كلّما سمعت أو قرأت عن إيديولوجي يميني متطرّف، وخصوصاً إذا كان من المتعثّرين بهويّتهم، يعاودني شوقي المفرط لهواية التسلّق إلى أعالي تطرّفه ثم القفز إلى أسفل ارتباكه الوجودي. تفضّلوا: شريف مجدلاني!ليس بيني وبين مجدلاني معرفة شخصية، ولكني تناولت بعضاً من كتاباته لتكوين فكرة أعمق من أن تكون سطحية عن خواطره. للأمانة، أجد في قلمه براعة وذكاء، ونوعاً مميزاً من جمال التعبير. غير أن القلم المشحوذ بمبراة ما يُسمّى بالتبشير الحضاري الفرنسي (كما جسّده المستشرق أرنست رينان العلمي والعنصري)، كي لا نستخدم تعبير «الاستعمار» خوفاً من انهيار جهاز مجدلاني العصبي، يتحوّل إلى شفرة ثقيلة الدم تمزّق إحساسه المرهف وتغرق ذكاءه في وُحول سياسات الأمم وأزقة المناكفات القبلية. للأسف، يتناطح مجدلاني ــــ الحساس والذكي مع مجدلاني ــــ المتطرّف الفئوي على صفحات كتابه «بيروت 2020: يوميات الانهيار» (الترجمة الإنكليزية، إذ لم أجد النسخة الفرنسية الأصلية حيث أسكن). والأسوأ من ذلك أن المؤلف يستعمل المعاناة الشعبية من ثالوث النكبات في لبنان ــــ جريمة المصارف، جريمة المرفأ، وجريمة الحصار الأميركي ــــ لكي يمرّر سردية طائفية تعبنا منها وتطرّفاً يمينياً مبتذلاً ومكرّراً، إلى جانب رأي سياسي مبسّط عن قصد إلى درجة الإغماء، يروق للعقول البسيطة التي تتشمّس في حضانة الاستعمار ــــ عفواً، في التبشير الحضاري ــــ أو لِغير المبتدئين من القراء الأجانب في أحوال هذا البلد المنهك.
مجدلاني كتب بالفرنسية كي يخاطب القارئ الفرنسي أوّلاً والأوروبي والأميركي لاحقاً، علماً بأنه ليس من ضرر في ذلك أبداً. «يوميات الانهيار» لم يُكتب بالعربية ولم يُترجم إليها بدايةً لأننا نعرف أن حكومات القوة الشرائية في الخليج العربي وسياساتها الثقافية آخر همّها الأدب والفكر والتنوير بين شعوبها. أنا أؤيد أي عمل صادق يشرح معاناة شعبنا من الجرائم الكارثية القديمة ــــ الحديثة والمتراكمة بحقه، وأحبّذ المشاركة في الإبداع الإنساني بين المجتمعات التي تُقدّر العطاء الفكري. وإذا غربلت «يوميات الانهيار» لِنفض ‪جراثيم الخطاب المتطرّف المبطّن عنه، لوجدته عملاً جيّداً وملهماً في معظمه (على عدم كمالية الترجمة لنسخته الإنكليزية)، واضعاً صاحبه بين مبدعي بلدنا الذي نحبّه ونعتزّ بعطاءات شعبه. لسوء ‬ حظنا أن مجدلاني أفسد طبخته بإضافة التوابل السياسية المعهودة التي تعشقها بإصرار التيارات اليمينية المتشددة، بمن فيها المحافظون الجدد والقدامى، الحركات الليبرالية المتصهينة منها، واليساريون المتقلبون يمينياً حسب سوق البورصة النفطية.
أفضل ما في الكتاب هي الفصول التي تُدخل القارئ إلى عمق الأحاسيس والهواجس التي يعيشها شعبنا. مجدلاني يرسم لوحة جيدة وسط الكوارث المعيشية، سهلة ومعقدة في آن. أجملها الفصول التي تُحدّثنا عن تجربة زوجته، الطبيبة النفسية، في معالجة نفسها من خلال حوار انعكاسي وذكي كطبيبة ومريضة كئيبة في شخص واحد بظرف الأوضاع في البلد.
ويل لمن يقف في وجه إيديولوجية مجدلاني اليمينية المتطرفة، فيصبّ نار غضبه عليه مستعملاً مفردات كـ«الطائش وغير المنضبط الجنرال المسيحي ميشال عون»


ربما يجد مجدلاني منفعة شخصية لو أخذ موعداً في عيادة زوجته، كي تساعده على التخلّص من حساسيته ضد «المحمودات» بين شعبنا اللبناني، وخصوصاً «الجعفرات» منهم. حالته المرَضية تبرز جهارة وفظاعة على صفحات كتابه مع كل تكرار لتعبير «الشيعة». وكأنه يريد به نعتاً مذهبياً اتهامياً، سيئ الظن وسلبياً؛ وكأنه يريد القول إن الشيعة هم أصل كل البلاء في البلد. أسلوب كتابته مزخر بكل أنواع الزخرفة والزينة اليمينية المتطرفة إذا لم نقل الطائفية المبطنة. بصراحة، أنا أجهل ماهية مذهب مجدلاني أو معتقداته الدينية، وبصراحة أكثر، لا تهمني على الإطلاق.
يستخدم مجدلاني حساسيته بازدواجية معاكسة أحياناً كسيف بحدّين. يختار بفعالية متى يستعمل النعتين «شيعة» و«شيعي» ومتى يحذفهما ويغفلهما قصداً، علماً بأن تعابير «سنّة» أو «سنّي» أو «ماروني» لم ترد ولو لمرة واحدة في سياق سلبي للزعماء أو مكونات المجتمع اللبناني المذكورين في الكتاب. في تعريفه المفصّل والدقيق عن الـنظام السياسي الطائفي، يوضح للقارئ الأجنبي أنه «يجب على رئيس الجمهورية أن يكون مسيحياً مارونياً، رئيس الوزراء مسلماً سنياً، وهكذا دواليك» (ص 4 في المقدمة). هنا استبدل القطب المتبقي في المعادلة الطائفية السياسية ــــ «الشيعة» تحديداً ــــ بـ«هكذا دواليك» ربما كي لا يضفي مشروعية على دورهم في النظام البشع، حيث يبقى السؤال في ذهن القارئ: لِمَ «الشيعة» يعتدون على حكم لا دور لهم فيه أساساً، أو ببساطة لِمَ لا يختفون من الوجود كما حذفهم مجدلاني بكلمتين!؟
بعض أسماء الزعماء المسلمين دائماً منعوتة لإرضاء حساسية المؤلف الطائفية: «أمراء حرب كوليد جنبلاط الدرزي أو نبيه بري الشيعي…ومنظمة حزب الله الشيعية»، فيما أسماء الزعماء الآخرين مقرونة بـالذكورية والنضال الشريف في «مقاومة السوريين لسنوات، بقيادة رجال كبشير الجميّل وسمير جعجع.» وويل لمن يقف في وجه إيديولوجية مجدلاني اليمينية المتطرفة، فيصب نار غضبه عليه مستعملاً مفردات كـ«الطائش وغير المنضبط الجنرال المسيحي ميشال عون» (ص 6 في المقدمة)، «هذا المتهور والمتفاخر الأخرق، في خطابات كبرى هرائية» (ص 13). هكذا، عند المسلمين أمراء حرب (اقرأ: الدمار والخراب) حسب المذهب (اقرأ: الطائفية) ــــ علماً أنه برأيي هو كلام صحيح عن أمراء الحرب. قائد الجيش الوطني في المؤسسة القانونية الوحيدة في 1989 الجنرال ميشال عون موصوف بالدمار والخراب بحسب مجدلاني، ومنعوت بالـ«مسيحي» (اقرأ: غير وطني)، بينما لدى القبائل الأخرى المسيحية «رجال» تقاوم. ومن هو سمير جعجع؟ يعرفه مجدلاني كـ«سجين سياسي» (ص 7 في المقدمة) بما يحمل ذلك من معاني المظلومية في السياق السياسي، دون ذكر ولو واحدة من جرائم جعجع الإرهابية ‪والسياسية‬ ــــ هل من يتذكر تفجير الكنائس والمشاركة في قتل المدنيين في صبرا وشاتيلا والاغتيالات السياسية من فرنجية إلى كرامي وشمعون وقنص المواطنين، آخرها على مستديرة الشياح/ بدارو في الخريف الماضي؟ مجدلاني يعرفها تماماً.
صحيح أن الرئيس السوري (الأب، الابن من بعده، والروح القدس البعثية) حكم اللعبة الطائفية السياسية في لبنان لعشرات السنين، والجيش السوري احتل عملياً معظم الأراضي اللبنانية حتى الـ 2005. لكن مجدلاني لا يصارح القارئ بأن الجيش السوري تمّت «دعوته» رسمياً ــــ بالإذن من المؤلف سأستعمل نفس التقيؤ المذهبي ثباتاً وتطابقاً مع أسلوبه كي لا ينكسر خاطره ــــ من قِبل «الماروني» بيار الجميّل و«الماروني» كميل شمعون و«الماروني» سليمان فرنجية، استنجاداً لدعم ميليشياتهم العنصرية ضد ميليشيات الحركة الوطنية اليسارية و«المرابطون» السنّة والقوى الفلسطينية الفوضوية. لا يصارحنا أن الاحتلال السوري حصل بمباركة ودعم الملك السعودي وموافقة أميركا، إلى أن تغيّر مجرى الريح بعد الاحتلال الأميركي المباشر للعراق واغتيال «السني» رفيق الحريري (تناولتُ للتوّ حبّتَي أسبيرين كي ألوي دماغي وأرضخ غصباً لأسلوب النعوت المذهبية المحبّذ عند مجدلاني).

غلاف الكتاب

بالمناسبة، لا يوضح الكاتب بالأسماء من هم مُسَمِّمو الحياة السياسية في التاريخ الحديث للبنان ابتداءً من 1993. هؤلاء هم أرباب الطائفية العملانية، أصحاب العقول الممنهجة للفساد السياسي والرشوة المنظمة غير الخجولة (على عكس الفاسدين في العهد القديم قبل السبعينيات)، بطولة رفيق الحريري وفؤاد السنيورة. أو بالأحرى لا يقرن أسماءهم بالبشاعة والسخط كما يفعل مع الآخرين. بل يكتفي بتلقيم القارئ بعض الجمل ‪العليلة دون مستوى المصداقية الكاملة لما يحجبه مجدلاني من معلومات‬. «رفيق الحريري صُنع رئيس وزراء (…) وظهر على الساحة مع طموحات حقيقية لإعادة البناء على الرغم من ذوقه المريب في التخطيط المدني» (ص 18)؛ يا للهول! ثم تدارك نفسه ليضيف بتردد «على ما يبدو استخدم وسائل غير ديموقراطية لتشليح ملّاكي وسط المدينة من أملاكهم، أعطى نفسه بعض الامتيازات والحسابات غير الدفترية، وأغرق لبنان في الديون (…) واُجبر على العمل مع أمراء الحرب السابقين المدعومين سورياً». بعض الامتيازات؟ على ما يبدو، يا شريف، إن خزان معلوماتك مفخوت شوي! أنت تسخط كيف يُولّى علينا شخص فاقد الذوق في الهندسة (أوافقك الرأي في بشاعة سوليدير) ولكن... (امممم على فكرة، قبل أن ينسى مجدلاني وتتبخر معلومة صغيرة وتافهة من باله، يريد إعلامنا، هيك عالسريع، أن الحريري نفسه كان مظلوماً كتير، بس يعني، كيف بدي خبركم، طلع حرامي كبير من الطراز الأول، فاسد من الأول للآخر، خرّب البلد على المدى البعيد بالاستدانة من الخارج ومن المصارف المحلية ــــ التي بدورها سرقت أموال شريف مجدلاني) كان يفضل السرقة الممنهجة بدون مشاركة الحراميي التانيين… ولكن لا حول ولا قوة.
أمّا بالنسبة إلى عرّاب نادي رؤساء الحكومة السابقين (لذيذة شغلة النادي)، يذكره مجدلاني مرة واحدة ويرمي عليه فجلة مهذبة في كل الكتاب. حاف، بدون إضفاء شرف النعوت المذهبية الاتهامية، يذكر أن «رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة» خرج محرجاً بعد 45 دقيقة تقريع عليه من قِبل الحضور في إحدى الأمسيات الموسيقية في الجامعة الأميركية (ص 76). لماذا عدم التكلّف في ذكر دوره الأساسي في سياسات السرقة وشل البلد أسوةً بالآخرين على صفحات الكتاب؟ ربما استراتيجية مجدلاني السياسية لا تسمح.
يتجلى الزهايمر وحالة الإنكار لدى مجدلاني بالتجاهل التام لأكثرهم جاذبية على شاشة الفساد الدائم: «الماروني» رياض سلامة. لم يذكر اسمه أبداً في الكتاب! كيف هيك؟ الرجل يُعتبر المفتاح الوحيد لحركة كل قرش من اليد إلى الجيب، وحافظ كلمة السر افتح يا سمسم منذ سنة 1993 ‪)‬وربما إلى أبد الآبدين ــــ من سابع المستحيلات طرد هذا الرجل أو محاكمته‪(‬. هو المسؤول الأوّل عن انهيار النظام المالي والعقل المدبر للبونزي ــــ سكيم، الموصوم بالعار ظناً قيد التحقيق الجنائي في فرنسا وسويسرا (وربما بسحر ساحر في لبنان)، رابِن هود المصارف الذي يسرق من شريف مجدلاني وكل المواطنين العاديين ليعطي أصحاب المصارف وزعماء الطوائف المتقاعدين منهم والناشطين، المدعوم من كل هؤلاء والكنيسة المارونية والسفيرة الأميركية ونبيه بري وسمير جعجع، الساحر الكاذب «عينك بنت عينك» سحّاب الأرانب من القبعات غب الطلب… مهندس الانهيار هذا غير موجود في «يوميات الانهيار»! يمكن «ما بيستاهل الزلمي» بالنسبة إلى مجدلاني. أرادها مقاطع عقيمة في الكتاب تتكلم عن أيدٍ خفية، وذلك كافٍ لتعتيم الصورة في خيال القارئ الأجنبي وتضييع اللوم، على شاكلة «بمجرد سماع التصدعات الأولى، تم سحب مليارات الدولارات من الحسابات الخاصة» (ص 39). من أعطى الإذن وسجل السحوبات والتحويلات؟ لا ندري. كتبها مجدلاني لينتقل على وجه السرعة إلى هوايته المفضلة: التصويب السياسي مجدداً على عهد الرئيس ميشال عون في معظم الكتاب. أجدني لم أطوِ كلياً صفحةً تخبرنا أن النظام السياسي الفاشل في لبنان يمنع أي طرف واحد من الحكم منفرداً، كي يناقض نفسه على الصفحة التالية بتحميل مسؤولية فشل الحَوكمة والحكومات المستقيلة ورؤساء الحكومة المذعنين للسعودية والبيانات النائمة في جوارير نبيه بري في المجلس النيابي والكهرباء والمحروقات وسعر الليرة، يحمّلها كلها للرئيس عون منفرداً. عن جد عم تحكي؟
ككل لبنانيي الداخل والاغتراب، أشارك مجدلاني الرأي والرغبة في دولة قوية مبنية على الحوكمة الصالحة والقانون. وككل اللبنانيين من الطبيعي أن نتحلق ولاءً ودعماً حول من يترجم الكلام إلى أفعال على الأرض، ما عدا من يكذب على نفسه ويريد البقاء أسير أمراء الحرب. هل فقدنا شعور البطولية ورغبة النصر إلا في الأفلام الترفيهية أو ضمن الأزقة المذهبية الضيقة؟ ولِمَ يتكالب البعض على من حاول بجدية وصدق ولكن منعته الظروف الجيوسياسية من تحقيق النصر المرتجى؟ يبدو لي مجدلاني واحداً من هؤلاء المولعين بالتناقض بين ما يرغبون وما لا يفعلون. عندما أعلن الجنرال ميشال عون قراره نزع سلاح كل الميليشيات في الثمانينيات وجهوزية الجيش اللبناني لطرد الجيش السوري من البلد، لم يفعلها بالأقوال الفارغة في المؤتمرات الصحافية بل بالجزمات على الأرض. لكن يبدو أن تحرير العقول والنفوس أكثر تعقيداً، فيأخذ مجدلاني على الجنرال أنه «وحّد كل الميليشيات والسوريين ضده» (ص 14)، بينما لا يشرح لنا أين السوء في ذلك. ألم يضع مجدلاني في خانة الاتهام كلاً من الجيش السوري ونبيه بري ووليد جنبلاط وإيلي حبيقة وسميـ…آه، فهمتها الآن، سمير جعجع ــــ ذلك «الرجل» ــــ إنه الورقة المارونية الصعبة، صليب ذو الفقار، الذي لا يسهل عليه التفريط به.
في الفصل الـ 42 من الكتاب، يَلوح لي مجدلاني وكأنه يناجي في سرّه إسرائيل كي تخلّص مرة أخرى بعض الموهومين من «الحزب الشيعي»، كما يسمّيه


في الفصل الـ 42 من الكتاب، يَلوح لي مجدلاني وكأنه يناجي في سرّه إسرائيل كي تخلّص مرة أخرى بعض الموهومين من «الحزب الشيعي»، كما يسميه. إذا كان حزب الله قد حرّر، تحت قيادة السيد حسن نصر الله، لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وعزّز موقع لبنان الردعي لتقصير العصا الصهيونية، وإذا بالتعاون مع الرئيس عون والجيش اللبناني منع انهيار حدود لبنان الشرقية أمام الامتداد الداعشي، لماذا لا يُظهر مجدلاني بعض الامتنان وكرم الروح لهكذا نصر للبنان؟ ربما ينتظر مجدلاني أن تسلّح أميركا لبنان بشحنة جديدة من الوكّي ــــ توكّي تحت قيادة فخامة الرئيس المقبل سمير جعجع، تماماً كما الشعب اللبناني ما زال ينتظر مجرّد إذن ــــ أجل، السماح لنا بممارسة ولو نصف كيلو سيادة ــــ من السفيرة الأميركية لتشحن لبنان بالكهرباء عبر أنابيب تمتد من مصر إلى الأردن وسوريا (ربما التفافاً حول إسرائيل كي لا تبني ميني-مستوطنة داخل الأنبوب). أضف إلى لائحة الانتظار السيادية مباركة أميركا بعودة النازحين السوريين إلى بلدهم وسماحها لنا بمقاضاة مجرمي النظام المصرفي. إنه، كما قال زياد، فيلم أميركي طويل.
حزب الله نجح كمقاومة لبنانية ضد الكابوس الصهيوني (ولبنان، كما المنطقة بأكملها، ما زال يكتب فصول صراعه في هذا الموضوع). لكنه فشل عند مشاركته في العمل السياسي الداخلي منذ الـ 2005. تغطيته لمشروع الفاسد الأكبر رفيق الحريري كانت خطأ، وتغطيته المتواصلة لورثة ماكينة الفساد ذاتها (الحريري الابن ــــ جنبلاط ــــ بري ــــ سلامة ــــ فرنجية والصغار حولهم من كل الطوائف) أيضاً خطأ، ومحاولة التوفيق المستحيل، من جهة بين مشروع الحليف عون لمكافحة الفساد والذي لم يبصر النور، ومن جهة أخرى الحليف بري، خطأ. المجموع تراكم أخطاء. هذا لا يعني أن النجاح مضمون لو تغيّرت استراتيجية الحزب. نظام لبنان السياسي، منذ الميثاق الوطني المشؤوم إلى الطائف الكارثي، غير صالح للتنفيذ بتاتاً. نقطة على السطر. هذا هو إرثنا السياسي الطائفي الذي ثبتته فرنسا قبل الاستقلال.
لو اخترنا لأنفسنا أن ننسخ عن فرنسا أسس العلمانية وثقافة الرفق الإنساني ببعضنا البعض منذ البداية، كالثنائي بوفار وصديقه بكوشيه في قصة غوستاف فلوبير اللذين استسلما أخيراً لوظيفة النسخ، لكنّا بألف خير اليوم. لكن رجالات السياسة من الرعيل الأول الذين يذكرهم مجدلاني، من بينهم المفكر والأديب والشاعر كما يصف، اتخذوا لوطننا بتشجيع فرنسي ما لا ترضى به فرنسا لنفسها. فدخلنا في ألغاز ومعضلات وصراعات ومشروع بناء أمة فاشل يتطلب قواعد وعلوم في السياسة والحالة الإنسانية نجهلها، تماماً كما وقع بوفار وبكوشيه في مشاكل إنتاجية بدون التحضيرات اللازمة.
كل قوة عجوز عاجزة تتذكر أمجادها الاستعمارية على لسان مستعمَريها وأزمة هويتهم وحيرتهم الوجودية المفتعلة، فيما أبناؤها وبناتها الحقيقيون يخجلون من ذلك الإرث الكارثي بحق الشعوب المستعمَرة. مجدلاني واحد من هؤلاء المأزومين وجودياً‪.‬ ربما يعاني من أعراض مرض ستوكهولم، لدرجة أن يختلط عليه تقاذف الهوية بين المحتلين المتعاقبين لبلدنا الصغير. يا أخي، كلّنا فرنسيو وأميركيو الهوى والثقافة، ولكننا لسنا بالضرورة متفرنسين ومتأمركين لدرجة المراهقة أو الاقتلاع الجذري. الكثير منا يقرأ ويكتب ويتكلّم الفرنسية والإنكليزية بطلاقة. بعضنا متعدد اللغات عاشق ثقافات ما ينتجه العالم من آداب مميّزة، نتذوقها وكأنها شوكولاتة مُرّة ‪و«دُم‬ ــــ برينيون». لكننا لسنا متشدقين بأيّ منها. بوصلتنا حضارة اللغة العربية وليس العرب. لسنا هائمين تائهين في ضباب ثقافات دول الخليج الترقيعية حيث الأجيال الشابة لم تعد تدري كيف تركّب جملة مفيدة وصحيحة بلغتها الأصلية. هوليوود وديزني يغرفان من إرثنا الثقافي لإعادة تدويره وبيعنا سندباد وعلاء الدين بغلاف جديد ممتع، والنقطة هنا أنهم يستلهمون بأبنائنا وما لدينا من أدب وشعر وإبداع فكري وعطاء في شرقنا منذ أيام الكنعانيين والسوريين من كل أنحاء سوريا الكبرى إلى الحاضر (لا تقلق، لستُ قومياً).
لكن يأتينا مجدلاني بأطروحة سمجة تسلخ لبنان عن هذا الشرق الذي نحن من صلبه: «لبنان…منارة الغزاة من الشرق… والصحراء أو فلسطين أو بلاد ما بين النهرين» (ص 64). إحم إحم. لماذا تعتبر كل من يأتي من الشرق غازياً؟ تناسى مجدلاني أن تاريخنا عانى أية معاناة على يد من لا يعتبرهم غزاة من الغرب. فليسأل الكنعانيين في صور عن مقاومتهم للإسكندر المقدوني، وليبحث في مكتبة جامعة القديس يوسف عن الغزاة الإغريق والرومان والبيزنطيين والصليبيين، إلى العثمانيين والفرنسيين والبريطانيين والصهاينة وآخرهم الأميركيين اليوم. هؤلاء لم يقدموا من الشمال والغرب في نزهة إلى لبنان، بل هم، في مفاهيم الدولة الحديثة، زرعوا بذور التقسيم والانسلاخ الجغرافي والفكري، واستفحلوا عوامل الطائفية الموروثة أصلاً من عهود الخلافة الإسلامية. لكن مجدلاني، خبير التبسيط المتعمد، يسمّي «سنوات الانتداب الفرنسي» كسولة ومتراخية (ص 10)، تلتها حالة باذخة بين رواد الجمهورية اللبنانية الأولى من جون ــــ بول بلموندو وبريجيت باردو، إلى أن تشوّه الحلم مع ظهور «الميليشيات الفلسطينية المتحاربة مع تلك المنتمية إلى الأحزاب المسيحية». يصعب على مجدلاني الجمع المباشر بين كلمتَي «ميليشيات» و«مسيحية» تجاوراً، فيربط الأولى بالثانية بشكل غير مباشر عبر كلمة «الأحزاب». أجل، ياسر عرفات السيئ الذكر والمقاومة الفلسطينية ساهما في تدمير لبنان، ولكن مجدلاني لا يساعد القارئ لتوضيح الدور الأساسي الصهيوني والبريطاني ولاحقاً الإسرائيلي في تهجير الفلسطينيين إلى لبنان وخلق حالة عدوانية دائمة في المنطقة، بالإضافة إلى تناغم الكنيسة المارونية مع الحركة الصهيونية آنذاك ضد مصالح اللبنانيين وشعوب المنطقة على المدى البعيد. ما زلنا ندفع الثمن. وكفانا مناكفات تاريخية… لا يهمّني أية ساعة سكنوا الشيعة في جبال كسروان، ومتى وصل الموارنة إلى جبل لبنان بعد الظهر أو قبله. بلاها دخيلك، بلا هالسردية التعبانة.
مبارَك للقراء الفرنسيين على هكذا تضليل في زواريب الطائفية اللبنانية، مبارَك للجنة تحكيم «Prix Femina» النسائية على مغازلة هكذا ذكورية متطرفة، ومبارَك لشريف مجدلاني على الجائزة الخاصة لعمله الأدبي، بالرغم من المصداقية السياسية المشكوك فيها.
* ناشر لبناني ومحرّر سابق لمجلات أدبية وفنية‪