يحسب كثيرون في لبنان، عن سهو أو عن خطأ أو عن غرض (تحت تأثير حملة إعلامية ضارية متصاعدة ومتواصلة «من المحيط إلى الخليج»، وأزمة اقتصادية مالية معيشية طاحنة)، أن الولايات المتحدة تدير في لبنان معركة ضد الفساد وسوء استخدام السلطة. هؤلاء يدافعون، وبشكل متوتر غالباً، عن أن واشنطن قد أضحت، من خلال إجراءاتها ومواقفها المباشرة في بلدنا، حليفاً طبيعياً لقوى التغيير والثورة ضد المسؤولين عن الأزمة.يأخذ بهذه الرواية، أيضاً يساريّون مستقلون وحزبيون حاليون وسابقون، من بينهم مسؤولون ضمن التصنيفات المذكورة آنفاً. يتبنى معظم هؤلاء، وبحماس شديد، سردية الإعلام المهيمِن والمموّل من قبل واشنطن وحلفائها. يحرصون، أيضاً، على إضفاء طابع يساريّ على سرديتهم، واتهاميّ ضد كل من لا يشاركهم تحولهم الجديد هذا!
تبنّي الرواية الأميركية يقود تلقائياً إلى تبني الأولويات الأميركية في لبنان. أبرز تلك تحويل شعار «كلن يعني كلن» إلى «كلن يعني واحد منن». هذا الواحد هو ثنائي «مار مخايل»، أي حزب الله والتيار العوني. طبعاً، المستهدف الرئيس هو المقاومة ضد العدو الصهيوني. أمّا التيار العوني فاستهدافه بسبب تحالفه مع حزب الله ولمنعه من المضي في هذا التحالف، في المرحلة الراهنة التي تريدها واشنطن وحلفاؤها حاسمة لمصلحتهما بشكل مصيري.
واشنطن باتت، خصوصاً في العقد الأخير، ذات خبرة كبيرة في تحويل الأزمات، حتى لدى حلفائها، إلى فرص. حصلت أزمات في مصر وتونس وسوريا واليمن والمغرب وليبيا والجزائر والسودان. وقد حصدت واشنطن وتل أبيب، بالنتجة، مكاسب كبيرة: هذا ما تجري محاولته في لبنان، منذ سنتين، بالاستفادة من فساد الطبقة الحاكمة ومن نتائج نهبها للبلد وللمواطنين بشكل كوارثي غير مسبوق!
في السياق، ماذا فعلت وتفعل واشنطن في لبنان أثناء أزمته المتمادية؟ نتوقّف، كمثال، عند محصّلة أخيرة، أوجزها قبل أيام وزير الطاقة، بشيء من الخيبة والحذر. مفاد ذلك بأن نسبة التغذية بالتيار الكهربائي قد ترتفع في أواخر الشهر المقبل إلى حدود ست ساعات يومياً إذا... نُفّذت الوعود. أسباب الخيبة عديدة من بينها، طبعاً، استمرار تعثّر الأداء الرسمي اللبناني. لكن أهم سبب فيما يتصل بالموعد المذكور، هو عدم وفاء واشنطن بإزالة العقبات (الأميركية أساساً) التي تمنع تصدير الغاز المصري إلى لبنان وتزويد بيروت بطاقة كهربائية أردنية. تردّد مراراً أن مصر أبلغت الطرف اللبناني بعدم اتخاذ واشنطن قراراً رسمياً بعد بإجازة تصدير الغاز إلى لبنان عبر الأراضي السورية. الحكومة السورية، كما يعلم الجميع، أبدت كل استعداد سياسي ولوجستي لتأمين وصول الغاز والكهرباء عبر أراضيها وشبكاتها. وهي سارعت إلى إجراء التأهيل الضروري، لهذا الغرض، وتكاد تنجزه خلال فترة قصيرة لا تتجاوز أواخر الشهر الحالي.
ببساطة قصة واشنطن، بهذا الصدد، معروفة ومكشوفة. هي تصرّفت بهلع حيال إعلان وصول المازوت الإيراني، بعد أن تهيّبت، هي وتل أبيب، مضاعفات محاولة منعه، بالقوة، من الوصول! السفيرة الأميركية التي تدير الشق الخدماتي من سياسة بلادها، بالمنح أو بالمنع، سارعت (وتسرّعت!) إلى الإبلاغ عن استعداد حكومة بلادها لتسهيل مرور الغاز المصري والكهرباء الأردنية في الأراضي السورية وتجاوز عقوبات «قانون قيصر» في هذا الصدد.
نُذكّر بأن السلطات الأميركية كانت أعلنت شبه مقاطعة رسمية شاملة للسلطات اللبنانية، إلا في ما يتصل باستكشاف إمكانية إجراء محادثات شبه مباشرة وتطبيعية بين لبنان وتل أبيب (بشأن الحدود البحرية، بوساطة «نزيهة» وحصرية أميركية، وباستغلال الأزمة الطاحنة اللبنانية، وعبر ممثل لواشنطن كان، في نسخته الأخيرة، إسرائلياً صافياً!). مقاطعة الطرف الرسمي اللبناني حلّت مقابلها علاقات، غير مألوفة في علاقات الدول، مع المؤسسة العسكرية وتنظيمات غير رسمية قائمة أو مستحدثة.
تباعاً، في السنتين الأخيرتين، تبلورت خطة واشنطن، باعتماد ركيزتين: الأولى تصعيد وتعقيد الأزمة الاقتصادية المالية المعيشية الصحية التربوية. والثانية، حصر المسؤولية عنها بفريق من السلطة دون سواه من المسؤولين الأساسيين في نظام ومنظومة المحاصصة القائمَين والمترسّخين منذ عقود، وبرعاية ودعم من الإدارات الأميركية المتتابعة، وخصوصاً في الشأنين الاقتصادي والمالي المصرفي. هنا كان لواشنطن ممثلون مباشرون يديرون نموذجاً وسياسات، ويشغلون مواقع مقررة، أبرزهم الحاكم بأمره رياض سلامة! سياسة واشنطن ليس فقط لن تساعد في حل أو حلحلة الأزمة، بل هي تعفي المرتكب الأكبر من جريمته: نظاماً ومنظومة.
واشنطن، بذلك، تغذي الأزمة وتعمّقها وتضاعف ضحاياها، كمّاً ونوعاً، أي هي تستغل أزمات، هي شريكة أساسية في حصولها، وفي تفاقمها من أجل أهدافها في لبنان والإقليم والتي تخدم حلفاءها وتابعيها وخصوصاً منهم العدو الصهيوني. في السياق يمكن التأكيد بالنسبة إلى واشنطن، وعبر المماطلة والتأجيل (في حقل الكهرباء) والضغوط والشروط في برنامج «البنك الدولي»، أن واشنطن توظّف ذلك وسواه: كمّاً ونوعاً وتوقيتاً، في خدمة أهدافها، وليس لتلبية بعض الحاجات الملحة للبنانيين!
بعد تراجع وفشل الضغوط في الشارع (بما في ذلك تشجيع الفوضى والحوادث الأمنية)، يتركز تعويل واشنطن وحلفائها، في هذه المرحلة، على الانتخابات البرلمانية. تدير سفيرتها في لبنان فيلماً هوليوودياً مملاً وطويلاً، عبر مخاطبة وتمنين اللبنانيين بمساعدات رمزية هي أقرب للرشوة الصريحة. هذا فيما تغدق واشنطن، كما ذكر ممثلوها، مئات الملايين على جمعيات مدنية وغيرها من أجل تنفيذ خططها في لبنان وسواه. حتى الأمين العام للأمم المتحدة زار لبنان، دون مبرر منطقي، ودون دعوة، حيث بقي ثلاثة أيام كاملة لينتهي إلى القول: «الانتخابات هي مفتاح الحل بعدما ارتفع معدل الفقر إلى 82%»! ألم يكن الأحرى به أن يطالب برفع العقوبات ويستحثّ الدول على تقديم المساعدة العاجلة للشعب اللبناني؟ أو أن يطالب واشنطن بوقف تدخلها في الانتخابات ما يحول دون أن تكون «نزيهة» إلا بمواصفات «النزاهة» الأميركية في المفاوضات مع العدو؟! هذا فضلاً عن أن خطة واشنطن اللاحقة، في كل الاحتمالات، تتطلّب حجماً كبيراً من العنف والفوضى والتقاتل.
بيد أن لبنان منكوب بحكامه بالدرجة الأولى. وهو أساساً منكوب بنظامه السياسي الذي هو ثمرة قرار استعماري بفرض تقسيم دولي للعمل يُخضع بالتبعية والهشاشة المستعمرات السابقة، ويضعفها بالتفتيت على أساس قومي أو عرقي أو طائفي أو مذهبي. هؤلاء الحكام تفتقر أكثريتهم الساحقة إلى أي شعور بالمسؤولية الوطنية. هم يندفعون الآن في صراع مرير، فئوي ومشبوه أحياناً، بما يخدم الخطة الأميركية نفسها! هذا فيما تكتوي الأكثرية الساحقة من اللبنانيين بنار الإفقار والغلاء والخراب والإفلاس. أمّا القوى الوطنية فتراوح في عجزها المدمّر عن الحضور والتأثير والفعل!
بين سندان المنظومة ومطرقة الاستغلال الأميركي والصهيوني والرجعي العربي، يواجه لبنان أخطر اختبار منذ تأسيسه.
* كاتب وسياسي لبناني