كما حدّدت ثورة أكتوبر 1917 البلشفية ملامح ومسار القرن العشرين، فإن تفكّك الاتحاد السوفياتي في الأسبوع الأخير من عام 1991 قد حدّد مسارات القرن الواحد والعشرين وملامحه الرئيسية، وخاصة من خلال نشوء وضعية قطب واحد أميركي للعالم مع هزيمة السوفيات في الحرب الباردة التي تميّزت بالثنائية القطبية. تلك الهزيمة التي توضّحت في عام 1989 وكانت أحد الأسباب الرئيسية للتفكك السوفياتي.قاد التفكّك إلى تغيير الخريطة الجغرافية العالمية مع نشوء 15 دولة وُلدت من الرحم السوفياتي. وأنتج ذلك الزلزال توابع تفكيكية لدول مثل يوغوسلافيا التي نتج عنها سبع دول (منها كوسوفو) ودولتان عن تشيكوسلوفاكيا ،كما لم يكن ممكناً توحيد ألمانيا واليمن عام 1990 لولا علامات الاحتضار السوفياتي. كما أن زوال الاتحاد هو الذي جعل الغرب يقتنع بالاتجاه نحو إنهاء الحاجة الاستعمالية إلى دولة الفصل العنصري الأبارتهيد في جنوب أفريقيا عام 1994 وهي التي كانت أساسية عند الغرب ضد حلفاء موسكو في أنغولا ونامبيا وموزامبيق.
ترافق مع آلام الولادة لتلك الدول الكثير من الدم، ما أنتج حربين بين أذربيجان وأرمينيا، وحرباً في الشيشان، وحرباً روسية - جورجية، وحرباً بالوكالة عبر الاضطراب الأوكراني عام 2014 بين موسكو وكييف، وهناك ثانية محتملة الآن. في التفكك اليوغوسلافي كانت هناك حروب بينية صربية - كرواتية في كرواتيا وصربيا - بوسنية - كرواتية في البوسنة والهرسك، وصربية- ألبانية في كوسوفو، ثم حرب 1999 التي شنّها «الناتو» على صربيا في كوسوفو.
من الناحية السياسية العملية، لم تعد هناك حاجة عند واشنطن، مع انتهاء الحرب الباردة، إلى تحالفات هي أقرب إلى الشكل الاستعمالي مثل ذلك الذي جرى مع الأصولية الإسلامية السنية في أفغانستان عقب الغزو السوفياتي (1979) عندما تم جلب مئات الآلاف من الأصوليين، بتعاون أميركي - سعودي - باكستاني، من أجل محاربة السوفيات في أفغانستان. وهذا ما أدى إلى دعم أميركي بالتسعينيات لأنظمة عسكرية كانت في حرب مع الأصوليين مثل تونس زين العابدين علي ومصر حسني مبارك، وإلى مصادمة واشنطن لنظام حسن الترابي - عمر البشير الإسلامي التوجّه في التسعينيات. وعندما استعيد الزواج الأميركي مع الأصولية الإسلامية السنية مع «الربيع العربي» في عام 2011 وتجسّد هذا في تونس ومصر، فإنه لم يدم طويلاً وانتهى سريعاً وعادت واشنطن للاعتماد على العسكر مثل السيسي في عام 2013. كما أن الاحتضار السوفياتي هو الذي شجّع واشنطن على إطفاء الحريق اللبناني في خريف 1989وعلى الحضور العسكري الأميركي المباشر في منطقة الشرق الأوسط عقب غزو 1990العراقي للكويت وتخفيف الاعتماد على «المخفر اليهودي» الذي كان دوره كذراع ضاربة محلية لواشنطن أساسياً في حربَي 1967و1982.
لينين وستالين لم يستطيعا أكثر من تمدين وتحديث الاتحاد السوفياتي وإدخاله في الصناعة والتقنية المتقدّمتين ولكن عبر نموذج «رأسمالية الدولة»


عملياً، مع انتهاء الحرب الباردة لم تعد أوروبا مهمة لواشنطن كما كانت في فترة الحرب الباردة بوصفها أرضاً للمجابهة مع موسكو. كما أن بروز العملاق الاقتصادي الصيني الذي أصبح في عام 2010 الرقم الاقتصادي الثاني العالمي قد جعل الأميركيين يفكرون بـ«ناتو آسيوي» لمجابهة الصين كما كان «الأطلسي» في عام 1949 لمجابهة ستالين. ويبدو أن تحالف «أوكوس» في أيلول 2021، الذي ضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، هو إرهاص أولي بذلك. وهناك سعي حثيث لكي تكون الهند واليابان وأندونيسيا وفييتنام وكوريا الجنوبية ضمن تلك المنظومة الأمنية - السياسية التي بدأت في «أوكوس» والتي تعتبر المحيط الهادئ - المحيط الهندي منطقة واحدة هي الميدان لمجابهة الصين. كما أن الانزياح الأميركي نحو التركيز على الشرق الأقصى، وهذا معلن منذ خطاب باراك أوباما في البرلمان الأسترالي في تشرين الثاني 2011، قد جعل منطقة الشرق الأوسط بدرجة اهتمام متدنية عند الأميركيين.
هناك استخلاصات من التجربة السوفياتية تفرض نفسها. أوّلها أنه لا يمكن بلوغ الاشتراكية من دون المرور بالمرحلة الرأسمالية بكاملها في البلدان المتخلّفة النمو، وهذا ما يدفع الحزب الشيوعي الصيني منذ الثمانينيات إلى قيادة أكبر عملية تحوّل رأسمالية اقتصادية لم تشهد البشرية مثيلاً لها منذ الثورة الصناعية في بريطانيا بالقرن الثامن عشر. هذا يعني فشلاً للطريق اللينيني وانتصاراً للخط الذي قاله كارل ماركس في «البيان الشيوعي» تجاه الطريق المفترض لألمانيا المتخلّفة النمو وذات العلاقات ما قبل الرأسمالية. لينين وستالين لم يستطيعا أكثر من تمدين وتحديث الاتحاد السوفياتي وإدخاله في الصناعة والتقنية المتقدّمتين ولكن عبر نموذج «رأسمالية الدولة»، وهذا ما أنتج قوى إنتاج جديدة في المجتمع السوفياتي لم تعد ترى سوى القيد في علاقات الإنتاج المتولّدة عن رأسمالية الدولة ونموذجها السياسي المتمثّل في الحزب الواحد. وقد قاد اختلال التوازن الدولي لمصلحة الأميركيين في عام 1983 مع «حرب النجوم»، التي عنت إمكانية تقنية لكسر التعادل النووي الذي قامت عليه معادلة الحرب الباردة، إلى اهتزاز داخلي في القيادة السوفياتية تمثّل في البيريسترويكا، ما أتاح للقوى الاجتماعية الجديدة في المجتمع السوفياتي، وخاصة مع انقسام القيادة السوفياتية مع انقلاب المحافظين الشيوعيين العسكري الفاشل ضد غورباتشوف في عام 1991، المجال للإطاحة بالحزب الواحد وإقامة تعدّدية سياسية بالترافق مع تجاوز نموذج رأسمالية الدولة إلى نموذج اقتصاد السوق.
ثاني تلك الاستخلاصات أن طريق التغريب الثقافي لروسيا، الذي بدأ مع بطرس الأكبر واستُكمل بالبلشفية مروراً بتولستوي وتورجنيف، قد وصل إلى حائط مسدود مع السقوط السوفياتي. وفترة فلاديمير بوتين الحالية يسود فيها جو إيديولوجي يجمع النزعة السلافية القومية الروسية مع المسيحية الأرثوذكسية في شكل يذكر بدوستويفسكي وبيرديائيف، وهما من أكثر من واجها النزعة التغريبية الروسية.
أي طريق «أوربة روسيا»، التي تحدّث لينين حوله في مقال: «حول ثورتنا» في عام 1923 عن أن طريق أكتوبر قد «أتاح لنا إمكانية الشروع بتوفير المقدّمات الأساسية للمدنية، على نحو غير النحو الذي نحته جميع الدول الأخرى في أوروبا الغربية». وهو ما كان لينين واعياً له بأنه طريق تغريبي تمديني لروسيا المتخلّفة لأنه «ينبغي في سبيل إنشاء الاشتراكية بلوغ مستوى معيّناً من الثقافة... فلماذا لا يمكن لنا أن نبدأ أوّلاً بالظفر عن طريق الثورة بالشروط المسبقة لهذا المستوى المعيّن لكي نتحرّك في ما بعد للحاق بالشعوب الأخرى مستندين إلى حكم العمّال والفلاحين وإلى النظام السوفياتي؟». هنا، نجح لينين وستالين في تمدين وتحديث روسيا ولكن لم يستطيعا عبر ذلك الوصول إلى الاشتراكية، بل كانت نهاية الطريق اللينيني مع رأسمالية بقيادة يلتسين ثم بوتين. ولكنّ التغريب الثقافي الذي قصده لينين، بحكم كونه ينتمي إلى الماركسية التي هي مُنتَج أوروبي غربي، ينازعه الآن بقوة اتجاه ثقافي معادٍ للتغريب عند بوتين. وربما إذا حصل تحالف روسي - صيني بمواجهة الأميركيين أن يقود هذا إلى نهاية التغريب الروسي الذي عمره الآن ثلاثة قرون ونصف قرن منذ بطرس الأكبر 1682-1725.
* كاتب سوري