تعدّدت مدارس تفسير التغيير الاجتماعي وأسبابه وكيفياته، فضلاً عن توقّع حدوثه، وباتت دراسات التغيير الاجتماعي أحد أبرز فروع علم الاجتماع ومحل اشتغال المفكّرين وعلماء الاجتماع والسياسة. وغنيّ عن القول إنّ مسألة التغيير الاجتماعي تدور إشكاليّتها حول القدرة على مواءمة وتكييف النظام القائم مع التحوّلات الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء.يتجاوز تفسير عملية التغيير البعد الاقتصادي والعامل الواحد، ليصل إلى المعطى الثقافي والقيم، ولا سيّما عندما تتّسع «الهوّة» بين الطموح والتطلّع والإدراكات وقيود المنظومة (أو المنظومات) التي تحول دون ذلك. يتجلّى ذلك من خلال تزاحم الأسئلة الجديدة والجوهرية في المجتمع، والتي تبقى تبحث عن إجابات، بينما يقف النظام والقيّمون عليه أمام تحدّي الاستجابة والتكييف وتحقيق التقدّم دون المسّ بالاستقرار كأصل اجتماعي وحاجة أولى.
ولنا كشاهد على ما سبق «حالة الثورة» التي عاشتها المنطقة في العقد الأخير، والتي يمكن تفسيرها أوّلاً بكونها عبّرت عن الشقّة والفجوة التي ازدادت اتساعاً بين إدراكات الفرد العربي انتظاراته للقيام بدور مؤثّر على وقع جملة تغيّرات أصابت واقعه وانتصارات مقابل شبكات منظومات سياسية ــــ دولية ومحلية ــــ حالت ولا تزال تسعى إلى احتوائه وتقزيم آماله وتسطيحه لتأبيد الهيمنة عليه.
وما من شّك أنّه كان للنموذج اللبناني الدور الكبير في تخليق هكذا نظرة مستجدّة للذات عند المواطن العربي بعد عقود من الخيبات والإحباط. فتجاوز لبنان غيره في امتلاك حيوية الفعل والتأثير في الواقع العربي و«الشخصية العربية»، ما عجّل في تحوّلات خارجية وداخلية أدّت إلى طرح جملة أسئلة عميقة يبدو أنّ النظام، والقائمين عليه منذ الطائف، لم يهتدوا بعد إلى إجابة وافية عليها. وعليه، فإنّ لبنان، للسبب الآنف ولغيره من الأسباب، يحتاج أكثر من غيره إلى إعادة تقويم العلاقة بين طرفَي الكينونة السياسية ــــ السلطة والشعب، والفرد والمجتمع ــــ وللبحث المخلص والمسؤول لبلوغ ذلك تحت سقف وحدة الكيان ورسالته وضرورته. ولا يمكننا بأي شكل مجاراة ما يردّه البعض من حديث عن استثنائية لبنان بحيث يستحيل فيه التغيير إلا من بوابة الخارج وتوافقاته أو الاقتتال الداخلي، رغم إدراكنا للصعوبات.
فما هي مؤشرات وعناصر التغيير التي أصابت لبنان في الصميم، بحيث أمكن الحديث عن أنّ اللبنانيين بغالبيتهم وبمعزل عن الخلفية الفكرية أصبحوا في «وضعيّة التغيير»؟

في المؤشرات الداخلية
ــــ حالة النظام، إنّ أي نظام سياسي يُفترض أنّه يرتكز على وجهة، وقيم، وتوازنات. وبإجماع المتبصّرين، فإن الوجهة لم تتوافر (بغضّ النظر عن السبب، هل هو نفس اتفاق الطائف أم تطبيقاته المشوّهة؟). والقيم تراها تبدّلت في المجتمع من خلال إدراكات ومناظير جديدة وتجارب فاعلة انبثقت منه. والتوازنات الإقليمية والمحلية تراها هي الأخرى تغيّرت على غير ما رست عليه في العقود الماضية.
ــــ عودة نقاش الهوية في لبنان، فرغم أن الطائف كان قد أكد هوية لبنان العربية لكن لم يكن هناك إشكالية تحديد معنى العروبة. فمن هو العربي؟ وما هي العروبة؟ وأي عروبة تشبه خصوصية لبنان؟ العروبة الحضارية عرّفت تاريخياً ربطاً بالصراع مع إسرائيل، ومن خلال إدارة التنوّع والحرّية ورفض الذل والتأكيد على الكرامة الإنسانية والوطنية. فكيف بتعريفها في ظل أنظمة عربية بغالبيتها غدت متحالفة مع عدوّ المجتمعات العربية، أي إسرائيل، وأنظمة متناقضة مع السواد الأعظم من شعوبها. فهل العروبة عروبة السلطات والحكام، أم عروبة القيم الاجتماعية والمجتمعات، وما هو معيارها؟ وهل تحمى العروبة بالحمايات الدولية وقوى الغرب أم بالشعوب العربية وفعاليتها وحيويتها ونزعة الاستقلال عندها والتعبير الشفاف عن ذاتها؟
ــــ النظام القائم، هل هو يساعد في تطوّر المجتمع وتقدّمه أم بتخلّفه وتعقيد قضاياه؟ ليس المقصود هنا دعوة مستعجلة لإلغاء الطائفية كأحد مطالب إصلاح النظام السياسي، فلا يمكن معالجة مشكلة بإلغائها! كيف والمنطقة والعالم يضجّ بأزمات الهوية وتعلو فيه الهواجس؟
ــــ غياب الجهة الراعية، فدستور الطائف اعتمد على الراعي، أي ربط الحلول بالخارج عند كل مفصل، لكن ذلك لم يعد يتوافق مع تهافت النظام الإقليمي وتناقض أجندات قواه، وانشغال كل دولة بمشكلاتها الداخلية وتحدّياتها (وقد تكون هذه فرصة لمحاولة بناء دولة قوية وقادرة عادلة وموحدة).
لا يمكننا بأيّ شكل مجاراة ما يردّه البعض من حديث عن استثنائيّة لبنان بحيث يستحيل فيه التغيير إلا من بوابة الخارج وتوافقاته أو الاقتتال الداخلي، رغم إدراكنا للصعوبات


ــــ توزيع القيم بات مفقوداً، فالسلطة منذ نشوء لبنان الكبير (مع استثناءات) فشلت في مجاراة التحوّل القيمي، فضلاً عن توزيعه.
ــــ حالة حزب الله في لبنان، لجهة نموذجها السياسي، لا تعيش نزعة السلطوية ولا هاجس تقاسم السلطة، وتهتم أكثر في ضخّ القيم وتحصين المجتمع وخلق نموذج استنهاضي فريد ضمن محددات معينة، لهي تجربة جديدة لها تأثيراتها على العقل السياسي اللبناني برمّته والتجربة الوطنية ومستقبلها.
ــــ تنامي حضور الحزب في الملف اللبناني الداخلي وتوجّهه لتعزيز فاعليته وإسهامه فيه بعد 2018، وبالخصوص ما بعد 17 تشرين، حين تبيّن أن أعمدة الكيان وبنى الدولة مهدّدة بالتلاشي ولم تستطع القوى التقليدية القيّمة مواجهة التحدّي، مع ما سيخلّفه هذا الاقتراب المزمع من حزب الله من تأثير على الواقع اللبناني ومشروع بناء الدولة بعد الترميم.
ــــ تبدّلات طرأت على إدراك قسم كبير من اللبنانيين، وربّما السواد الأعظم منهم. فالمسيحيون، بغالبيتهم المطلقة، لم يعودوا رهن السياسات الأميركية وتبعاتها، ولا حليف إسرائيل الذي يفترض الحذر منه، ولا ديفرسوار الغرب إلى بلاد الشام. كما لم يعد المسلمون أولئك الذين ينظرون إلى لبنان كمعبر للوحدة العربية الشاملة، ولا الاستعانة باللاجئين الفلسطينيين للتغلّب على خصمهم السياسي ولا يحلم أي منهم في التخلّص من الوجود المسيحي الذي راود بعض زعماء لبنان في العقود القليلة الماضية. فالمسيحيون بجلّهم اليوم يعادون إسرائيل، وهذا تحوّل، والمقاومة كأكبر وأهم تيار سياسي تؤمن بنهائية الكيان اللبناني وضرورته وتميُّز رسالته. وهذان تحوّلان جوهريّان لم ينتجهما الطائف، بل صنعتهما قوى مجتمعية وليس النظام أو رعاته.
ــــ توسّع الفضاء السياسي الداخلي في لبنان، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، وعجز السلطة عن فهم ومواكبة ذلك، فضلاً عن توسّع الانتظارات والمرتجى من لبنان ونموذجه ودوره.
ــــ فشل كامل للنظام الاقتصادي القائم منذ تأسيس لبنان. معلوم أنّ الطائف تجنّب الخوض في مسألة الاقتصاد لأسباب معروفة، لكن تحوّلات الزمن الحالي جعلت من وزارة الاقتصاد تناهز في أهمّيتها وزارة الأمن وتتخطاها تأثيراً. كما أنّ توزيع المجالات بين الطوائف (مالي ــــ اقتصادي/ أمني ــــ عسكري) بات متعذّراً.
ــــ أزمة شرعية الطبقة السياسية التقليدية (لا نتحدث عن القانونية)، إذ لم تظهر الطبقة أنها قادرة على التعاطي مع مستجدات المرحلة واستشعار تحوّلاتها، فضلاً عن دورها الأساس في تثبيت الهوية الوطنية وبناء الدولة حتى باتت غريبة عن الناس والمجتمع.
ــــ لبنان كيان انتصر على إسرائيل في أكبر تحدٍّ لنظريّة قوّة لبنان في ضعفه التي بنيت عليه السردية اليمينية تاريخياً. ولبنان انتصر وثبّت كيانه ووحدته بشبكة تفاهمات حقّقت الأمان الاستراتيجي والسياسي وحالت دون انفجاره عملياً رغم الزلازل المحيطة.
ــــ سوء الإدارة والتخطيط. أحياناً يكون هناك نظام فاسد وسياسيون صالحون، وأحياناً يكون هناك نظام ناجح وسياسيون فاشلون، لكن لبنان ابتلي بنظام مركّب ومعقّد وغالبية طبقة سياسيه كانت كفيلة بإفساد شريحة من الشعب واستزلامه تحت عباءة الدفاع عنه.
ــــ تراجع نماذج الأحزاب الكلاسيكية التقليدية، في العالم عموماً ولبنان على وجه الخصوص، وبالتالي لم يعد واضحاً أي التجارب ستكون أنجع.
ــــ تجاوز «جيل الشباب» بأسئلته قدرة السلطة والنظام على الاستجابة لها. فالهوّة اتّسعت بعدما تجاوز المجتمع سلطته وتخطّاها، فالمجتمع وقواه أشدّ تأثيراً من السلطة وهو الضمانة لوحدة المجتمع وتماسكه أكثر ممّا هي عليه أو يجب أن تكون هي عليه في مبررات وجودها.

في المؤشرات الخارجية
ــــ انهيار النظام الإقليمي القديم الذي انبثقت عنه التسويات واتفاق الطائف ضمناً.
ــــ تراجع منسوب الرهانات على الولايات المتحدة والاطمئنان لسياساتها عند حلفائها واستشعارهم أنّ سياسات أميركا أضعفتهم أكثر ممّا أضعفت خصومهم وأدّت بهم إلى تشظٍّ وتراجع حادّ.
ــــ تراجع قوّة وفاعلية إسرائيل في القيام بدور محور الهندسة الأميركية للإقليم وتغيّر في النظرة إلى قدرتها وسطوتها عند مجتمعات واسعة في الإقليم.
ــــ تراجع وزن ومكانة ومقبولية المملكة السعودية في الإقليم عموماً، وأيضاً كأحد الرعاة للمسألة اللبنانية.
ــــ الانغماس الأميركي المباشر في مواجهة حزب الله في لبنان وتوقّع ازدياد ذلك.
ــــ تغيّر البيئة الدولية وتنامي النفوذ لقوى مثل إيران وروسيا والصين في الإقليم على وقع توقّعات ازدياد حدّة المنافسة بين هذه القوى من جهة، وأميركا من جهة أخرى، وبالتالي مساعيهم لبناء شراكات ومصالح عابرة، وحتماً سيكون لبنان، وسوريا، أمام فرصة محتملة جراء هذا التنافس وربما الصراع.
ــــ فشل النموذج النيوليبرالي عالمياً، ما أرخى بظلاله على سؤال «هوية لبنان الاقتصادية» القائمة اليوم وقدرتها على الاستمرار.
ــــ استمرار السياسة الأميركية في البحث عن أدوات وإنتاج حلفاء، وهي تعتبر ما يسمّى الـ«NGO» أحد أوجه إعادة الإنتاج هذه، لكن هذه الأداة تحتاج إلى مدّة طويلة لتصبح حاضرة ومؤثرة في المشهد، فضلاً عن أنّ هذه الجماعات تحمل مشروعاً نقدياً أكثر منه رؤية بنائية، وينظر إليهم في مجتمعاتنا بعين الريبة باعتبارهم أدوات تكتية يستخدمها الأميركي والأوروبي للتوظيف والهيمنة، ما يصعّب نيلهم المقبولية الضرورية.
انطلاقاً من هذه الوقائع والحقائق، بات علينا أن نقول: إنّ التغيير وقع فعلاً والمسؤولية تقضي بالبحث المخلص عن سبل مواءمة وتكيّف النظام، ومن يجب أن يكون قيّماً عليه مع هذه التحوّلات الهائلة تحت سقف الوحدة والحفاظ على الاستقرار. فما هي الخطوات الممكنة؟ وما هي حدودها؟ ومن أين نبدأ؟ وكيف يمكن أن نوفّق بين الممكن والمطلوب فعلياً كوننا في بيئة إقليمية متقلّبة وغير مستقرّة ولا يمكن الركون إليها؟ أي كيف نربط بين الملحّ والضروري ــــ البعيد؟ ــــ هذا ما سنحاول التطرّق إليه في مقالة ثانية.
* باحث لبناني