جيء لعبد العزيز بن سعود بنسخة من كتاب مكيافيلّي «الأمير»، فسأل عن مضمونه، فلمّا سمع شرحاً مقتضباً عنه، علّق قائلاً: نحن نطبّق ذلك عمليّاً.فهم جمهرة من فلاسفة السياسة الكتابَ بأنه بمنزلة وصفة نموذجية لصنع جيل من السياسيّين الأشرار. بكلمات أخرى، هو كتاب إرشادي لفهم السياسة، بصفتها مهنة الطامحين للسلطة. وفي بيان خطورة كتاب «الأمير» يكتب المؤرّخ الألماني هينريتش ترايتشكه، بانفعاليّة لافتة، عن تأثير الكتاب على قادة أوروبا بدرجة أساسيّة، إذ كان مرشداً لنابليون الثالث، الذي اعتمد وصفة مكيافيلّي للتحضير للانقلاب. وكان ويليام الثالث يضعه تحت وسادته في المعسكر. وعلى نحو إجمالي، خضع القرن السابع عشر تحت تأثير المكيافيلّية، وتأسّس علم سياسي على تجاهل القانون الأخلاقي. وفي نهاية القرن، تشوّهت العوامل المسؤولة عن قيام الدولة، بسبب طغيان المكيافيلّية، المرتكزة على النفعية السياسية. ويحمّل ترايتشكه مكيافيلي مسؤولية تشوية «السياسة»، إذ ارتبط المعنى القبيح لكلمة «سياسي» بهذه الفترة. وأُسبغت أوصاف قاسية على كتاب «الأمير»، فقيل عنه «تعليم الشيطان».

لا نعثر في تاريخ الدولة السعودية، بدءاً من تجربتَين خاطفتَين في منتصف القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، ما يشي بنقاش فلسفيّ، على أي مستوى، حول المتطلبات التأهيليّة الأخلاقية والقانونية والثقافية لمفهوم الوطن. وعلى الرغم من الضخّ المتواصل لخطاب الوطنية الذي بدأ يتجدّد بعد خموده عقب اعتقال الإصلاحيّين في المملكة في 2004، فإن ما يُراد اختزاله في «الوطنية السعودية» للتعويض عن الفراغ الثقافي والإيديولوجي، مع تهافت الخطابات فوق القطرية (القومية والأممية والإنسانية)، مدفوع برغبة مراهقة لبناء عصبيّة محليّة، وإن بخميرة غير مكتملة، لدولة يُراد تزخيمها درءاً لخطر التفكّك المرافق لها منذ النشأة. نقول النشأة، لأن ما جناه عبد العزيز من حاصل معاركه الداخلية هو سلطة في هيئة دولة. ببساطة، لأن هذه أقصى غاياته وفهمه لمقاتل قبلي يكافح من أجل «ترويض الصحراء» أو يحمل حلماً باستعادة «مرابع الأجداد»، وحين سمح له فارق القوة عمل على تحويل المرابع إلى إقليم ممتد.
تصوّر عبد العزيز عن السياسة، وإن لم يقرأ مكيافيلّي، يجسّده عملياً بربطه فكرة الدولة بـ«إقامة السلطة والسيطرة على الشعوب»، وهي الفكرة المحوريّة في كتاب «الأمير». كانت الدولة بالنسبة إلى ابن سعود تعني التملّك، ولذلك كان ينظر إلى شبه الجزيرة العربية على أنها «من الممتلكات السابقة لعائلته، وأن يتحتّم عليه استعادة كل هذه الأملاك»، وأوضح ذلك لأمين الريحاني بقوله: «لا نسلّم بذرة من حقوقنا... ولا نطلب غير ما كان لآبائنا وأجدادنا قبلنا» (أنظر: جون حبيب، «الإخوان السعوديّون في عقدين 1910 - 1930»، ص 51 - 52).
وحين شرع عبد العزيز في تحقيق حلمه باستعادة ما يتوهّمه «ملك الآباء والأجداد» لم تكن لديه أدنى فكرة عن الدولة، بالمعنى الحديث، فضلاً عن الوطن/ الأمّة. وكان يعمل منذ اللحظة الأولى على استخدام كل مصادر قوته لبناء كيان سلطاني لعائلته، مشفوعاً بمبرّرات تاريخية وقبلية وإيديولوجية. أي الاستعانة بكل ما هو بدائي وما قبل دولتي لبناء نقيض الدولة الحديثة (بصرف النظر عن إيماننا بها) والقائمة على أساس مبدأ المواطنة بمستوجباتها السياسية والاقتصادية والثقافية (الهويّاتية). في الواقع، كان تصوّر عبد العزيز عن الدولة مطابقاً للنظرية السياسية التقليدية عن جوهر الدولة المتمثّل في «شخص يأمر والآخرون يطيعون»، أي من يتصدّر القيادة ومن عليه واجب الانصياع، أو بصيغة مختصرة: ثنائية من يحكم ومن يخدم.
كان يصدر عبد العزيز في ممارسة السياسة عن مبدأ تقسيم المجتمع إلى حلفاء وخصوم، أو بتعريف كارل شميت للسياسة بأنها القدرة على التمييز بين العدو والصديق. وكان له في ذلك فلسفة خاصة في السلطة، المناقضة لفلسفة الدولة ذاتها. وكان مفهوم الوطن بكل اشتقاقاته (المواطن والمواطنة والوطنية) يلفّه الغموض، بل كائناً منبوذاً، سياسياً من السلطة نفسها التي كانت تفضّل مفردة «رعايا» و«رعيّة» (المستعارة من التراث الملكي البريطاني) على مفردة مواطنين، بكل مستوجباتها السياسية والاقتصادية والثقافية، ومنبوذاً إيديولوجياً من المذهب الوهابي الرسمي الذي كان يرى في الوطن «وثناً» يُعبد من دون الله، في مقابل دولة الموحّدين.
كانت سرديّة الوطن من السرديات المسكوت عنها، التي يُراد إبقاؤها في دائرة اللامفكر فيه والتابو. ومنذ الإعلان الرسمي عن المملكة السعودية في أيلول 1932، كان تقسيم السكّان على أساس انتماءاتهم الفرعية: المذهبية والمناطقية والقبلية في مقام القانون الشفهي الذي يكسو سياسات الدولة. ليس المذهب الوهابي الرسمي من اخترع تلك القسمة، ولا يحمل وحده وزرها، في سياق محاولات ابن سلمان التنصّل من تركة التكفير في مملكة آبائه وأجداده. فلا تزال الآثار التي تركها ثالوث الوهابية (التكفير والهجرة والجهاد) باقية في النظام السعودي حتى اليوم، وتعكسها الصحف المحلية بين فترة وأخرى في مقالات بأقلام الأمراء وكتّاب النخبة النجديّة بشقّيها الديني والليبرالي.
في مستوى السلطة، لا يحكم ابن سلمان بملء جدارته الذاتية، وإنما بحكم فائض القوة التي حصدها ابن سعود في معاركه، وتوارثها أجيال آل سعود في الدولة. سياسات التمييز على خلفية مذهبية ومناطقية وقبلية لا تزال سمة النظام السعودي، ومفاعيلها في الجهاز البيروقراطي غير مستورة، وتترجم في أنماط العلاقة، والتصوّرات حيال الذات والآخر (وحتى رموز المناطق تعكسها: الرياض 01 والجنوب 07 وما بينها).
حين ننقّب في تراث الدولة السعودية، قبل وبعد الإعلان الرسمي عنها سنة 1932، لن نعثر على إشارة، وإن مهملة، توحي بأن الشيعة، شأن الصوفية والإسماعيلية وحتى الحنبلية غير الوهابية في هذه البلاد، كانوا جزءاً من نسيج (وطن). على الضد، فقد جرى التعامل معها من خلفية خصامية. فمقاربة المسألة الشيعية كانت إشكالية: كانت في مظهرها عقدية، كما توحي فتوى العلماء في مؤتمر الرياض سنة 1927. وكان السياسي هو صانع المشكلة وراعيها. ينقل أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» ص 548 - 585 حين سأل عبد العزيز: هل ترون أن من الواجب الديني محاربة المشركين حتى يدخلوا في دين التوحيد؟ فأجاب عبد العزيز على الفور: «لا، لا». وضرب بعصاه ثم قال: «هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفاً من أهل الشيعة، وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد». أعاد الريحاني طرح السؤال بصيغة أخرى: هل ترَون من الواجب الديني، وهل ترون من الواجب السياسي أن تُحاربوا المشركين حتى يدينوا؟ فأجابه ابن سعود قائلاً: «السياسة غير الدين، ولكننا أهل نجد لا نبغي شيئاً لا يحلّله الدين. فإذا حلّل الدين ما نبغيه فالسياسة التي نتخذها لتحقيقه محلّلة. وإذا عجزت السياسة فالحرب، وكل شيء في الحرب يجوز».
ذكر ابن سعود نجد ليس عفوياً، بل يبطن التأسيس العقدي للوهابية في تقسيم المناطق على أساس: دار إسلام ودار شرك وإلحاد. ولذلك، فإن مبدأ الأقلمة الذي يُعاد إدماجه في «نظام المعنى» السعودي الوهابي يبطّن توجيهات إيديولوجية تعبوية لتمييز المقاتلين أنفسهم عن غيرهم، أي بناء صورة الجماعة عن ذاتها ولذاتها. فنجد تمثّل دار الإسلام وما سواها يقع في خانة دار الكفر، ويجب «فتحها» عنوة.
النزعة التكفيرية لدى عبد العزيز، وهي مكوّن أساس في تصوّره الكوني، لا تقتصر على طائفة بعينها، بل تمثّل رؤية سياسية إمبريالية برافعة عقدية، ولذلك تكتسب جميع المناطق المستهدفة وقاطنيها صفة الكفر، لتبرير غزوها، وإعلان الجهاد عليها، وإنّما صمّم التكفير لهذه الغاية، كما يقول علي الوردي.
ينقل جون حبيب، مستشار ابن سعود، أنه أذكى «الروح القتالية عن عمد في الهجر - مواطن القبائل الموالية له - إضافة إلى أن التّلقين الديني ركّز على مهمة مقاتلة الكفّار». ولم يقصد بالكفّار شعوباً أخرى، بل هم سكّان الجزيرة العربية: «فإن الكفّار الذين شجّع ابن سعود الإخوان على قتالهم يمكن أن يكونوا هم المسلمون غير الوهابيّين في كل من الحجاز وعسير» (جون حبيب، ص 53).
لم يكن لدى عبد العزيز مشكلة مع أتباع الأديان الأخرى، المسيحيّة على وجه الخصوص، ليس لسجيّة تسامح نشأ عليها، إنما لأنهم يقعون خارج المشروع التوسّعي الإمبريالي الذي رسمه لنفسه أيام منفاه في الكويت وأعانه عليه أمير الكويت، وأيضاً لحاجته لدعم الإنكليز (النصارى) في حروبه ضد خصومه المحليّين (المسلمين). ينقل جون فيلبي خلاصة الحوار الذي دار بينه وبين عبد العزيز في صيف 1918 وقال فيه الأخير: «إذا قدّمت أنت الإنكليزي ابنتك لي كزوجة سأتزوجها ولا أشترط إلا أن يكون أولادي مسلمين، ولكنّي لا أتزوج ابنة الشريف ولا بنات أهل مكة ولا غيرهم من المسلمين الذي نعتبرهم مشركين» (جلال كشك، «السعوديون والحل الإسلامي»، هامش ص 408).
هذه الرؤية الكونيّة لدى ابن سعود فرضت نفسها على صيرورة الدولة السعودية حتى اليوم. فلا جهود، من أي نوع، قام بها ابن سعود لتحقيق مبدأ الاندماج الوطني، بهدف تدارك الهوّة الواسعة التي حصلت بإقامة دولة حرب غير مؤنسنة ولا عقلانية، وتالياً استيعاب المكوّنات السكانية في مشروع الدولة - الأمة. في النتائج، بقيت أزمة الدولة وهويتها عميقة الجذور ولا تزال.
تجربة الحوار الوطني التي انطلقت في عهد الملك عبد الله على خلفيّة تداعيّات هجمات 11 أيلول لم تضع نهاية لتاريخ الواحدية في هذا البلد المؤسَّس على المصادرة


وإذا كان التعليم هو المصنّع الأول للهوية الوطنية، فإن المنهج الديني في التعليم الرسمي كان منذ بداية إقراره يحقق وظيفة عكسية. ومطالعة في منهج «كتاب التوحيد الذي هو حق على العباد» لمؤلفه محمد بن عبد الوهاب، مؤسس المذهب، والمفروض على كل مراحل التعليم الرسمي، تبدو أزمة الهوية مستفحلة. على سبيل المثال، في كتاب «التوحيد» للصف الثالث الثانوي لسنة 2014، وينطبق على كل النسخ الأخرى منه للمراحل الدراسية كافة، لا يبدأ الكتاب من صفات المؤمن، في بلد ليس فيه من السكّان الأصليّين من غير المسلمين، بل يبدأ في الوحدة الأولى من استعراض صور الشرك والنفاق والكفر والردّة ويختم بإصدار حكم بالتكفير، على من تنطبق عليه مواصفات كل منها وهم أغلبية السكان في الجزيرة العربية.
كان يتم تدريس الطلّاب الشيعة والصّوفية والإسماعيليّة بأنهم على ضلال، وتنطبق عليهم أحكام الردّة. في عهد الملك عبد الله، بدا أن مساراً تصحيحيّاً في الخلل التاريخي الذي بدأته الدولة السعودية، بثنائية ضدّية: «وحدة السلطة» و«تقسيم المجتمع». بدأ إقرار مادة «التربية الوطنية» في منتصف التسعينيات، وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، خضعت السعودية تحت ضغوطات من حليفها الأميركي من أجل تصحيح المناهج الدراسية، ولا سيما المواد الدينية («التوحيد» على وجه الخصوص). تمّ تكليف لجان لهذا الغرض، وجرت مراجعات متسلسلة في 2005، و2007، 2009/2010 وآخرها كان في 2017 ربطاً برؤية السعودية 2030.
في المراجعات الأربع الأولى، لم تحقّق عمليات التصحيح الغرض المطلوب منها، إذ كان يستبدل الضمني بالصريح، والمجازي بالحقيقي، في إطلاق أحكام التكفير على الأديان والمذاهب.
أثبتت تجارب تصحيح المناهج، أن المراجعة لا تبدأ من المقرّرات الدراسية بل لا بد من ثورة في الرؤى المؤسّسة، الإيديولوجية والثقافية. في مثال مكتظ بدلالات جمّة، إن كتاب «العلوم الإسلامية» الذي تم سحب جميع نسخه من المدارس، كان يحمل على غلافه، وعلى نحو عفوي، صورة رجل دين شيعي، المصنّف بأنه من الفرق الضالة. في المقابل، ظهر شعار داعش على كتاب ديني آخر، ولم تقدم وزارة التعليم على خطوة مماثلة، أي سحب الكتاب، وبرّرت ذلك بأنّه «ختم الرسول»، مع أن هناك ختماً آخر بالإمكان استبداله لإحباط فرص استغلاله بطريقة سيئة. شعار مثل هذا في كتاب مدرسي يترك انطباعاً مفاده أن وزارة التربية والتعليم المعنية بتربية النّشء باتت قناة نموذجية للترويج لشعار تنظيم إرهابي.
لناحية مقرّر «التربية الوطنية» للصف الثالث الثانوي الرسمي، والذي تم إدخاله في المنهج الدراسي في المرحلة الأولى، يمكن للطالب أن يعثر فيه على كل شيء باستثناء الموضوع نفسه. يستهل الكتاب بفصل عن مكانة المملكة السعودية في العالم الإسلامي، وفي تأسيس عدد من الهيئات، وفي التنمية، وعن الجهاد والدفاع الوطني بما يحوياه من حب الوطن، ومراتب الجهاد، والجهاد وبناء الدولة الإسلامية، والقوات المسلحة، لينتقل الحديث عن ولاة الأمر ولزوم طاعتهم، ثم التنمية والإنتاج الوطني، والعمل وأهميته واحتياجاته، والعمل التطوّعي، وتقنية الاتصال.
كما يظهر، تشكّل كل فقرة في الكتاب مفترق طرق، تلتقي عندها خلفيات إيديولوجية وترفع درجة التحفّز لدى الطالب بحسب تكوينه الفكري والاجتماعي. فخذ إليك نصّاً تحريضياً في الدرس الخامس من الكتاب بعنوان «تعريف الجهاد ومراتبه»، ولك تخيّل الأثر المباشر الذي ينعكس في المدارك الذهنية لدى الطالب: «وتكون مجاهدة الكفار عن طريق القتال بالسلاح المادي. وأمّا المنافقون فلا بد من مقارعتهم بالحجة والبيان، وكشف أساليبهم وتعريتها أمام الناس، وإبعادهم عن مراكز التحكّم في العباد، وهم أكثر خطراً على المسلمين، حيث أنهم من أبناء جلدتهم. وأمّا أهل المنكر والفسق فتكون مجاهدتهم باللسان واليد والإنكار عليهم بعد أمرهم بالمعروف».
لو وضع هذا النص في سياق فتاوى التكفير الصادرة بصورة فردية أو جماعية ضد أي مذهب من مذاهب السكّان، ماذا تكون النتيجة؟ وهل يمكن تخيّل تنشئة وطنية يكون أساسها تكفير المواطنين، بما تنطوي عليه من نتائج وخيمة، وتؤسس لثقافة الحرب الأهلية؟
سنجد تفاصيل مملّة مماثلة في كتاب «الوطنية ومتطلباتها في ضوء تعاليم الإسلام» لأستاذ التربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الحقيل، المقرّ منذ سنة 1993. والكتاب لا يزال معتمداً ضمن قائمة الكتب المقترحة للقراء في عدد من المؤسسات التعليمية الرسمية، وضمن المكتبة الأمنية أيضاً. يبدأ الكتاب، وهو بالمناسبة جزء من سلسلة كتب التربية الوطنية، بمفاجأة مذهلة حين يقرّر بأن التربية الوطنية الحديثة تتعارض مع الانتماء إلى أمة الإسلام، لأنها «تقسّمهم إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم...». إذاً ما هي التربية الوطنية المطلوبة؟ يقول ما نصّه: «أمّا الوطنية التي ندعو إليها المستمدة من تعاليم الإسلام فتهدف إلى تقوية الرابطة بين مواطني هذا البلد الأمين وإرشادهم إلى استخدام هذه التقوية لبناء هذا البلد الأمين والدفاع عن كرامته ومقدّساته، وفي هذا الخير كل الخير للإسلام والمسلمين». إذاً هي وطنية ذات شروط خاصة لا تنطبق سوى على الدولة السلفيّة. وهذا بالدقّة ما كشف عنه تصريح لولي العهد ووزير الداخلية السابق الأمير نايف بن عبد العزيز في 23 أبريل 2003 جاء فيه: «إن المملكة دولة سلفية، وإننا لا نتردد أو نتحفّظ بالتأكيد على أننا دولة ذات منهج سلفي»، وأعاد التصريح ثانية في 26 تشرين الثاني 2008 بقوله (نعم الدولة سلفية).
لم يطّلع المشتغلون على إعداد منهج التربية الوطنية على نظيره في الدول الخليجية المجاورة (الكويت مثالاً) أو في الدول العربية مثل لبنان، فضلاً عن الدول الأوروبية. تؤلّف هذه المناهج رؤية بالتاريخ الذي يصنع، وتزوّد الطالب بجرعة معرفية مكثّفة عن تكوين الدول، وتشكّل الأمم، والنظم السياسية، والدستور، وطبيعة العلاقة بين السلطات الثلاث (تعاون، جمع، فصل)، وحكم القانون، ودور مؤسسات المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، والأحزاب السياسية.
في هذه الديار، ثمّة هستيريا ساذجة، وأحياناً بلهاء، تهدف إلى ترسيخ سلطة آل سعود بطريقة إكراه ثقافي بدائي النزعة واللغة. وبعد كل ذلك اللت والعجن، تبيّن أن بذرة الوطنية فاسدة، قبل أن يتوارى مجرّد العلم بوجودها لدى المعلّم والطالب معاً.
في تشرين الأول 2004، تساءل الملك عبد الله (إبان توليه منصب ولي العهد) عن ضعف الإحساس بالوطن لدى التلاميذ، وعن سر غياب حب الوطن. وقد سمع من مسؤولي التعليم أموراً شتى، ليس من بينها حب الوطن، وحسب قوله: «ما سمعت شيء، وهو غرس حب الوطن في أبنائكم التلاميذ... ما سمعت هذه منكم كلكم... سمعت مطالب فقط وهذه - أي حب الوطن - أهم شيء).
تلخّص هذه الكلمات الحاصل النهائي ليس لمفاعيل برنامج التربية الوطنية فحسب، بل ولصيرورة الدولة برمّتها، فهي تنطوي على اكتشاف حقيقة مريعة: أن هذا الوطن لم يولد بعد حتى يحظى بالحب والرعاية، ولا يمكن لمشاعر الحب أن تتشكل إزاء شيء معدوم، فقد يتبرعم إحساس من نوع ما إزاء شخص أو مكان أو قضية حتى في الطور الجنيني من دورة تكوينه، ولكن أن ينال كل الحب فذلك طراز من الرومانسية ليس مألوفاً في عالم يسارع في تظهير مخابئه. من جهة ثانية، إن الوجدان الإنساني يتعامل مع الأشياء من حوله بطريقة تدرّجية، وفي الوقت نفسه غير إكراهية، أي أن حب الوطن يتشكّل من وشائج معقّدة تاريخية ولغوية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية. وليس هو «حبّة بعد/ أو قبل كل وجبة» فيصبح الفرد في نهاية الكورس العلاجي عاشقاً لوطنه.
أليس ثمّة ما يدعو لوقفة قبل السير في عراء المفاهيم، إذ إننا قد نتحدث، أحياناً، عن شيء مختلف فيه وحوله، لا سيّما بالنسبة إلى أولئك الذين أسبغوا معانٍ مواربة قابلة إمّا للتوظيف متعدّد الأغراض، بحيث يضيع البعد المعياري الذي يمكن الاحتكام إليه، وإمّا خنقه بما لا مجال فيه للتنفّس إلا من قناة ضيقة. مثال ذلك المواطنة، التي لا تعدو، في عرف أهل السلطة، سوى الامتثال لقوانين الدولة وإظهار الولاء للسلطة، والبراء من خصومها الداخليّين والخارجيين. ولكن هل من يحيلنا إلى مرجعية علمية أو وثيقة دستورية، أو حتى مصدر في الفلسفة السياسية القديمة والحديثة كيما نتوثّق من هذا التعريف؟
أوليست المواطنة تدور حول محاور ثلاثة: حقوق، واجبات، امتيازات. فالمواطنة تملي وضعاً قانونياً يكفل حقوقاً مدنية وسياسية واجتماعية، بمعنى أن المواطن حرّ في التصرّف بما يملك وعلى الدولة توفير الحماية القانونية له. والمواطنة أيضاً تجعل منه فاعلاً سياسياً في الحياة العامّة، أي في كل ما له صلة بشؤون الدولة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وهذا يستتبعه ترشيح المواطن نفسه أو انتخاب من يمثّله في أجهزة الدولة. وهناك جانب آخر ذو صلة بالبعد الاجتماعي، أي العيش ضمن معايير مقبولة في الحياة الكريمة، بما يجعل المواطن شريكاً أساسياً في ثروات بلاده، وعلى الدولة ليس مجرّد ضمان شراكته فحسب، بل وحمايته من العدوان الداخلي أو الخارجي. وتستوعب المواطنة في بعدها الاجتماعي الحقوق (الحياة الكريمة، الأمن، الحماية، المساواة، العدل)، والحرّيات (الحرّية الشخصية)، والخدمات (التعليم، الصحة، توفير الماء والكهرباء... إلخ).
حين يتم تعريف المواطنة تعريفاً علمياً صحيحاً يتعارض مع «التعريف الموجّه» (أو بالأحرى المشوّه) لدى أهل الحكم، تصبح المواطنة، كمضمون، نقيضاً موضوعياً لتكوين السلطة وأساسها الإيديولوجي. ولا شك أن تعريفاً كهذا ليس ممقوتاً فحسب، بل ومحارباً من قبل طائفتين: الأمراء والعلماء السلفيين.
تجربة الحوار الوطني التي انطلقت في عهد الملك عبد الله على خلفية تداعيات هجمات الحادي عشر من أيلول وانعقاد سلسلة من الجلسات بعناوين متعدّدة لم تضع نهاية لتاريخ الواحدية في هذا البلد، المؤسَّس على المصادرة بكل أشكالها: السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية. مثّل الحوار الوطني أولى الخطوات نحو فهم المشكلة ليس إلا، وكان يجب أن تبدأ الدولة بمرحلة تعديل شامل لميزان القوى الداخلي، عبر مشروع إدماج سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي. وهذا ما تمّ إغفاله عن سابق إصرار، فالحوار لم يبتغي وطناً يراد استيلاده، وإنما معالجة لمشكلة السلطة المنقلبة على وطنها المزعوم.
وبالانتقال إلى ما سمّاه فريق الدعاية العرب والأجانب «ثورة من أعلى» بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان، في «رؤية السعودية 2030» والمصمّمة لإحداث تغييرات بنيوية في الدولة والمجتمع، وعلى الرغم من كثافة الصخب الإعلامي، فإن هذه الرؤية لا تزال عاجزة عن إحداث التغيير الجوهري في البنى الفكرية والسياسية لدى أهل السلطة. فلم يحدث أدنى تغيير في البنى الفوقية، أي على مستوى المشاركة الشعبية، انطلاقاً من عملية إدماج حقيقي وواسع: بدءاً بالسياسي ومروراً بالاقتصادي وانتهاء بالاجتماعي والثقافي والفني. على الضد، إن المراكمة التصاعدية للسلطة وتركيزها في يد ابن سلمان جعل إمكانية الانتقال السياسي مهمّة إعجازية. فالدولة الأتوقراطية التي تبنى منذ سنوات برعاية الملك سلمان ليست مسبوقة، ولا نظير لها حتى في زمن الإمبراطوريات الكلاسيكية. وكما أغفل أهل السلطة المقدّمات الإلزامية لبناء دولة وطنية، فإن التشبيك مع منتجات العولمة والتموضع كونياً، مع إغفال تأثيراتها على الهوية الوطنية، كما على السيادة، يعيد إنتاج أزمة الكيان ولكن في شكل آخر.
لقد أصاب العقم المفهومي الدولة نفسها، فلم تعد الممثّل المؤسسي للمجتمع، ولا أداة لتنظيم المصالح العمومية، بل تحوّلت بفعل اختلال الوظائف المرسومة لها في الأصل إلى أداة لتعطيل المصالح، وقوة قامعة في الداخل وهشّة أمام الخارج. وفي الخلاصة، فإن أزمة هوية الدولة السعودية هي أزمة أنطولوجية ارتبطت بالمعاني التأسيسية لوجودها، والمعالجة لا تبدأ بتغيير الألوان بل بتبديل الأبدان.
* باحث من الجزيرة العربية