لم يكن جمال عبد الناصر - الذي نحتفل في مصر وعلى مستوى الأمّة العربية ومع أحرار العالم بالذكرى الرابعة بعد المائة لميلاده - مجرّد رئيس لمصر، وقائد للعرب، وملهم لحركات التحرّر في العالم كلّه فقط. بل كان أيضاً صاحب رؤية ونهج لو التزمنا به جميعاً لما وصلت حال أمّتنا إلى ما هي عليه اليوم من فساد وإفساد، من تخاذل وتواطؤ، من هوان ومهانة.لقد كُتبت المجلدات في هذا القائد الكبير، وستُكتب فيه، لا سيمّا أنه باقٍ في وجدان شعبه وضمير أمّته، وذاكرة الأحرار، رغم مرور 52 عاماً على رحيله. ولكن القليل ركّز على الرؤى الاستراتيجية التي حملها ناصر، والتي كانت واضحة عنده منذ الأيام الأولى لثورة يوليو 1952. بل قبلها حين كان محاصراً في الفلوجة الفلسطينية حين أدرك عمق العلاقة بين مواجهة العدو الغاصب ومحاربة الفساد والاحتكار والاستغلال في الداخل.
من تلك الرؤى الاستراتيجية المهمّة التي أطلقها في كتابه «فلسفة الثورة» عام 1953، هي فكرة الدوائر الثلاث التي ينبغي لمصر الثورة أن تتحرّك فيها. وهي: الدائرة العربية، والدائرة الإسلامية، والدائرة الأفريقية.
إن حديث عبد الناصر عن الترابط بين مصر والدوائر الثلاث هو حديث يجتمع فيه الفكر مع الاستراتيجية في آن. فعلى الصعيد الفكري يأتي الحديث عن دوائر ثلاث ينبغي لمصر أن تتحرّك فيها؛ هو إدراك للتكامل بين الوطنية المصرية وبين عمقها العربي والإسلامي والأفريقي، وصولاً في ما بعد إلى عمقها الإنساني حين لعب دوراً تاريخياً مع عمالقة كبار في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بعقد مؤتمر باندونغ عام 1955، ثم إطلاق حركة عدم الانحياز في قمة بلغراد اليوغوسلافية بعد عام.
لقد أدرك عبد الناصر، بحسّه السياسي الدقيق وثقافته التاريخية الواسعة، أن مصر لن تنتصر في مواجهة التحدّيات الكبرى التي تحاصرها إلا حين تدرك مكانتها وموقعها، وتلعب دورها في الدوائر الثلاث المحيطة بها، والتي أضافت إليها التجربة دائرة العالم الثالث الذي يلعب اليوم دوراً مهمّاً في تحرير العالم من الهيمنة الاستعمارية.
كانت الدائرة العربية لعبد الناصر تعني الحركة القومية العربية التي كان قائداً لها، والتي تحالف مع قواها الرئيسية في مشرق الوطن العربي ومغربه، وأقام معها وبها أوّل وحدة عربية في العهد الحديث بين سوريا ومصر.
أمّا الدائرة الإسلامية، فقد سعى إليها بالتركيز على الرابطة الإسلامية، وبإرسال بعثات الأزهر الدينية إلى العديد من دولها، تحمل معها القرآن الكريم بكل ما يعنيه ذلك من تأكيد على دور العرب، ماضياً وحاضراً، في الإسلام، ودور الإسلام في وحدة العرب ونهضتهم، وعقيدة غالبيتهم، وثقافة وحضارة غير المسلمين العرب.
وكانت الدائرة الأفريقية، التي يمكن أن نضيف إليها الدائرة الآسيوية والأميركية اللاتينية، تعبيراً عن الأفق الإنساني لثورة يوليو وإدراكها أن انتصار حركة التحرّر العربية والإسلامية لن يتحقّق إلا بتكاملهما مع حركة التحرّر العالمية.
لقد رفض ناصر المقايضة بين هذه الدوائر، وإلغاء الواحدة منها لصالح الأخرى. بل أسّس لنهج التكامل بين الوطنية المصرية والعروبة التقدّمية والإنسانية المتحرّرة، مدركاً أن التكامل بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات، مثله مثل التواصل والتراكم، فضائل لا تصون الأوطان وتحميها فقط، بل تقود إلى نهضة الأمم وتنميتها وتقدّمها.
لقد جعلت نظرية الدوائر الثلاث، التي أطلقها منذ الأيام الأولى لثورة يوليو، لمصر والأمّة العربية مكانة كبيرة في العالم كلّه، ومنحت لمصر والأمّة العربية قوّة جعلتها محط أنظار أحرار العالم كلهم، كما هدفاً مستمراً لأعداء الأمة من صهاينة ومستعمرين.
واليوم، وفيما تواجه مصر وأمّتنا ما تواجهه من تحدّيات، تبقى نظرية التكامل بين الدوائر العربية والإسلامية والإنسانية مبعث نهوض لمصر وللأمّة كلّها، وتشكل الردّ على كل «أيديولوجيات» الإقصاء، أيّاً كانت. وحين يسود منطق التكامل بين الدول وداخلها، وبين التيارات وداخلها، يسقط نهائياً منطق الإقصاء وما يرتكز عليه من تكفير وتخوين وإلغاء متبادل.
فلتكن ذكرى ميلاد القائد الخالد الذِّكر دعوةً لتعزيز التكامل بين أبناء الأمّة وتيّاراتها وقواها كما بين الأمّة وجوارها الحضاري الإسلامي، وعمقها الأفريقي الحيوي، ومداها التحرّري العالمي.
* الأمين العام للمؤتمر القومي العربي