اقتصادية واجتماعية لم تشهدها دولة في أوروبا من قبل حتى في فترة الحربين العالميتين.
ازدياد الاستقطاب الطبقي داخل الدول الرأسمالية بهذا الشكل هو نتاج زوال الكوابح التي كانت تمثّلها الاشتراكية في العالم. إذ لم يكن وجودها عائقاً أمام حصول تراكم على حساب دول الجنوب فحسب، بل أيضاً في وجه الانقضاض على دول الهامش الرأسمالي التي لا تتمركز فيها الثروة وتتراكم بالمقدار نفسه ولا تحظى بالفرص نفسها التي تحظى بها دول المركز الرأسمالي، سواء في أوروبا أو في أميركا.
* كاتب سوري